مَسائل حديثية (49):
أثرُ ابنِ الحدثانِ منكر قبيح
!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
إنّ ممّا أدين الله تعالى به
أنّ صحيحي البخاري ومسلم؛ هما أصح كتب الحديث النبويّ الشريف، لدى المسلمين.
يَليهما صحيحا ابن خزيمة وابن
حبّان، ويقاربهما السنن المجتبى للإمام النسائيّ.
ولا يقترب في الصحة أيّ كتابٍ
آخر من هذه الكتب، لا عند أهل السنة، ولا لدى غيرهم من كتب الفرق الإسلامية
الأخرى.
لكنّ القولَ بصحة جميعِ ما في
الصحيحين؛ هو قولٌ جُمليّ على سبيل الإطلاق، ولا يجوز أن يكون على سبيل العموم
والاستغراق!
خاصّةً إذا أريدَ بالصحّةِ
المفهومَ السائدَ لدى المتأخرين «الصحيح لذاته ولغيره».
وقد ذكرت مرّاتٍ عديدةً أنّ في
الصحيحين أحاديثَ مَشهورةً، وأخرى مُستفيضة، وثالثة عزيزة، ورابعة غريبة!
والأحاديث الغريبة مراتب
كثيرة:
منها الغريب الصحيح لذاته.
ومنها الغريب الصحيح لغيره.
ومنها الغريب الحسن لذاته.
ومنها الغريب الحسن لغيره.
ومنها الغريب الجيّد، الذي لم
يجد العلماء ما يرفعه ويرقّيه إلى الحسن لغيره.
ومنها الغريب الضعيف، والضعيف
مراتب قد تصل إلى خمسين نوعاً!
ومِن منكرات أحاديث الصحيحين،
الحديثُ الآتي:
أخرج البخاري في مواضع عديدة
من صحيحه (2904، 3094، 4034، 4885، 5357، 5358، 6728، 7305) ومسلم في صحيحه، وهذا
لفظه (1757) من طرق عديدةٍ عن محمد بن مسلم ابن شهابٍ الزهريّ، عن مالك بن أوس بن
الحدثان النصريّ قال:
أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ
جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ
مِنْ أَدَمٍ.
فَقَالَ
لِي يَا مَالُ: إِنَّهُ قَدْ دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ
أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَخُذْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ
قُلْتُ:
لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا غَيْرِي؟!
قَالَ
عُمَر: خُذْهُ يَا مَالُ!
قَالَ
مالك: فَجَاءَ «يَرْفَا» فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ؟
فَقَالَ
عُمَرُ: نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا!
ثُمَّ
جَاءَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ؟
قَالَ:
نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا!
(2)
فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا
الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: أَجَلْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، وَأَرِحْهُمْ!
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ:
يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ!
فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدَا!
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ
الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ)؟
قَالُوا: نَعَمْ!
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ
تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ)؟
قَالَا: نَعَمْ!
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ
جَلَّ وَعَزَّ، كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخَاصَّةٍ لَمْ يَخْصُصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، قَالَ:
(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ).
قال مالك بن أوس: مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي
قَبْلَهَا أَمْ لَا؟!
قَالَ عمر: فَقَسَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي
النَّضِيرِ، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَخَذَهَا دُونَكُمْ،
حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ!
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ
مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ!
ثُمَّ قَالَ عمر: أَنْشُدُكُمْ
بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ
ذَلِكَ؟
قَالُوا: نَعَمْ!
ثُمَّ نَشَدَ عَبَّاسًا
وَعَلِيًّا بِمِثْلِ، مَا نَشَدَ بِهِ الْقَوْمَ: أَتَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا:
نَعَمْ!
قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا
وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُمَا تَطْلُبُ
مِيرَاثَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ
أَبِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (مَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ)!
فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا
آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ
تَابِعٌ لِلْحَقِّ!
ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ
وَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيُّ
أَبِي بَكْرٍ فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ فَوَلِيتُهَا ثُمَّ
جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ فَقُلْتُمَا
ادْفَعْهَا إِلَيْنَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ
عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ قَالَ
أَكَذَلِكَ قَالَا نَعَمْ قَالَ ثُمَّ جِئْتُمَانِي لِأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا وَلَا
وَاللَّهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَرُدَّاهَا إِلَيَّ».
ومما ينبغي الإشارةُ إليه؛ أنّ
البخاريّ على الرغم من حفاوته البالغة بهذا الأثر الباطلِ الكذبِ، إلّا أنّه حذف
الكلمات السافلة التي وردت فيه (كاذب، آثم، غادر، خائن) التي زعم الزهريُّ، أو زعم
مالك بن أوس - الله تعالى أعلم - كلاهما ناصبيّان جلدان، زعَما أو أحدهما أنّ
عليّاً كان يرى أبا بكر وعمر رضي الله عنهم يتّصفانِ بهذه الصفات المنكرة!
وأنا لن أناقش هذا الأثر
الخبيثَ، من وجهة نظر عقليّة، إنّما سأنظر إليه من وجهة نظر حديثيّة بحثة!
رأي الإمام عليّ في أبي بكرٍ
وعمر:
مرّ معنا في منشورٍ سابقٍ عن
ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ أنّه قال: «رُوِيَ
عن عليٍّ من نحو ثمانين وجهاً وأكثر؛ أنّه قال على منبر الكوفةِ: (خيرُ هذه الأمّة
بعد نبيّها؛ أبو بكر وعمر).
وقد أخرج البخاريّ في
صحيحه (3671) من حديث محمّد بن عليّ بن أبي طالب «ابنِ الحنفيّة» قَالَ:
قُلْتُ لِأَبِي: أَيُّ
النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: أَبُو بَكْرٍ!
قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ!
وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: «ثُمّ»
عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟
قَالَ عليٌّ عليه السلام: «مَا
أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ».
كيف ينسجم قول الإمامِ
عليٍّ هذا، مع قول الزهريّ أو مالك بن أوس بأنّ عليّاً كان يرى أبا بكرٍ وعمر (كاذبَين، آثمَين، غادرَين، خائنَين)؟
نعوذ بالله من النصب المجرم
الخبيث!؟
وأخرج البخاريّ في مناقب عمر
بن الخطاب (3677، 3685) ومسلم في فضائل الصحابة (2389) واللفظُ للبخاريّ، من حديثِ
عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: «وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ، يَدْعُونَ
وَيُصَلُّونَ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ.
فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا
رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَى
عُمَرَ وَقَالَ مَا خَلَّفْتَ أَحَداً، أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ
عَمَلِهِ مِنْكَ!
وَايْمُ اللهِ إِنْ كُنْتُ
لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ!
وَحَسِبْتُ أنِّي كُنْتُ كَثِيراً
أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)!
من المعلوم في تعريف الحديث
الصحيح أنّه الحديث الذي يرويه عدل ضابطٌ عن مثلِه، من أوّل السند إلى منتهاه، من
غير شذوذٍ، ولا علّة.
والشذوذ في هذا الحديث مخالفةُ
مالك بن أوس بن الحدثان لعبدالله بن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة!
مالك بن أوس يثبت بغضَ وسوءَ
ظنّ عليٍّ عليه السلام بأبي بكر وعمر.
وهما يثبتان محبّةَ عليٍّ عليه
السلام لأبي بكر وتفضيلهما على نفسه وعلى الأمة كلّها.
وابن عباسٍ، أو محمّد ابن
الحنفيّة، كلُّ واحدٍ منهما يساوي مِلْءَ الأرض، من أمثال الزهري وابن الحدثان،
وهيهاتَ هيهات!
وأمّا العلّة القادحةُ؛ فهي
نصبُ الزهريّ ونصبُ مالك بن أوس، والناصبة كانوا يتّهمون عليّاً بكلّ قبيحة، حتى
إنهم كانوا يتّهمونه بأنّه كان مُسلّماً بارتكاب أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
للفاحشة!
وسواءٌ كان كلامُ عليٍّ عقيدةً
يعتقدها بأنّ أبا بكرٍ وعمر خير هذه الأمّة، أمْ هو من قبيلِ هضم المؤمن الصالح
لنفسه، فهو يثبت لهما فضلاً عظيماً، يتعارض تعارضاً تامّاً مع ما جاء في حديث
الناصبيين الزهريّ وابن الحدثان، عليهما من الله ما يستحقّان!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على نبيّنا
محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق