الأحد، 6 أغسطس 2023

  مِنْ عِبَرِ التاريخِ (12):

تَرجمةُ الإمامِ الشافعيّ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ترجم ابنُ الأثير للإمام الشافعيّ ترجمةً وافيةً في كتابه جامع الأصول (12: 868) فقال:

« مُحمّدُ بنُ إدريسَ الشّافِعيُّ:

هو الإمام أبو عبدالله محمدُ بنُ إدريسَ بنِ العبَّاس بن عثْمان بن شافع بن السَّائب بن عُبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المُطّلب بن عبد مناف القُرَشيُّ المُطَّلبيُّ، لقيَ شافعُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو مُتَرَعْرِعٌ [يقصد: كان شافعٌ صبيّاً].

وأسلم أبوه السائبُ يومَ بدر، كان السائبُ صاحبَ رايةِ بني هاشمٍ - مع المشركين ضدّ الرسولِ صلى الله عليه وسلم - فأُسِرَ، ففدَى نَفسَه، ثم أسلَم.

وُلِدَ الشَّافعيُّ بغَزَّةَ سنةَ خمسين ومائة، وحُمِل إلى مكةَ، وهو ابن سنتين.

ومناقبُه أكثرُ من أن تُعدَّ، وفضائلُه أكثرُ من أن تُحْصى، إمامُ الدنيا، وعالمُ الأرضِ شرقاً وغرباً، جمعَ اللهُ له من العلومِ والمفاخرِ، ما لم يَجْمَعْ لإِمامٍ قبلَه ولا بعدَه، وانتشر له من الذِّكر ما لم ينتشر لأحد سواه!

قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: قلت لأبي: أيُّ رجل كان الشافعيُّ، فإني سمعتُكَ تُكْثرُ من الدُّعاء له؟

فقال لي: يا بُنيَّ: كان الشَّافعيُّ كالشمسِ للنّهار، وكالعافية للناسِ، فانظرْ هل لهذين من خَلَفٍ أو عَنهما عِوضٌ؟

وقال أحمد ابن حنبل: ما بتُّ مُنذ ثلاثين سنةً، إلاَّ وأنا أدعو للشافعيِّ، وأستغفرُ له.

وقال أبو ثور: مَن زَعَم أنّه رأى مثلَ محمّد بن إدريسَ، في علمهِ، وفصاحتِه، ومعرفتِه، وثباتِه، وتمكُّنه؛ فقد كذبَ.

كان مُنقطعَ القرين في حياته، فلمّا مضى لسبيله؛ لم يُعْتَضْ منه.

قدمَ بغدادَ سنة خمس وتسعين ومائة، وأقامَ بها سنتين، ثم خرجَ إلى مكةَ، ثم قدمها سنة ثمان وتسعين، فأقامَ أشهراً، ثم خرج إلى مصرَ، ومات بها في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وله أربع وخمسون سنة.

سمع مالكَ بنَ أنس الأصبحيّ، وإبراهيمَ بنَ سعد الزهريّ، وسُفيانَ بنَ عيينةَ الهلاليّ، وداودَ بن عبدِالرحمن العبديّ العطّارَ، وعبدَالعزيز بن محمد الدَّرَاوَرْديَّ، ومُسلمَ بنَ خالدِ الزَّنْجي، وإبراهيمَ بن محمّد بن أبي يحيى الأسلميّ، وعمَّه محمدَ بن علي بن شافع، وعبدَالله بن الحارث المَخزومي، ومحمدَ بنَ إسماعيلَ بن أبي فُدَيْك، وسعيدَ بن سالم القَدَّاح، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن عُلَيَّة، وخلقاً سواهم كثيراً.

حدَّثَ عنه سليمانُ بنُ داودَ الهاشمي، وأحمدُ ابنُ حنبل، وأبو ثورِ إبراهيمُ بن خالد الكلبيّ، والحسين بن علي الكَرَابيسيّ، والحُسنُ بنُ محمد الزعفراني، وأبو إبراهيم المُزَني، والرَّبيع بن سليمان المرادي، وخلق كثير غيرهم.

اتّفقَ العلماءُ قاطبةً من أهلِ الفقهِ والأصول والحديث واللغة والنحو، وغير ذلك؛ على ثقتهِ، وأمانتهِ، وعدالتهِ، وزهده وورعه، وتقواه، وجوده، ونزاهة عرضه، وعفة نفسه، وحسن سيرته، وعلوِّ قدره.

فالمُطنبُ في وصفه مُقصّر، والمُسْهِبُ في مدحه مُقتَصِر، رحمةُ الله عليه» انتهى كلام ابن الأثير.

قال الفقير عداب:

الشافعيُّ إمامٌ في اللغة، إمامٌ في الأدب، إمامٌ في الأصول، بل هو الذي وضع للمسلمين هذا العلم، إمام في الفقه المقارن، إمام في التفسير، إمام في الحديث وفنونه، إمام في المناظرة وانتزاع الحجج، وله مشاركات في علوم دنيويّةٍ عديدة، مثل الفلك والطب والفراسة، ولو جاز لعالمٍ أن يُقلِّد عالماً؛ لجازَ له تقليدُ الإمام الشافعيّ!

وقد نقل المزي في تهذيب الكمال (24: 379) عن تاريخ بغداد للخطيب (2: 404) مَرثاتين في الإمام الشافعي:

- إحداهما للأديب واللغويّ والشاعر الكبيرأبي بكرِ بن دُريد.

- والأخرى للقاضي أبي الطيّب طاهر بن عبدالله الطبريّ، أختار أولاهما.

قال أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْن الحسنِ بن دُرَيْدٍ الأَزْدِيُّ، يرثي الإمامَ أَبَا عَبدالله الشافعيّ، رحمهما الله تعالى:

بمُلتَفَتَيْهِ للمَشيب طوالعُ • •  ذَوائد، عَنْ وِردِ التَصابي، رَوادعُ

تَصرفْنَه طوعَ العِنان وربما دعاه الصبا فاقتاده وهُوَ طائعُ

ومَن لم يَزَعْه لبُّه وحياؤه فليس له مِن شَيب فَوديه وازعُ

هل النافرُ المَدعوُّ للحَظِّ راجع • •  أم النُصح مَقبولٌ أم الوَعظ نافعُ

أمِ الهَمِكُ المهمومُ بالجمع عالم بأن الذي يُرعى من المال ضائعُ

وأنّ قُصاراه على فَرط ضَنّهِ فراقُ الذي أضحى له، وهْوَ جامعُ

ويَخمُل ذِكرُ المرء ذي المال بَعدَه ولكنَّ جمعَ العلم للمرء رافعُ

ألم تَرَ آثارَ ابنِ إدريسَ بعدَه دَلائِلُها في المشكلات لوامعُ

مَعالمُ يَفنى الدهرُ وهْي خَوالدٌ وتَنخفضُ الأعلامُ وهْي فَوارعُ

مَناهجُ فِيها للهُدى مُتصرَّفٌ مَواردُ فيها للرشادِ شَرائعُ

ظواهِرُها حُكْمٌ ومُستنبطاتُها لما حَكَم التَفريقُ فيه جَوامعُ

لِرأيِ ابنِ إدريسَ ابنِ عم أحْمَدٍ ضياءٌ، إذا مَا أظلم الخَطبُ ساطعُ

إذا المُفْظِعاتُ المشكلاتُ تَشابهت سما منه نورٌ في دُجاهُنَّ لامعُ

أبى اللهُ إِلّا رَفعَه وعُلُوَّه وليس لما يُعليه ذو العَرش واضعٌ

تَوخّى الهُدى، فاستَنقَذَتْهُ يدُ التُقى مِن الزَيغ، إنّ الزيغَ للمَرءِ صارِعُ

ولاذَ بآثارِ الرسولِ، فحُكْمُه لحُكْم رَسولِ اللهِ في الناسِ تابعُ

وعَوَّلَ في أحكامِه وقضائِه على ما قَضى في الوَحْيِ، والحقُّ ناصِعُ

بَطيءٌ عَنِ الرَأيِ المَخوفِ التباسُه إليه، إذا لم يَخشَ لَبْساً مُسارعُ

جَرت لبُحور العِلم أَمدادُ فِكرِه لها مَددٌ في العالمينَ يُتابَعُ

وأنشى له مُنشيه مِن خَير مَعدِنٍ خَلائقُ هُنّ الباهِراتُ البَوارعُ

تَسربَل بالتَقوى وليداً وناشئاً وخُصَّ بِلُبِّ الكَهْلِ، مُذْ هُو يافعُ

وهُذِّبَ حَتَّى لم تُشِرْ بَفَضيلةٍ إذا التُمِسَتْ إلا إليه الأ صابعُ

فَمَنْ يَكُ عِلم الشافعيِّ إمامَه فمَرتَعُه في باحةِ العِلم واسعُ

سَلامٌ على قَبرٍ تَضَمّن جِسْمَه وجادَتْ عَلَيْهِ المُدْجِناتُ الهَوامِعُ

لقد غَيّبَتْ أثْراؤه جِسْمَ ماجِدٍ جَليلٍ، إذا التَفّتْ عَلَيْهِ المَجامِعُ

لَئِنْ فَجَعَتْنا الحادِثاتُ بشَخْصِه لهُنَّ لما حُكِّمْن فيه فَواجعُ

فأحكامُه فينا بُدورٌ زَواهِرٌ وآثارُه فينا نُجومٌ طَوالعُ» انتهى ما في تاريخ بغداد.

ختاماً: يمتاز الإمام الشافعيُّ عن بقيّة الأئمّةِ الأربعةِ، الذين تقدّمت تراجمهم بما يأتي:

- بأنّه حجّةٌ في اللغةِ، دونهم!

- وأنّه أديبٌ وشاعرٌ دونهم!

- وأنّه أصوليّ قواعديٌّ، ولا يُعرف ذلك عنهم!

- وأنّه مقعّدٌ لقواعد علوم الحديثِ دونهم!

- وأنّه لم يخطئ بحديثٍ رواه، دونهم!

- وأنّه فارسٌ رامٍ دونهم!

- وأنّه عالم بالفِراسةِ دونهم!

- وأنّه قرشيٌّ دونهم!

- وبالتالي هو المؤهّل وحده لتقليدِ العوامِّ، دونهم!

ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ كلامي هذا تعصّب للإمام الشافعيّ، فأنا نشأتُ حنفيّاً ماتريديّاً نقشبنديّاً، حتى عام (1973) عندها قرّرتُ اتّباعَ مذهب الشافعيّ!

وعندما كتبتُ كتابي «القرآن الكريم ودعاوى النَسْخِ فيه» في عامي (1976 - 1977) وقفتُ للإمام الشافعيِّ على أربعَ عشرَةَ دعوى مِن دعاوى النَسخِ في القرآن العظيم، خالفتُه في جميعِها، وأقمتُ الحجّةَ على عدمِ وجودِ ناسخٍ ولا منسوخٍ فيها.

إنّما هي الحقيقةُ التي أَدين الله تعالى بها:

الإمامُ عليُّ بن أبي طالبٍ إمام الصحابةِ في كلِّ شيءٍ.

والإمام محمد بن إدريس الشافعيّ إمام أئمة اللغةِ والفقه والحديث بعدَه!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق