مَسائل حديثية (50):
اتّهامُ ماريةَ القبطيّة!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحد الإخوة أصدقاء
صفحتي على الخاصّ حديث اتّهام مارية رضي الله عنها، وقال: «هل لكم تعليق على هذا
الحديثِ، يختلف عمّا ذكره ابن حزم وابن تيمية، وابن القيم»؟
أقول وبالله التوفيق: سئلتُ عن
هذه القصّة مرّاتٍ عديدةً، وفي خَلَدي أنني نشرتُ عنها منشوراً، فكنت إذا سُئلتُ؛
أُحيلُ السائل على المنشور، إلى أنْ قال لي أحدهم: بحثت جميع منشوراتك على الفيس
والمدونة، فلم أجد لك تخريجاً لحديثِ ماريةَ هذا؟
فسألت الشيخ مالكاً القادريّ -
وهو يحتفظ بجميع منشوراتي تقريباً - فأرسل إليّ ما نشرتُه بهذا الخصوص، فكان
كلاماً فكريّاً، ليس له صلةٌ بالنقدِ الحديثيّ!
ولعلّ تخريجي للحديثِ أوّلاً،
ثمّ نقده ثانياً؛ هو الذي يوصلنا إلى نتيجةٍ مُرضيةٍ إن شاء الله تعالى.
بإسنادي إلى الإمام مسلم في
كتاب التوبة، باب براءة حُرَم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الريبة (2771)
قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنا
عَفَّانُ: حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ
رَجُلاً كانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسولِ اللهِ e فَقالَ رَسولُ اللهِ e لِعَلِيٍّ: (اذْهَبْ
فَاضْرِبْ عُنُقَهُ)!؟
فَأَتَاهُ
عَلِيٌّ، فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ:
اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ - لَيْسَ لَهُ
ذَكَرٌ - فَكَفَّ عَليٌّ عَنْهُ.
ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ e فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إِنَّهُ
لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ([1]).
مدار حَديثِ البابِ عَلى
أَنَسِ بْنِ مالكٍ، رَواهُ عَنهُ:
ثَابِتُ بنُ
أَسلمَ عِندَ أحمد (13989) و مُسلمٍ (4975) والحاكم في المستدرك (6902، 6903).
والزهريُّ،
عِندَ ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3129) والطبراني في المعجم الأوسط (3687).
قال الحاكم بعد روايةِ الحديثِ: وقال: «هَذَا حَدِيثٌ
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» قلت: بل أخرجه مسلم من
حديثِ عفّانَ نفسه!
وقد روى الحاكم في المستدرك أيضاً
(6823) عن العبّاس بن محمدٍ الدوريِّ قال: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ
مَعِينٍ، يَذْكُرُ حَدِيثَ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «أَنَّ أُمَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ تُتَّهَمُ بِرَجُلٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْرِبِ عُنُقِهِ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ».
قُلْتُ لِيَحْيَى: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: عَفَّانُ
عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ» وحمّاد يروي عن ثابت البناني، وهو أثبت الناس في
ثابت!
وقد تتبّعت روايةَ الزهريّ عن ثابتٍ، وروايةَ ثابتٍ
عن الزهريِّ، فلم أجد أحدهما روى عن الآخر، ممّا يؤكّد ثبوتَ الحديثِ عن أنس بن
مالك، من طريقيهما معاً.
وأخرج الطبرانيّ في
المعجم الكبير للطبراني (13: 58) و(14: 110) قصّة ماريةَ، من حديث عبدالله بن عمرو
الطويل عن عمر بن الخطاب، لكنّ في إسناده عبدالله بن لهيعة.
وأخرج الحاكم في المستدرك (4:
(6821) حديثَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، الطويلَ، رَضِيَ الله عَنْهَا، لكنّ في إسناده
سليمان بن أرقم، تفرّد به عن الزهريّ، وفيه زياداتٍ كثيرةٌ، لا تُقبَل من مثلِه.
فقد ترجمه البخاريّ في الضعفاء
(142) وقال: تركوه.
وفي ضعفاء أبي زرعة (99): ضعيف
الحديث، ذاهب الحديث.
وروى العقيلي في ضعفائه (2:
121) عن أحمد ابن حنبل قال: لا يساوي شيئاً، لا يُروى عنه الحديث!
وفي إتحاف المهرة لابن حجر (11: 614) قال: «حديثُ:
كَانَ يُذْكَرُ عَلَى مَارِيَّةَ فِي ابْنِ عَمٍّ لَهَا قِبْطِيٍّ ... الْحَدِيثَ.
من طريق ابْنُ جَرِيرٍ الطبريّ في تهذيب الآثار،
وَالرُّويَانِيُّ، قالا: ثنا أَبُو كُرَيْبٍ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، بِهِ» قَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا الْخَبَرُ
عِنْدَنَا صَحِيحُ السَّنَدِ».
ولم أقف على هذا الحديث في كتب الطبري المطبوعة،
ولا في كتب الرويّاني.
بيد أني وقفت عليه بتمامه في مسند البزار (634) وفي
زوائده للهيثميّ (1491) قال أبو بكر البزّار: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ: ثنا
يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وساق الإسناد بمثله إلى الإمام عليّ عليه السلام قال:
«كَثُرَ عَلَى مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ فِي قِبْطِيٍّ، ابْنِ عَمٍّ لَهَا،
كَانَ يَزُورُهَا وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا» وساق الحديثَ بتمامه، وسيأتي في أثناء
معالجة الحديثّ.
قَالَ الْبَزَّارُ: لا نَعْلَمُهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ، إِلا مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
قال عداب: قد حكم البزّار بأنّ هذا الإسنادَ وحده
متّصل؛ لأنّ أنساً وعبدالله بن عمرو وعائشةَ؛ لم يصرّحوا بسماعه من عليّ، ولأنهم
لم يسمعوه من عليٍّ؛ وقع في رواياتهم من القُصور والإرباك في متن الحديثِ؛ ما
سيأتي بيانه.
وهذا الحديث أخرجه مختصراً أبو
بكر ابن أبي خيثمةَ في تاريخه (2: (3861).
وأخرجه ابنُ منده في معرفة الصحابة
(ص: 973) وابن عساكر في تاريخه (3: 236) وأخرجه أحمد مختصراً في مسنده (628) من
طريق مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام.
وهذا وإن كان مرسلاً؛ لأنّ محمد بن
عمر لم يدرك جدّه عليّاً، إلّا أنّ حديثه متابعةٌ قويّة لحديث ابن عمّه إبراهيم،
إذ هو من تراثِ آل البيت، رضي الله عنهم.
وأورده ابن كثير في البداية
والنهاية (5: 304) وقال: رجال إسناده ثقات.
قال الفقير عداب: إسنادُ حديثِ
أنسٍ عند مسلمٍ؛ صحيح إلى أنس بن مالك، وشواهدُه الضعيفةُ هذه تزيدُه قوّةً عند
الذين يصحّحون بالشاهد الضعيف.
وحديثُ إبراهيم بن محمّد عن
أبيه، عن جدّه عليّ عليه السلام؛ هو عندي صحيح الإسناد، كما قال الإمامان البزّارُ
والطبريُّ، بل هو أحسن سياقةً من أحاديث أنسٍ وعائشة وعبدالله بن عمرو، مجتمعةً!
فما صحّ منها وما لم يصحَّ؛
فيه إشكالاتٌ عديدة!
لكنْ لأنّ مسألةَ «عدالة
الصحابة» تعني في حقيقةِ الأمر عصمةَ الصحابيّ أو تكاد، عند قومنا؛ فلا يمكن
للصحابيّ أن يكذبَ، ولا يمكن أنْ يحدّثَ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم
بحديثٍ لم يضبطه، حتى لو كان في الحديث إساءةٌ بالغةٌ تجاه الرسول نفسه؛ فلا مانع
لديهم من إطلاقِ احتمالاتٍ باردةٍ، وتأويلاتٍ بعيدة، حفاظاً لقداسةِ الصحابيّ!
قال الإمام أبو عبدالله
المازريّ (ت: 536 هـ) في كتابه المُعلم بفوائدِ مسلم (3: 342): «الظاهرُ أنّ
هذا الحديث فيه حذفَ بَسْطِ السبب!
فلعلّه ثبت عنده صلّى الله عليه وآله وسلّم
بِالَبِيّنَةِ مَا أوجَبَ قتلَه «فأمر عليّاً بذلك»!
فلمّا رَأى عليّ كَونَه مجَبوباً؛ أبقاه ليراجع
النبيّ فيه، ولم يُذكَر ما قال النبيُّ لعليّ، ولو ذُكر السّبَبُ الموجبُ لقتلِه،
وجوابُ النبي عليه السلام لعليّ؛ لعُلِمَ منه وَجهُ الفِقْه».
ونقل القاضي عياضٌ في إكمال
المعلم (8: 304) كلامَ المازريّ، ثمّ قال:
«قد نزه الله حرمة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يثبت شيءٌ من ذلك فى جهتها.
والخبرُ
المعلوم أنّه كان قبطياً، وكان يتحدّث إليها بحكم الجنسية «يعني هو من جنسها،
ويعرف لغتها» فتُكُلِّم فى ذلك، ولم يأت أنه أسلم.
وأنّ
النَبيَّ نهاه عن التَحدّث إليها، فلما خالفَه؛ استَحقَّ بذلك القَتلَ، إمّا
لمخالفته أمرَ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لتأذّيه بسببه، ومن آذى
النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ؛ مَلعون كافر يستحق القتل.
ويُحتمَل
أنّ النبىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ براءَتَه، وكونَه مجبوباً،
وأمر علياً بما أمَره به لمّا ذَكَر له هو أو غيرُه خُلُوَّه «بمارية» ليَتجلّى
أمرُه، وتَرتَفع تهمتُه.
ويُحتمَل
أنَه كان قد أُوحيَ إليه أنّ «عليّاً» لا يَقتله، وسينكشف له مِن حالِه ما يُبَيّنُ
أمرَه، وأنّه في الرَكِيِّ متجردًا، لا أنّه أمره بقتله حقيقة، بل قال له ذلك، وهو
يَعلم أنّه لا يَقتله لمّا يتبين له من براءتِه» هكذا هي الحال: «يُحتَملُ،
ويُحتَملُ، ويُحتَملُ!! ».
وقال
الإمام أبو العبّاس القرطبيّ في كتابه «المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (5:
145): «قوله في حديث أنس: (أنّ رجلًا كان يُتّهَم بأمِّ
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه مارية أمّ إبراهيم، وَلَدِ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يزورها رجل قبطي،
فتكلم المنافقون في ذلك وشنَّعوا، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل.
وهذا نحوٌ مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها الله
تعالى، وأظهر من حال المَرْمِيِّ بها أنَّه حَصور.
كلُّ ذلك مبالغةٌ في صيانة
حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهارُ تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: (اذهب فاضرب عنقه) في هذا اللفظ
إشكال، وهو: أنَّه كيف يأمر صلى الله عليه وسلم بضرب عنق هذا الرجل، ولم يكن هناك
مُوجِبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؟
ويَزولُ هذا الإشكالُ؛ بأنّ هذا الحديثَ رواه أبو بكر البزار، فَساق
فيه أكملَ من هذا وأوضحَ فقال فيه: عن علي بن أبي طالب «كَثُرَ عَلَى
مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ فِي قِبْطِيٍّ، ابْنِ عَمٍّ لَهَا، كَانَ يَزُورُهَا
وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا.
فَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُذْ هَذَا السَّيْفَ، فَانْطَلَقْ، فَإِنْ
وَجَدْتَهُ عِنْدَها؛ فَاقْتُلْهُ).
قَالَ
عليٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكُونُ فِي أَمْرِكَ إِذَا أَرْسَلْتَنِي
كَالسِّكَّةِ الْمَحْمَاةِ، لا يُثْنِينِي شَيْءٌ، حَتَّى أَمْضِيَ لِمَا
أَمَرْتَنِي بِهِ، أَمِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لا يَرَى الْغَائبَ؟
قَالَ:
(بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لا يَرَى الْغَائِبُ)!
فَأَقْبَلْتُ
مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَوَجَدْتُهُ عِنْدَها، فَاخْتَرَطْتُ السَّيْفَ، فَلَمَّا
رَآنِي أَقْبَلْتُ نَحْوَهُ؛ عَرَفَ أَنِّي أُرِيدُهُ، فَأَتَى نَخْلَةَ فَرَقَى،
ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ شَغَرَ بِرِجْلِهِ، فَإِذَا بِهِ
أَجَبُّ، أَمْسَحُ، مَالَهُ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، فَغَمَدْتُ السَّيْفَ!
ثُمَّ
أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِفُ عَنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ).
قال
القرطبيُّ: «فهذا يدلّ على أنّ أمره صلّى الله عليه
وآله وسلّم بقتلِ الرجلِ، إنَّما كان بشرط أن يجدَه عندها على حالة تقتضي قتلَه.
ولمّا فَهِمَ عنه عليٌّ ذلك؛ سأله، فبيَّن له بياناً شافياً، فزال
ذلك الإشكال، والحمد لله ذي الجلال.
ويُحتَمل أن يقال: إنّ ذلك خرج من النبيّ صلى الله عليه وسلم مخرجَ
التَغليظِ والمبالغة في الزجر، على موجِب الغَيرة الجِبِلِّيَّة، والأوّل أليَقُ
وأسلَمُ. واللهُ بحقائقِ الأمورِ أعلَمُ».
وكان كلامُ النوويّ في شرحه
على صحيح مسلم (17: 119) وجيزاً مقتضباً ببعضِ ما تقدّم!
وفي كتاب «زاد المعاد» لأبي
بكر ابنِ قيّم الجوزيّة الحنبليّ (5: 14) قال:
[فَصْلٌ: فِي حُكْمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنِ اتُّهِمَ بِأُمِّ
وَلَدِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ أَمْسَكَ عَنْهُ]
رَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ
وَابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ثابت، عَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، «أَنَّ ابْنَ عَمِّ ماريةَ كَانَ يُتَّهَمُ
بِهَا» وساقَ حديثَ أنسٍ المتقدّم في صدر المنشور، ثمّ قال: وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا
الْقَضَاءُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ!
وَلَكِنْ لَيْسَ فِي
إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ
الْقَتْلِ، إِنَّمَا أَرَادَ تَخْوِيفَهُ، لِيَزْدَجِرَ عَنْ مَجِيئِهِ إِلَيْهَا
- ماريّة - قَالَ: وَهَذَا كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
اخْتَصَمَتَا إِلَيْهِ فِي الْوَلَدِ: «عَلَيَّ بِالسِّكِّينِ، حَتَّى أَشُقَّ
الْوَلَدَ بَيْنَهُمَا».
وَلَمْ يُرِدْ سليمانُ أَنْ
يَفْعَلَ ذَلِكَ، بَلْ قَصَدَ اسْتِعْلَامَ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ
تَرَاجِمِ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: بَابُ الْحَاكِمِ يُوهِمُ خِلَافَ
الْحَقِّ لَيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ.
فَأَحَبَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِفَ الصَّحَابَةُ بَرَاءَتَهُ - يعني
المتّهَمَ - وَبَرَاءَةَ مارية، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَايَنَ السَّيْفَ؛ كَشَفَ
عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِ، فَجَاءَ الْأَمْرُ كَمَا قَدَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ
يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عليّاً رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ بِقَتْلِهِ تَعْزِيراً لِإِقْدَامِهِ وَجُرْأَتِهِ عَلَى خَلْوَتِهِ
بِأُمِّ وَلَدِهِ!
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لعلي
حَقِيقَةُ الْحَالِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الرِّيبَةِ؛ كَفَّ عَنْ قَتْلِهِ،
وَاسْتَغْنَى عَنِ الْقَتْلِ بِتَبْيِينِ الْحَالِ - للرسولِ صلّى الله عليه وآله
وسلّم - وَالتَّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ كَالْحَدِّ، بَلْ هُوَ
تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ دَائِرٌ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَماً».
أقول: أنت ترى أنّ ابن القيّم
لم يقف على حديثِ عليٍّ عليه السلام، في مسند البزار وغيره.
ختاماً: هذا الكلام الطويل
العريضُ؛ سببه استبعادُ أن يخطئ الصحابيّ في حفظ حديثٍ ما، وكأنّ العدالة هي
العصمة على الحقيقة!
والمَصيرُ إلى حديثِ إمامِ
المغازي محمّد بن إسحاق بن يسار المطّلبي مولاهم عن
إبراهيم بن محمّد بن عليّ.
وإبراهيم بن محمّد بن عليّ؛ لم
يرِد فيه جرحٌ، وروى عنه جماعةٌ، ووثّقه العجليّ في ثقاته (34) وترجمه ابن حبّان في
الثقات (6468) وقال ابن حجر في التقريب: صدوق.
وحديثُه هذا مستقيمٌ جميلٌ، ليس
فيه ما يُستنكَر أبداً، تابعه عليه ابنُ عمه محمد بن عمر بن عليٍّ، رضي الله عنهم.
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
([1]) مِن حَديثِ أَنَسِ بْنِ
مالكٍ، مَرفوعاً؛ انفردَ بهِ مُسلِمٌ عَنْ الستةِ، وعفّانُ بن مسلمٍ في جزئه (303)
ومن طريقه أخرجه أَحْمَدُ في باقي مُسْنَدِ المكثرينَ (21: (13989) وابن أبي عاصم
في الآحاد والمثاني (5/ 449) والطبراني في المعجم الأوسط (4: (3687) والحاكم في المستدرك (4: (6824) وابن عبدالبَرّ
في الاستيعاب (4: 1912)وانظر الجمع بين الصحيحين للحميديّ (2: (2141).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق