التصوّف العليم (9):
السادة الكسنزان من جديد!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عقب منشور اجتماعيات (35) الذي تحدّثت فيه عن مشروعية الاحتفال
بالمولد النبويّ الشريف، وذكرت جهود شيخي وسيّدي «محمد الكسنزان» رضي الله عنه
بهذا الشأن؛ عاتبني بعض الإخوة العراقيين؛ بأنّ الكسنزان كذا، وكذا، وكذا، وكذا!
من جنس التهم الستّ التي نقلها إليّ الدكتور عبدالحكيم السعديّ،
من أنّ عداب «رافضيٌّ،
زنديق، عميل للماسونية، والموساد، وإيران، والسعودية» وأنّ شيخَكم الحاضر «السيد
محمد نهرو» كذا وكذا وكذا !؟ «مما لا يليق سردُه».
أقول وبالله التوفيق:
صحبتُ الشيخ محمد بن عبدالكريم الكسنزان الحسينيّ البرزنجيّ
«قدّس الله روحه ونوّر ضريحه» من منتصف عام (1996) حتى الشهر الثامن، من عام
(2002م) باستثناء سنةِ (1999- 2000م) عشتها في عمّان، أبحث عن عمل!
في هذه السنوات؛ كنتُ قريباً من الشيخ كأولاده، وربما أسرّ إليّ
بأمورٍ، لا يقولها الوالد لأولاده عادة!
وكثيراً ما كنت أخلو بالشيخ، فيحدّثني عن سيرته وسيرة والده
الشيخ عبدالكريم الكسنزان رضي الله عنه.
وبعض كان يحدّثني به؛ يقول
لي: مجلسنا هذا أمانة يا سيّد!
وبعض الحديث لم يكن يقول لي: المجلس أمانة!
قبيل مغادرتي العراق، في آب (2002م) بأيامٍ، وربما بيوم واحد،
لا أضبط؛ حضرت مجلسه المبارك، وتأثّرت كثيراً بالفعاليّات التي أجراها الله تعالى
على أيدي دراويش الكسنزان، ثم صعدنا إلى المجلس العامّ، وكان يجلسني بجانبه باستمرار،
وبدون استثناء مرةٍ واحدة، طيلة هذه السنين، ولم يكن يسمح لأحدٍ أن يجلس بيني
وبينه، حتى لأولاده وخلفائه الكرام، على الإطلاق!
اقتربت منه، وقلت: سيدي سأغادر إلى عمّان، وقد لا أراك بعدها:
هل كلّ ما حدّثتني به منفردَين هو أمانة، أو يمكنني أن أحدّث به بعد عمرٍ طويل؟
قال: ما قلت لك: إنّه أمانة، فهو أمانة، وما سوى ذلك؛ فحدّث به
متى شئت!
لكنْ نحن سنلتقي، وسنلتقي كثيراً بعد، بقي أمامنا عمر طويل، لا
تخف!
أقول:
عشت أيّاماً سوداءَ من الضيق والفقر والحاجة، وتراكم الديون،
منذ منتصف عام (1996) وحتى الشهر العاشر من عام (2004م).
لم يُعطِني سماحته ديناراً عراقيّاً واحداً، مع أنني كنت المعلّم
والمحاور والخطيب والمفتي العام للطريقة، ولم أطلب منه أنا أيضاً سوى الدعاء!
كنت أقول في نفسيّ: الشيخ أحضرك إلى التكية، وأولاك اهتمامه
ورعايته بأمرٍ من أهل الله، كما حدّثني هو، فتكون تصرّفاته تجاهي كلّها موجّهة
بأوامر، ولا يحقّ لي أبداً أن أحدّث نفسي بشيء من هذا، فكنت أستغفر الله العظيم،
إذا خطر في نفسي مثلُ هذا الخاطر، الصادر عن الضيق الشديد!
بعد العام (2004) أقام سيدنا الشيخ في عمّان، وكنت أزوره، كلما
دعاني هو قلبيّاً.
وعَقِب وفائي أكثر من ستّين ألف دولارٍ من ديوني؛ كان معي في
عام (2008) أو (2009م) مبلغ (7000) دولار.
حملت منه (5000) دولار، وزرتُ سماحته قبل اجتماع الناس مساءً.
قلت للحارس: بلّغ سماحة الشيخ حصريّاً بأنّ عداب الحمش يرغب
بزيارته منفرداً!
بلّغ الحارس مَن هو أعلى منه، وأقربُ إلى الشيخ، فجاء إليّ هذا
الأعلى، ولم أره من قبل، وسمتُه مثلُ سَمتِ المخابرات الأردنيّة!
أخبرني بأن الشيخ في راحتِه الآن، وربما كان نائماً، فتفضّل
اجلس في غرفة الضيوف، ريثما يؤذّن للمغرب، عندها ينزل الشيخ، فتلتقي معه.
قلت له: إذن أرجع عند صلاة المغرب!
قدّمني سماحته، فصلّيت بالحاضرين، ولم يكن يسمح لمخلوق أن يصلّي
به إماماً سوايَ، إذا كنتُ حاضراً، سواء
في العراق أم في الأردن.
عقب الصلاةِ؛ قرأ أحد الحاضرين قليلاً من القرآن العظيم، ثمّ
أحضروا الشاي!
اقتربتُ من سيّدي الشيخ، وقلت له: أريدك بمسألة صغيرة، لا
تستغرق أكثر من دقيقتين، قال: فهمتُ عليك، لكن أنا أيضاً أريدك بمسألة خاصّة!
ثمّ نادى على أحدهم وقال: الحقنا بالشاي إلى هناك، وأشار إلى
الموضع الواسع الذي كنّا نتناول العشاءَ فيه.
جلس على كرسيّه، فحاولت الجلوس مقابله، فقال: لا لا، اجلس قريبا
مني يا سيّد، أنت أخي وابن عمي وحبيبي.
فجلستُ حيث أشار إليّ، ثمّ قال لي: أنا أعرف ما تريد أن تقول،
لكني أريد أن أقول قبلك، إذا سمحت لي!
أنتَ الآن ياسيّد وضعك الماديّ مريح – ولله تعالى الحمد – لكنّك لم
تنتبه إلى أولادك أبداً، أنت حتى اليوم لم تؤمّن لهم شقّةً صغيرة، يسكنون فيها، لا
في الأردنّ، ولا في سوريا.
سجّل لأولادك على شقةٍ بالتقسيط، أو هذا الذي يسمّونة «إيجار
ينتهي بتمليك»
فهذا خيرٌ مما تريد أن تقوله لي، فنحن ولله الحمد والمنّة عندنا هذا البيتُ وغيره
وغيره، وغيره أيضاً!
ثم قال لي: هل تريد أن تقول شيئاً؟ قلت: لا، حصلتُ على الجواب!
«لكنني لم أعمل بنصيحة سيدي الشيخ، فأنا حتى اليوم لم أملك شقةً
ولا سيارةً ولا مالاً، سوى ما خلّفه لنا الوالد من عقار، في سوريا».
ثم صارحته وقلت له: أنا تضايقت من حارسكم هذا، فهو يشبه
المخابرات، وحاول أن يجري معي تحقيقاً كتحقيقات المخابرات الأردنية الكريهة، وأنا
لا أحتمل مثل هذه المواقف!
قال: هو لا يعرفك، وأنا سأنبّه على الجميع، وأقول لهم: إذا جاء
ابن عميّ الدكتور السيّد عداب، في أيّ وقت؛ فخبّروني حتى لو كنت نائماً!
حضرة الشيخ محمد الكسنزان؛ من أنبل الرجال الذين عرفتهم في
حياتي، اذهب أخي القارئ إلى كتب معاجم اللغة، واستعْرِض ما فيها من معانٍ لكلمة «النُبلِ» ستجد
معانيها الأرقى كلّها مجتمعة لدى سيّدي الشيخ محمد الكسنزان.
في صيف عام (1996) ألزمني بالإشراف العلمي والمشاركة
الفاعلة في «دورة الكسنزان العلمية الأولى» وقال لي: أنت ستشرف على هذه الدورةِ
غصباً عنك، وليس باختيارك، هكذا جدودك أمروا.
عندما بدأتُ الدورة؛ كان الشيخ محمّد الكسنزان يدخل إلى
قاعة الدرس ومعه الشيخ «نهرو» قبلي، ولم يدخل بعدي، ولو مرّةً واحدة.
كنت ألقي الدرس كما أعلم من دين الله عزّ وجلّ، من دون
مراعاةِ تقاليد الصوفيّة وإطلاقاتهم.
وعندما تنتهي المحاضرة؛ يقف عند باب القاعة، ينتظرني حتى
أخرج قبلَه، لكنني قطعت عليه الطريق، فأقسمت أنني لا أخرج قبله، ولا أمشي أمامه
قطّ!
كنت أخطب الجمعة ساعةً أو أكثر من ساعة، والناس معتادون على
الخطب القصيرة؛ لم يعاتبني مرّة واحدةً، ولم يطلب مني هو أو الشيخ «نهرو» أنّ
أقصّر الخطبة!
كنت أقرّر العقيدةَ التي أعتقد، وإن خالفت ما هو متوارثٌ
لدى الأشاعرة والصوفيّة، فلم يعترض عليّ، سوى مرّة واحدةٍ!
بعدما خرجنا من صلاة الجمعة؛ قال لي: الحديث الذي استشهدت
به على المنبر، والذي قلتَ: أخرجه مسلم، هل هو صحيح عندك؟ قلت: الأصل أنه صحيح،
لأنّ ما في الصحيحين صحيح، إلا ما ظهرت فيه علّة.
قال: ليتك تبحث عن هذه العلّة؛ فإنّ أهل الله يقولون: هذا
الحديث غير صحيح.
عندما خرّجتُ الحديثَ؛ تبيّن لي أنّه حديث ضعيف، فيه عدّةُ
علل.
لم أقل لسماحة الشيخ شيئاً، حتى جاء يوم الجمعة، فبعد
استهلال الخطبةِ، وقبل الشروع بموضوعها، ذكرت للناس ما حدث، وأظهرت لهم علل
الحديث، وحكمتُ بضعفه!
ثمّ لم أعد أعتمد على آلاف الأحاديث التي أحفظها، إنما
أصبحت أخرّج الأحاديثَ التي أريد الاحتجاج أو الاستشهاد بها بعد ذلك، قدر الطاقة،
ولم يعترض عليّ بشيءٍ آخر، قبل ذلك ولا بعده.
إنّ أكبرَ المآخذ التي يأخذها الصوفيّة العراقيّون على
السادة الكسنزان «الشيخ محمد وأولاده وأقاربه» - حسب ما سمعت بنفسي - أنهم يعيشون بنعمةٍ ورفاهية وترف ماديّ، وهم قد اعتادوا أنّ
شيوخهم فقراء، كثير منهم يعيش على ما يقدّمه إليهم دراويشهم!
كان يسألني كثيرون من تلامذتي وغيرهم: من أين لهم هذه
الأموال الطائلة، وليس فيهم واحدٌ يعمل شيئاً، جميعهم طلّابٌ في الجامعات؟!
فكنت أقول لهم: أنا والله لا أعلم، ولا أحبّ أن أعلم، لكنني
أذكر لكم قصّة قصيرةً شاهدتها بنفسي!
في عام (1960) أعطاني الطريقَ الشاذليّة شيخي عبدالقادر
عيسى قدّس الله سرّه، في منزل شيخي فارس أحمد السالم، وقال لي: تابع مع الشيخ
فارس!
فصرت أزور الشيخ فارس، وأحضر في زاويته مجلس الذكر المحدود
الخاص، ثم يأخذني معه إلى دار الفقراء «الزاوية الرسمية للطريقة» فأحضر هناك.
مضت سنواتٌ على هذه الحال، إلى أن حصلت خصومة بينه وبين
والده.
كان والده من الرجال الشجعان الكرام، لكنه لم يكن يعرف
التصوّف، ولا يحبّ الصوفيّةَ ولا المشايخ بوجه عام!
كان الشيخ فارس يتأخر في الزاوية حتى يقرأ حزبه من القرآن
العظيم، ويسوق وردَه الصباحيّ من الأذكار والتسبيحات والصلوات والتسليمات على
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
ففي يوم جمعة مررت به، لنذهب معاً إلى مجلس الصلاة على
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في «التكية الهدائيّة» جوار المشفى الوطني
الرئيس في مدينة حماة.
فحضر والده يرغي ويزبد، ويصرخ على الشيخ فارس، ويؤنبه لأنه
لم يذهب إلى مقالع الحجر ويتفقد «الكسّارة» فاحتدّ الشيخ فارس في حضرة والده، وقال
له: يا أبي.. يا أبي.. يا أبي.. اليوم جمعة أصلاً، أنت ناس أنّ اليومَ جمعة،
وعندنا مجلس الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال له والده: وراءك [لا أذكر العدد الذي ذكره] من الأرواح
تريد أن تأكل، هل يأتيك مجلس الصلاة على سيدنا النبيّ بمال لإطعامهم؟
أنت دائم الصلاة على الرسول في كل دقيقة، فما حاجتك إلى
تضييع وقتك بحضور المجلس؟
الشغل يا فارس الشغل ...إلخ.
قال الشيخ فارس رحمه الله تعالى: الشغل.. الشغل.. الشغل، ما
عندك غير الشغل والفلوس!
يا أبي والله لو أردتُ أن أقلب لك جبلَ «زين العابدين»
ذهباً؛ لفعلت!
كفى كفى كفى، نحن في نعمة عظيمة، لم نوف الله شكرها!
والله لا أفوّت مجلس الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله
وسلمّ، لو تهدّم المقطع، واحترقت الكسارة، وخسرناها كلّها.
ثم شغّل الماتور، وركبت خلفه، وانطلقنا إلى التكية، التي عَمَرَها،
وكان يشرف عليها شيخنا الشيخ محمود الشقفة الرفاعي رضي الله عنه.
كان الشيخ فارس غاضباً، وكان يحوقل كثيراً، حتى وصلنا
التكية، فلم أسأله عن شيء!
عندما رجعتُ إلى بيتنا؛ قصصت على جدّي ما حصل أمامي، وحكيت
له قولَ الشيخ فارس عن قلب جبل زين العابدين ذهباً، وقلت له: كيف يحلف على ذلك،
وهل هو يستطيع فعلَ ذلك فعلاً؟!
ضحك جدّي السيد إبراهيم رضي الله عنه وأجابني بسؤال: مَن
خلق جبل زين العابدين؟ قلت له: الله تبارك وتعالى.
قال: ومَن أودع ذرّات الذهب ضمن ذرّات التراب؟ قلت: ربّنا
الله سبحانه وتعالى!
قال: وهل من فارق بن «كن» التراب، و«كن» الذهب، عند الله
تعالى؟
سكتّ ولم أجبْ؛ لأنني لم أفهم بسرعةٍ المقصود.
قال: يا عدَيّب، التراب والذهب والعقيق والماس، كلها عند
الله تعالى تراب!
يا ابني (ربّ أشعث أغبر، لا يؤبه له، لو أقسم على الله؛
لأبرّه) هذا حديث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
الله تعالى قادر على كلّ شيءٍ، ولولا أنّ الشيخ فارس رأى
إشاراتٍ من عناية الله تعالى؛ ما أقسم على ذلك.
ختاماً: أنا لستُ من المغالين في سيّدي الشيخ «محمد
الكسنزان» ولا في أيّ مخلوق، ولا أقول فيه إلّا ما علّمنا الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم في آحاد المؤمنين.
لا أقول: إنّه قطب الوجود!
لا أقول: إنّه وليّ الله الأعظم!
لا أقول: إنه من الأبدال.
لا أقول: إنّه من الصالحين.
إنّما أقول: (أحسبه من عباد الله الصالحين – والله حسيبه – ولا أزكّيه على
الله تعالى) أخرجه البخاري ومسلم.
لأهل القلوبِ وأهل المقاماتِ؛ أن يقولوا ما يشاؤون، فهم
أدرى بأحوالهم، أمّا أنا فرجل من أهل الحديث، أقف حيث أوقفنا رسولنا العظيم صلّى
الله عليه وآله وسلّم، فحالي ومقامي الروحي؛ لا يسمحان لي بالتطاول على مقامات
أصحاب القلوب.
وإلى منشورٍ آخر عن السادة الكسنزان، إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق