الخميس، 30 يونيو 2022

   اجْتِماعِيّاتٌ (94):

حَدّثوا الناسَ بما يَعرفونَ !؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

مَضى عليّ حينٌ من الدهر، كنتُ فيه غيرَ مقتنع بقول الإمام عليٍّ عليه السلام:

(حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أخرجه االبخاري في العلم (127).

وغيرَ مقتنع بقول عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أيضاً: (ما أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.

كنتُ أستبعدُ صدورَ هذا الكلامِ عنهما في عصر الصحابةِ الذين علّمنا شيوخنا أنّهم أذكياء جدّاً، وأهل لغةٍ عاليةٍ، وعلماء، وشجعان، وفرسان، حتى إنّ الإمام أحمد يقول: كلّ الصحابة مجتهدون، ولا أحبّ أن أخالف واحداً منهم!

لم يكن يخطر في بالي - وأنا صغير - أنه يوجد صحابيّ واحدٌ جبان، أو صحابيٌّ بخيل، أو صحابيٌّ يمكن أن يصافح امرأةً، فضلاً عن أن يكون زانياً بها!

قرأتُ في تلك الأيام كلمة للمأمون العباسيّ، انتقص بها مقام عبدالله بن عمر بن الخطّاب، فحكمت على المأمون بأنه كافر زنديق!

كنتُ على مدار حياتي ألاقي من زملائي اعتراضاتٍ عليّ، فكنت أقول: ربما الحسد، ربما النفاسة، ربما الشعور أمامي بالضعف!

ولم أكن أتصوّر أن يوجدَ إنسانٌ لا يفهم الكلامَ الذي يقرؤه، أو يسمعه!

كان شيخنا محمد الحامد - رحمه الله تعالى - ينهانا عن قراءة كتب السيّد قطب، ويعلّل نهيَه إيّانا بأن لغة السيد قطب أدبيّة عاليةٌ، وإمكاناتنا اللغوية والعلميّة قليلة، فربما فهمنا كلام السيد قطب - رحمه الله تعالى - خطأً!

فكنتُ أبحثُ عن كتبِ السيّد قطب، حتى إذا وجدتها عند أحدٍ؛ استعرتُها منه، فأقرأها ثم أعيدها إليه، من دون إخبار أحدٍ بذلك!   

وكانت الأمور التي لا أفهمها قليلةً جدّاً، فكنت أكتبها على دفتر الملاحظات عندي، وأسأل عنها شيخي الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى، أو شيخي الدكتور غسان حمدون، حفظه الله تعالى.

فقرأتُ جميع كتبَ السيّد قطب التي وجدتها في مدينة حماة، أكثرَ من مرّةٍ، في حياة شيخي الشيخ محمد الحامد (ت: 1969م).

عندما طبعتُ بعضَ كتبي؛ جاءتني بعض اعتراضاتٍ، لكنها كانت يسيرةً جدّاً!

عَقبَ انفتاح الناسِ على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ صار السبّ والشتم والقذف والتبديع والتضليل والتكفير!

وظللتُ أقول: لا بدّ أنّ الناس يفهمون، ولكنّ تعصّبهم لمعظَّميهم ولمذاهبهم؛ هو الذي يَقودهم إلى هذا، وليس لأنهم لا يفهمون!

لكنّ الذي تيقّنت منه في هذه الأيام؛ أنّ أكثر الناس لا يفهمون، إلّا ما هو متداوَل بين آبائهم وأمّهاتهم الجهّال والأميين؛ لأنّ هذا المتداوَل هو العقل الجمعي الذي يشترك في فهمه جميع الناس: العلماءُ والمثقّفون والعامّة، وهم لا يريدون أيَّ تصحيحٍ لهذا السائد الخاطئ!

عندما كنت أدرس على يدي شيخي محمد الحافظ التيجانيّ؛ كنت أستشكل كثيراً من الأحاديثِ في الصحيحين، وفي غير الصحيحين، وكنت أخبره بما يشكل عليّ، وعقب توضيحه المشكلَ أقول له: لم أقتنع بهذا الكلام، ولا أرى هذا الكلام صحيحاً أبداً!

ذات مرّةٍ سألته عن سبب تخريج البخاري أحاديثَ عاشوراء، بعضها عقب بعض، وهي متعارضة متضاربة؟

فقال لي: منهج المحدثين؛ عرض جميعِ ما لديهم في الباب، حتى لا يستدرك عليهم!

قلت له: هذا يعني أنّ بعض هذه الأحاديث ليس بصحيح!

قال لي: ربما بعضها صحيح، وبعضها أصحّ!

قلت له: لم أقتنع بهذا الكلام، فلا بدّ أنّ بعض هذه الأحاديث صحيح، وبعضها الآخر ضعيفاً!

فقال لي: عقلُك هذا سيتعبك، يا شيخ فيصل، حاولْ أن لا تقول هذا الكلامَ أمامَ الآخرين؛ لأنه ترسّخ في عقول الأمّة أن جميعَ أحاديث الصحيحين صحيحة!

قلت له: أنا لا يُهمني ما ترسّخ في عقول الناس، يهمّني أن أسمع منك ما يقنعني سيدي!

قال لي: اقرأ فتح الباري؛ سيفتح ذهنك أكثر، ويجيبك على كثيرٍ من الإشكالاتِ!

أشرفَ عليَّ أستاذي الدكتور أحمد محمد نور سيف أربعَ سنواتٍ في رسالة (الماجستير).

فكنتُ أكتبُ فصلاً من عشرين صفحةً، أو ثلاثين، أو خمسين صفحة، فيقرؤه، ثم يقول لي: لا تُدخل هذا الفصلَ في رسالتك!

وكان يفسّر كلامَه حيناً، وفي أكثر الأحيان لا يفسّر، وأنا أمتثل!

حتى حذف لي من رسالتي أكثر من (300) صفحة!

سألته مرّةً عن سبب هذا الحذف المتكرّر، فقال لي: يا شيخ عداب أنا وأنت حريصون على الإقامة في بلد الله الحرام، فلو أنت أبقيتَ هذه الفصول في رسالتك؛ فسينفوننا من مكّة المكرّمة، هذا إذا لم يفعلوا بنا أكثرَ من النفي!

هذه الفصول كلّها تخالف المستقرّ في عقولِ الناس، فأنصحك بأن تصبر على نفسك حتى تحصل على درجة الدكتوراه، ثم انشر ما تريد!

وقد غدوتُ على يقينٍ أنّ أمّةَ الإسلام لن تتوحّد حتى قيامِ الساعة!

وأنَّ أهل السنّة لا يريدون سوى الحقّ الذي يظنون أنّهم عليه!

وأنّ الشيعةَ الإمامية لا يريدون سوى الحقّ الذي يظنون أنّهم عليه!

ومثلهم الزيديّة، والإباضيّة، والإسماعيليّة، والدروز، والنصيريّة، وحتى الكفار!

وأهمّ من أديانهم ذاتِها؛ تعظيم معظَّميهم، والإبقاءِ على صفاتهم العنقاويّة اللازورديّة، حتى لو بيّنتَ لهم أنّ هذه المكتوباتِ كلها كذب بكذب!

قال الله تعالى:

(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام].

(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؛ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) [النمل].

وقال تبارك وتعالى:

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) [العنكبوت].

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) [النمل].

قال الزمخشريّ في تفسيره الكشاف (3: 348):

فإن قلت: كيف أسند اللهُ تزيينَ أعمالهم إلى ذاتِه، وقد أسند التزيين ذاته إلى الشيطان؟

قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقةٌ، وإسنادَه إلى الله عزّ وجلَّ؛ مجاز.

ولهذا المجاز طريقان، في علم البيان:

أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يُسمّى الاستعارةَ.

والثاني: أن يكون من المجاز الحُكميّ.

فالطريق الأوّل: أنه لما متّعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعامَ الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعةً إلى اتّباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الرَوْحَ والترفُّهَ، ونِفارهم عمّا يُلزمهم فيه من التكاليفِ الصعبة والمشاق المتعبة؛ فكأنه زيّن لهم بذلك أعمالَهم.

وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم، في قولهم: (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ).

والطريق الثاني: أن إمهالَه الشيطانَ وتخليَتَه، حتى يزينَ لهم؛ ملابَسةٌ ظاهرةٌ للتَزيين، فأسند إليه؛ لأنّ المجازَ الحُكميّ، يُصحّحه بعضُ الملابسات.

وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها؛ زيّنها لهم الله، فعَمَوا عنها وضلّوا).

قال عداب: المجاز الحُكميّ؛ هو المجاز العقليّ ذاته، ويسمّى المجاز الإسناديّ أيضاً.

ومفهومه باختصار: إضافةُ الفعلِ إلى ما ليس بفاعلٍ على الحقيقةِ.

ختاماً أمامَ كلّ هذا؛ فإنني حتى أستطيع إكمالَ رسالتي إليكم؛ سأغلق مجال التعليقاتِ عن الفيس بوك، كما هو مغلقٌ على المدوّنة، ثمّ ليشتمني الناس على صفحاتهم كما يشاؤون فأنا لا أزور سوى صفحاتٍ معدودةٍ، أقلّ من أصابع اليدين!

والله حسبنا ونعم الوكيل.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق