الجمعة، 15 أكتوبر 2021

 مَسائل حديثية (26):

التعصّبُ لكُتبِ الحديث!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تواصل معي أحدُ المشتغلين بخدمة كتب الحديث النبويّ، وكان يشتمني ويشنّع عليّ على «الفيس بوك» وغيره من وسائل التواصل الاجتماعيّ، وقال لي:

«إذا كانت كتب الحديث لدى جميع فرق المسلمين ظنيّةَ الصدورِ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فليتك توضح لنا قيمتها العلمية، وكيفيّة الوصول إلى الدليل الشرعيّ على المسائل الأصولية والفروعيّة...إلخ».

أقول وبالله التوفيق:

سأتحدّث عن كتبِ أهل السنة الحديثيّة كلاماً عامّاً إجماليّاً يسيراً، يفهمه كلّ قارئ!

أمّا الكتب الحديثيّة للسادة الزيديّة والإماميّة والإباضيّة؛ فلا تعنيني في كثيرٍ ولا قليلٍ، مع اعترافي بالجهود المضنية التي قام بها علماء هذه المذاهب، لكنها كلّها،  كما يقولون في المثل:

«كأنّك تضرب في حديد بارد»!

فهي عندي ليست ذاتَ قيمةٍ ثبوتيّة البتّة، لا ظنيّاً ولا توهّماً، فضلاً عن الرجحان والاعتماد!

أمّا كتبُ أهل السنّة؛ فالكلام يجب أن ينحصر على الكتبِ التي اشترط أصحابها الصحّة، وهي صحاح البخاريّ ومسلم وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم.

وبين هذه الكتب تقاطع كبير، يصل بين الصحيحين إلى (70%) تقريباً.

إنّ مراتب درجة ثبوت الحديث:

(1) الحديث المتواتر: وهو التواتر الاعتباري، الذي يصحّ أو يحسن عن سبعة من الصحابة، قياساً على تواتر القرآن العظيم في الصدر الأوّل، فقد قال الذهبي في مقدمة طبقات القرّاء: إنّ الذين اتّصلت بنا أسانيدهم من الصحابة سبعة، وذكرهم.

أمّا التواتر المفيدُ للعلم اليقينيّ الضروريّ، بمجرّد سماعه، ويستوي فيه العاميّ والعالم، فهذا تخيّلٌ من قائليه، فليس في الأحاديث مثل هذا الثبوت، إلا إذا عددنا المعلومات من الدين بالضرورة من هذا الجنس، وهي في الوقع شيء آخر!؟

ولنقُل تقريباً للفهم: إنّ درجة ثبوت الحديث الذي يرويه سبعة من الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تبلغ (100%).

(2) الحديث المشهور: الذي تصحّ أو تحسن أسانيده إلى أربعةٍ من الصحابة، ولنفترض أنّ درجة ثبوته تبلغ (90%).

(3) الحديث المستفيض: الذي تصحّ أو تحسن أسانيده إلى ثلاثة من الصحابة، ولنفترض أنّ درجة ثبوته تبلغ (85%).

(4) الحديث العزيز: الذي تصحّ أو تحسن أسانيده إلى اثنين من الصحابة، لا يُعرفان بأخذ أحدهما عن الآخر، ولنفترض أنّ درجة ثبوته تبلغ (80%).

(5) الحديث الغريب: الذي تصحّ أو تحسن أسانيده إلى واحدٍ من الصحابة، فحسب!

وهذا لا يمكن إعطاؤه درجةَ ثبوتٍ واحدة، إنما نعيد عليه ما قدّمناه في الطبقات السابقة.

(أ) الحديث الغريب المتواتر عن صحابيّه، وهو الذي يرويه عن الصحابيّ سبعة من الرواة، وانفترض أنّ درجة ثبوته إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تبلغ (65%) إذ إنّ الصحابي بشر يخطئ في الفهم، ويخطئ في الحفظ أيضاً، وعدم ورودِ الحديث إلا من جهته وحده؛ مظنّة وهمه أصلاً.

(ب) الحديث الغريب المشهور عن صحابيّه، وهو الذي يرويه عن الصحابيّ أربعة أو خمسة أو ستة من الرواة، ولنفترض أنّ درجة ثبوته (60%).

(ج) الحديث الغريب المستفيض عن صحابيه، وهو الذي يرويه عن الصحابيّ ثلاثةٌ من الرواة، لا أكثر ولا أقلّ، ولنفترض أنّ درجة ثبوته (58%).

(د) الحديث الغريب العزيز عن صحابيه، وهو الذي يرويه عن الصحابيّ راويان فحسب، لا أكثر ولا أقلّ، ولنفترض أنّ درجة ثبوته (56%).

(هـ) الحديث الغريب الفرد عن صحابيه، وهو الذي يرويه عن الصحابيّ راوٍ واحدٌ فحسب، أكثر ولا أقلّ، وهو الفرد المطلق!

وهذا الحديثُ الفردُ المطلق؛ لا يصحّ أن يعطى درجة واحدةً من الثبوت أيضاً!

فهناك الإسناد المتسلسل بالثقات!

وهناك الإسناد المتسلسل بالثقاتِ، إلّا واحداً من الصدوقين.

وهناك الإسناد المتسلسل بالثقاتِ، إلّا واحداً من الصدوقين أصحاب الأوهام.

ثمّ هناك إسناد مسلسل بمن لا يبلغون درجة «ثقة»!

وهناك إسناد فردٌ غريب مطلق في درجة التابعيّ الراوي عن الصحابيّ، لكن يرويه عن التابعيّ عددٌ من الرواة.

وهناك إسناد فردٌ غريب مطلق في درجة التابعيّ الراوي عن الصحابيّ، لكن يرويه عن التابعيّ راويان.

وهناك إسناد فردٌ غريب مطلق في درجة التابعيّ الراوي عن الصحابيّ، لكن لا يرويه عن التابعيّ إلا راوٍ واحد!

وهكذا نزولاً.

فإذا أنت علمتَ أن الأحاديثَ الغريبة التي صححها الحفاظ، وأخرجها صاحبا الصحيحين الأعظمين، تبلغ أكثر من (80%) من مجموع أحاديث الصحيحين؛ فيجب عليك أن تنتبه!

ومما هو معلوم لدى المشتغلين بالحديثِ؛ أنّ التصحيحَ ذاته ظنيٌّ يعتمد على القرائن، وعلى ما يقدح في نفس المحدّث.

ولهذا تجد الحديث الواحد، يصححه خمسة من النقاد، ويضعفه خمسة أو ستة أو ثلاثة، وهو في الصحيحين أو أحدهما.

أحدُ أولادي لا يعجبه مثل هذا الطرح، ويقول لي: أنت بمثل هذا المنشور تطرح المشكلةَ، ولا تعطي الحلَّ!

وأقول: قد لا أعطي الحلَّ حتى يفكّر المتعصّب لأي كتابٍ سوى كتاب الله تعالى؛ أنّه جاهل جهلاً مركّباً!   

فصحيح البخاريّ جهد عظيم يستحق الإعجابَ والتقدير، لكنه لا يستحقّ التعصّب له، ولا اعتمادَ جميع ما فيه من أحاديث.

سواء أجمعوا على صحته أم لم يجمعوا، فدعاوي الإجماع على صحة كتاب بشريّ؛ دعوى فارغة، لا تساوي تحريك اللسان بها.

وكذلك سائر كتب الحديث التي اشترط أصحابها الصحة، أو لم يشترطوا، كلّها جهود كبيرة يستحقون عليها الثناء والتقدير!

أمّا الحلّ لمشكلة ظنيّة الأحاديث المروية (الآحاد) فتتلخّص بالآتي:

أوّلاً: العودةُ إلى القرآن الكريم، وتفهّم كتب آيات الأحكام منه تفهّما صحيحاً.

ثانياً: التفتيش عن مواضع الإجماع بين مذاهب الأمة، فمواضع الإجماع؛ هي السنة النبوية الصحيحة على وجه التقريب.

ثالثاً: استبعادُ الأحاديثِ التي تخالف القرآن العظيم، من دون تكلّف الجمع بينها وبينه؛ لأنّ التنقير الأصوليّ في الدلالات؛ لم يكن يعرفه الصحابة الرواة الأميون بتاتاً!

رابعاً: اعتماد النصوص الحديثيّة المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مما يتفق عليه علماء الطوائف، متى سلم متنه من النكارة.

خامساً: استبعاد الحديث الحسن من أدلّة الحلال والحرام، وقَصْرُه على الترغيب والترهيب.

سادساً: اعتماد العمل المؤسسيّ في دراسة الأحاديث ونقدها والحكم عليها، مثلما هو الواجب في سائر العلوم الدينيّة.

وتبقى للكتب الحديثية هيبتها ومنزلتها، وتوضع في المكتبات العامّة، ولا يسمح بتداولها لغير أهل الاختصاص، فما نراه في المكتبات والمعارض؛ جنون ثقافيّ، وليس علماً أصلاً!

ماذا يفيده العاميّ والمثقف الطبيب والمهندس والضابط والمقاول والعامل من قراءة سنن أبي داود وابن ماجه والنسائيّ مثلاً؟! لا شيءَ أبداً، سوى تشويش دماغه!

إنّما يقدّم إليه كتاب «رياض الصالحين» و«الأذكار» للنوويّ، ويكفيه في أخلاقه وسلوكه إلى الله تعالى ما فيهما.

عرّفني أحد زملائي في مكة المكرمة إلى واحدٍ من قضاتها، وذهبت معه إلى زيارته، وأنا الفقير من النادر أن أزور أحداً !

وجدتُ في بيته مكتبةً تبلغ خمسةَ أضعاف مكتبتي في الحدّ الأدنى، ومن مزاياه الرائعة أنّه يحفظ موضع الكتاب، فإذا سألتَه عنه؛ أرشدك إلى موضعه التقريبيّ فوراً!

لفت نظري كتاب «خطط الشام» للأستاذ محمّد كُرد علي (1372 هـ) فسألته عن موضوع الكتاب، فضحك وقال: أو تظنّ أنني قرأت كلّ هذه المكتبة؟

لا أعرف ما بداخله أصلاً، لكنّ وجوده في المكتبة ينفعك، إذا لم ينفعني!

وبمناسبة وصولنا استطراداً إلى هذه المسألة؛ فأنا ليس مكتباتي في الحجاز والعراق والأردن وتركيا كتابٌ لا أعرف مضمونه أبداً!

لا لأنني قرأت عشرةَ آلاف مجلّد، وربما أكثر!

لا أبداً، فهذا غير صحيح لو ادّعيته، إنّما أشتري الكتاب، وأضعه في طرف الغرفة، أو على الطاولة، ولا أضعه في المكتبة، قبل أن أعطيه ساعةً أو ساعتين من وقتي، وربما أعطيته يوماً كاملاً وفي الموضوعات الجديدة، أقرؤه كلّه، حتى لو أخذ مني يومين أو حتى ثلاثة أيّام.

اِقْرأ مقدّمة الكتاب كاملةً بهدوء ورويّة، ثم اقرأ خاتمته، ثم اقرأ ثبت مباحثه «الفهرست» ثم تخيّر عدّة مسائل، واقرأها باستيعاب وتمامٍ؛ تكن قد تعرفت إلى الكتاب، وتبرأ من تهمة وذمّ (كمثل الحمار يحمل أسفاراً).

والله تعالى أعلم.  

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق