مَسائل حديثية (47):
هَلْ في المالِ حقٌّ سوى
الزكاة ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال لي صديقي: سامحني يا شيخ
عداب، فلسفتك في المال؛ لا تعجبني أبداً !؟
تبسّمت له، وهززت برأسي: أنْ
تابع!
قال: أليس ابنُ عبّاسٍ رضي
الله عنهما يقول: (ما أَدّيتَ زكاتَه؛ فليس بكَنز)؟!
وسمعتك مرّةً تقول: «مَن أنفقَ
عُشْرَ مرتّبه الشهريّ؛ فهو كريمٌ، ولا يصحّ وصفه بالبخل مطلقاً، وأنا أنفق عُشرَ
دخلي الشهريّ يومَ استلامِه».
ثمّ سكَتَ صاحبي!
قلت له: تابع تابع، لا تسكت!
قال: أجبني على ما قلتُه، ثمّ
أتابع!؟
قلت له: بل تابع، حتى أجيبك
على جميع أسئلتك واعتراضاتك عليّ، وَفقَ منظومة فكريّةٍ واحدةٍ، تكون واضحةً
ومختصرة!
قال: مات أبو بكرٍ فقيراً،
ومات عمر فقيراً، ومات عليٌّ فقيراً!
لكنْ مات عبدالرحمن بن عوف
غنيّاً، ومات عثمان غنياً، ومات طلحةُ غنيّاً، ومات الزبير غنيّاً، حتى إنّ
أموالَه الذهبية كانت تُقسم بين ورثته بالفؤوس!
فهل كان الفريق الأوّل مصيباً،
بينما كان الفريق الثاني مخطئاً؟
انتهيتُ فأجبني لطفاً، فأنا
مشفقٌ على وضعك النفسيّ والعصبيّ، مع أنّ دخلك الشهريّ يكفيك وزيادة!
أقول وبالله التوفيق:
حديثُ (ما أُدّي زكاتُه؛ فليس
بكنز) علّقه البخاري في صحيحه ترجمةَ بابٍ، في كتاب الزكاة، عقبَ حديث أبي هريرة
(1403).
وقد تكلّم الحافظ ابن حجر على
رواياتِ الحديث وطرقه، في فتح الباري (3: 272) بما لا مزيدَ لديّ عليه، وخلاصةُ
كلامه أنّ هذا الحديثَ مرويٌّ عن عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عبّاس، وجابرٍ، وأبي
هريرة، وأمّ سلمة.
ورجّح الحفّاظ أنّ الموقوفَ
على ابن عمر هو الصواب!
وهذا يعني أنّ هذا الحديثَ لا
يصحّ عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يتّفق الصحابةُ على معناه
نظريّاً، كما لم يتّفقوا في التطبيق، كما مرّ!
وهناك حديثٌ يشهد لمعناه،
أخرجه البخاريّ في مواضعَ، منها في كتاب الصوم (1891) ومسلم في الإيمان (11)
وغيرهم.
جميعُهم من حديث أبي سُهيلِ نافعِ
بن مالكِ بن أبي عامر الأصبحيّ «عمّ مالك بن أنس» عن أبيه مالك بن أبي عامر، عن الصحابيّ
طلحةَ بن عبيدالله التيميِّ؛ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَخْبِرْنِي
مَاذَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ؟
فَقَالَ الرسولُ: الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا.
فَقَالَ الأعرابيّ: أَخْبِرْنِي
مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ
تَطَّوَّعَ شَيْئًا.
فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا
فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ.
قَالَ الأَعْرابيُّ: وَالَّذِي
أَكْرَمَكَ، لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئاً، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ
شَيْئاً! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْلَحَ إِنْ
صَدَقَ) أَوْ قالَ: (دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ).
وبمعزلٍ عن صفة الاستثناءِ
هنا، أهو متّصلٌ أم منقطع؛ فدلالةُ الحديث ظاهرةٌ في أنّ المفترض في مال المسلم؛
هو الزكاة فحسب!
ثمّ المسلم بالخيار بين أن
يزيدَ أو يقتصر!
لكنّ هذا الحديثَ هو الآخرُ
فردٌ مطلقٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى طلحةَ بن
عبيدالله التيميّ، ولم يروه عن طلحةَ سوى مالك بن أبي عامر، تفرّد به عنه ابنه أبو
سهيلٍ نافعٌ.
ولا يوجد في الكتب التسعة بهذا
الإسنادِ، سوى هذا الحديث الواحد!
فهو حديثٌ حسنٌ، إن شاء الله
تعالى.
ولنترك الرواياتِ المتعارضةِ
في هذا الباب، ولنرجع إلى النبعِ الأصيل الصافي، كتاب الله جلّ وعزّ، فماذا نجد
ثمّة؟
قال الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ؛
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر].
قال الله تعالى: (إِنَّ
الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21).
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
[المعارج].
والحقُّ المعلومُ: هو أنصباء الزكاةِ التي أوضحها
لنا الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الأنعام والزروع وأموال التجارة،
والكفّارات، وغير ذلك.
وقال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
[المؤمنون].
وقال الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ.
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ.
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة].
فغدونا أمام طرفي نقيضٍ في واقع
حياة الناس، بين شحٍّ وأثرةٍ، وبين إيتاء الزكاة، وإيتاء ما فوق الزكاة (وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).
فما يُمدَح به المسلمُ؛ لا بدّ أن يكون موافقاً
مرادَ الله تبارك وتعالى، وقد مدح الله تعالى (الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ) وعدّهم من المؤمنين.
وما وراء ذلك النوافلُ التي وَعد الله تعالى عليها
مضاعفةَ الثواب، فقال جلّ وعلا:
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ؛ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ،
ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) [البقرة].
بيد أنّ للظروف الطارئةِ أحكاماً خاصّةً، تختلف
النظرة إليها، عن الظروف الطبيعيّة!
فقد أخرج الإمام مسلمٌ في كتاب الزكاة (1017) من
حديث المنذر بن جرير بن عبدالله البجليّ عن أبيه الصحابيّ قال: « كُنَّا عِنْدَ
رسول اللهِ e فِي صَدْرِ النَّهَارِ،
قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ العَبَاءِ
مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ،
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسولِ اللهِ e لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ
الفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى،
ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (]يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ[ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ]إِنَّ اللهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً[ [النساء: 1].
وَالآيَةَ الَّتِي فِي الحَشْرِ ]اتَّقُوا اللهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ[ [الحشر: 18].
تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ
ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ).
قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ
كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ
حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ.
حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رسولِ اللهِ e يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ
مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e:
(مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْءٌ.
وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)([1]).
وفي روايةٍ أخرى للحديثِ، عند
الدارميّ في سننه (514) قال جرير: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَؤوا، حَتَّى
بَانَ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ!
ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ فَتَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ
السُّرُورُ فَقَالَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً) الحديث.
فالأمرُ الذي يُغضبُ رسولَ
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لا بدّ أنّه سيّءٌ، فعلى المسلمين القادرينَ،
المسارعةُ إلى عونِ إخوانهم المحتاجين الذين نزلت بهم نازلة!
أخرج البخاري في كتاب المظالم (2442) ومسلم في البرّ والصلة (2442) من حديث عبدالله بن عمر أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ([2]) ومعنى لا يُسلِمه: لا يَخْذُله!
فأيُّ خذلانٍ من المسلمين
لإخوانهم المسلمين المنكوبين أكبرُ من أن يترفّهوا ويتنعّموا ويبذخوا، وإخوانهم
المنكوبون المشرّدون المضطهدون لا يجدون المأوى ولا الطعامَ ولا الدواء؟
وإذا كان الله تعالى يقول: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ؛ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) فمن هذا المنطلقِ أروي لكَ يا صديقي هذه القصّةَ للعبرة والعِظة: اتّصلت بصغرى بناتي، وقلت لها: ما رأيك أن نخرج، ونتغدّى معاً في مطعمٍ مستورٍ؟
قالت: كما تشاء يا أبي!
قلت في نفسي: لا أظنني منذ ستة أشهر، أطعمتُ هذه
البنت الصغيرة لحماً مشويّاً، فقلت لها: ترغبين أن نتغدى «كباب» أو «أوصال»؟
قالت: الذي ترغب به أنت يا أبي، ليس نوع الطعام
مهمّاً، المهمّ أن ألقاك وأجلس معك!
زوّرت في نفسي أنّ وجبةَ الطعام هذه ستكلّف أكثرَ
من (500) ليرة تركي، ألا يمكن أن يقوم مقامها وجبة «فول وفلافل»؟!
فقلت لها: إذا كنتِ غير مهتمة بنوع الطعام؛ فلنذهب
إلى المكان الفلاني، يبيع «فلافل» لذيدة، و«فول» ناضج أخضر ممتاز!
نشتري من عنده وجبةً سفَريّة، ونتغدى في البيت
أستر، ما رأيُك؟
قالت: نتغدى في الحديقةِ بين الشجر، الناس قليلون
في هذا الوقت!
عندما طلبت وجبة «الفلافل» و«الفطاير» حاسبته، فأخذ
مني (420) ليرةً تركيّة، فصدمتُ واللهِ!
أنا أريد أن أوفّر بعضَ المال
لنساعد به في آخر الشهر فقيراً في سوريا، فكانت النتيجة أن حَرمنا البنت الصغيرةَ
من وجبة لحم، ولم نوفّر شيئاً.
قال لي صاحبي: أو ترى هذا
السلوكَ سويّاً؟
قلت: ما معنى (ويؤثرون على
أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة)؟
اسمع يا صاحبي: أنا والله لا
أحبُّ استانبول، وأخشى أن يحاسبني الله تعالى على سكناها المجحفة، ولولا أنّ بنتي
الصغيرة هذه تدرس في المدرسة الشرعيّة، وترفض والدتُها مغادرةَ استانبول؛ ما أقمتُ
فيها أسبوعاً واحداً.
وأنا على شبه اليقينِ أنّ الله
سيحاسبني ويحاسب جميعَ العلماء السوريين الذين يسكنون هذه المدينة الفاحشة الغلاء،
من غير حاجة بهم إلى ذلك!
قال: يا شيخي، أنت تحمّل نفسَك
فوق ما تطيق، سكنتَ «استانبول» أم سكنت غازي «عينتاب» أنت لن تستطيع فعلَ شيءٍ،
ملايين السوريين محتاجون، وحاجاتهم يجب أن تقوم بها دول، فلا تحمّل نفسَك فوق طاقة
الإنسان!
قلت له: أنا لا أكلّف نفسي فوق
الطاقةِ، لكنّ قلبي لا يحتمل أن أتنعّمَ وأترفّه، ونساءٌ فقيراتٌ مسكيناتٌ يناشدنني اللهَ
تعالى أن أسعى لهنّ، لئلاّ تنكشف أحوالُهنّ في سوريا كلّها.
قال لي صاحبي: ماذا تعرف في
تركيّا الجميلة التي تناسب الشعراءَ أمثالك؟
قلت له: أعرف جامع الفاتح
وجامع السلطان أحمد، وبعضاً من «باشاك شهير» و«كيا شهير» والطريق الواصلَ بينهما!؟
إنّ رحلاتِ الترفيه تحتاج إلى
أموالٍ، أنا شخصيّاً لا أستجيزُ أن أصرفها، وفي المسلمين جائعٌ واحدٌ، ومريض
لا يجد قيمةَ العلاج، فأرجو أن تكفّ عن هذا الحوارِ الأعجف!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا،
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
([1])
مِن حَديثِ مُحَمَّد بن جعفر عن شعبة بهِ مَرفوعاً؛ انفردَ بهِ مُسلِمٌ عن الستة
وأخرجه أحمد في أول مسند الكوفيين (19174) وأبو نعيم في المستخرج (3: 93) وكرره
مسلم في (4830).
([2]) من حديث عبدالله بن
عمر t، أخرجه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (5357، 5646) ومسلم في
البر والصلة والآداب (2580) وابن حبان في البر والإحسان، باب الجار (533) والترمذي
في الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم (1426) وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب
من حديث ابن عمر». وانظر التحفة [5: 6877] والإتحاف [8: 9645].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق