الثلاثاء، 8 أغسطس 2023

 مَسائل حديثية (43):

هلْ شيوخُ أحمد ثقات؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدُ طلّاب العلم الشادين «المبتدئين» قال: أنا أدرس أحاديث صحابيٍّ ممّن أخرج أحاديثهم الإمام أحمد في مسنده، فهل يلزمني ترجمةُ الأسانيدِ كلّهم، أو أترك ترجمةَ الصحابة وشيوخَ الإمام أحمد؛ لأنّهم ثقاتٌ أجمعون؟

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: تخريجُ ودراسةُ ونقدُ أحاديثِ كلِّ واحد من الصحابة باستقصاء؛ عملٌ علميٌّ جادّ، وقد شرعَتْ فيه إدارة الدراسات العليا في جامعة أمّ القرى، في أيّامنا، وصدر عنها دراساتٌ عديدةٌ لعددٍ من زملائنا الأكارم.

لكنّ دراساتِ أولئك الإخوة الكرام؛ كانت منحصرةً في حدود مسند الإمام أحمد.

مع أنّ في الكتب الستّة وموطّأ مالك وسنن الدارميّ ومصنّف عبدالرزاق ومصنف ابن أبي شيبة أحاديثَ كثيرةً ليست في مسند أحمد!

بل في الصحيحين أنفسهما مئات الأحاديث التي لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده.

وسبق لي أنْ أوضحت ذلك بمنشور مفرد.

وقد قلت فيه: إن الإمام أحمد اتّفق مع البخاريّ على تخريج (6209) أحاديثَ، من مجموع أحاديث صحيح البخاريّ البالغة (7561) حديثاً.

فيكون البخاريّ أخرج (1352) حديثاً مع التكرار، لم يخرّجها الإمامُ أحمد في مسنده.

وقلت أيضاً: إن الإمام أحمد اتّفق مع مسلمٍ على تخريج (4964) حديثاً، من مجموع أحاديث صحيح مسلمٍ البالغة (5362) حديثاً.

فيكون مسلمٌ أخرج (398) حديثاً يندر فيها التكرار، لم يخرّجها الإمامُ أحمد في مسنده، وهكذا بقية الكتب التسعة.

وهناك أحاديثُ أخرجها الأئمة ابن الجارود وابن خزيمة وابن حبّان والطبرانيّ والدارقطني والحاكم، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده، يستطيع الباحثُ الوقوف عليها محصيّةً مرتّبةً في« إتحاف المهرة» الذي صنّفه الحافظ ابن حجر على غرارِ تحفة الأشرافِ للحافظ المزيّ.

ولنذهب معاً إلى هذا الكتاب، ولنستعرض بعضَ أحاديث أنس بن مالك.

سنجد الأحاديثَ ذات الأرقام (284، 285، 287، 292، 293، 294، 299، 303) لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده.

 ثانياً: كثيرون هم المحدّثون الذين قيل عنهم: إنهم لا يحدّثون إلّا عن شيوخٍ ثقاتٍ، وهو كلام عام، لا يصحّ الاعتماد عليه.

قال السخاوي في «فتح المغيث» شرح ألفيّة الحافظ العراقيّ (2: 45): «مِمَّنْ كَانَ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، إِلَّا فِي النَّادِرِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَحَريْزُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُعْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ».

يُلاحَظُ قيدُ السخاويِّ « إِلَّا فِي النَّادِرِ» فهو يشير إلى أنّ هذه مجرّد دعاوى!

لو نحن تتبعنا جميعَ المذكورين هنا؛ لاحتجنا إلى بحثٍ علميٍّ استقصائيٍّ خاصٍّ، وليس إلى منشور خفيفٍ سريع!

وقبلَ أن أعرضَ أسماءَ بعضِ شيوخ أحمدَ الضعفاء؛ يلزمني التنبيه إلى أنّهم عندما يقولون: لم يرو فلان إلّا عن ثقة؛ لا يعنون أنهم «ثقاتٌ» بالمعنى الاصطلاحي للثقة، وهو الذي يجمع بين العدالة الدينية والصدق والضبط!

إنما يعنون أنْ ليس في هؤلاء الشيوخ؛ وضّاعٌ أو كذّابٍ أو متروك، فهم بهذا يدرجون تحت مسمّى الثقات: الثقة والصدوق ومن لا بأس به، ومن قيل فيه: حسن الحديث، ومن قيل فيه: صالح... وهكذا.

1- أخرج أحمد في مسنده عن شيخه إبراهيم بن إسحاق الطالقاني أحاديث منها (15، 2791، 5890) وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق يغرب، بينما ترجمه ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف!

2- وأخرج أحمد في مسنده عن إبراهيم بن أبي العباس السامريّ (54) رواية، وقد وثّقه جماعة، لكنّ أحمد نفسه قال فيه: صالح الحديث، وقال مرة أخرى: ثقةٌ لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازيّ: شيخ، وجميع هذه الأقوال تعني: لا يحتجّ به، إنما يعتبر بحديثه! 

3- وأخرج أحمد في مسنده عن ثابت بن الوليد بن عبدالله الزهريّ أثراً واحداً (22683) يحكي ولادةَ الصحابيّ الصغير أبي الطفيل الليثيّ.

ترجمه ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، وترجمه ابن حجر في التقريب وقال: صدوق ربما أخطأ.

4- وروى أحمد في مسنده عن عامر بن صالح بن عبدالله القرشيّ الأسديّ (19) روايةً.

ترجمه ابن حجر في التقريب وقال: متروك!

وترجمه الذهبيّ في الميزان (2: 360) ونقل عن أبي داود السجستانيّ قال: سمعت يحيى بن معين يقول: أَجُنَّ أحمد، يحدّث عن عامر بن صالح؟

وقال يحيى فيه: كذاب خبيث!

5- علي بن مجاهد بن مسلم القاضي الكابلي، ترجمه ابن حجر في التقريب وقال: متروكٌ، وليس في شيوخ أحمد أضعف منه!

قال عداب: في سؤالات أبي داود لأحمدَ (563) قال: سئل أحمد عن علي بن مجاهد؟ فقال: كتبنا عنه، ما أرى به بأساً!

لكنّ أحمدَ لم يخرّج عنه في مسنده أيَّ حديث، إنما أخرج له في مواضع أخرى!

أخرج عنه في مسائل صالح لأبيه أحمد روايات عديدةً، منها (851، 852، 854) وليس فيها حديث مرفوع.

ختاماً: لا ريبَ في أنّ الإمامَ أحمدَ محدّثٌ كبيرٌ، لكنه كما ذكرت في منشورٍ سابقٍ أميلُ إلى التساهل.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق