مِنْ عِبَرِ التاريخِ (11):
تَرجمةُ الإمامِ أحمدَ ابن حنبل !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال
مجدُ الدينِ ابنُ الأثير في جامع الأصول (12: 167) ما نصّه:
-
«أحمد بن محمد بن حنبل:
هو
أبو عبدِاللهِ أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ حَنبلِ بن هِلال... من بني ذُهْلِ بن ثَعلبةَ
الشيباني الإمام المروزيُّ.
ولد
ببغدادَ سنة أربعٍ وستين ومائة، ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون
سنة.
كان
إماماً في الفقه، والحديث، والزُّهد، والورع، والعبادة، وبه عُرِف الصحيحُ من
السَّقيم، والمجروح من المعدَّل.
نشأ
ببغدادَ، وطلبَ العلم، وسمعَ الحديثَ مِن شيوخها، ثم رحَل إلى الكوفة، والبصرة،
ومكّةّ، والمدينةِ، واليَمنِ، والشامِ، والجَزيرة، وكتب عَن علماء ذلك العصر.
فسمع
من إسماعيلَ ابن عُلَيَّةَ، وهُشَيم بن بشير، ويَزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد
القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجرَّاح، وسفيان بن
عيينة، ومحمد بن إدريس الشافعي الإمام، وعبد الرزاق بن همَّام وخلق كثير سواهم.
روى
عنه ابناه صالحٌ وعبدُاللهِ، وابنُ عمَّه حَنبلُ بن إسحاقَ، ومحمد بن إسماعيل
البخاري، ومسلم بن الحجَّاج النيسابوري، وأبو زُرْعةَ وأبو حاتم الرازيَّان، وأبو داود
السجستاني، وخلق سواهم كثير.
إلا
أنّ البُخاريَّ لم يَذكر في «صحيحه» عنه، إلا حديثاً واحداً في آخر الصَّدقات
تعليقاً (5879).
وروى البخاريُّ
عن أحمدَ بنِ الحَسنِ التِرمذيِّ، عن أحمد حديثاً آخر (4473) قال ذلك الحازِمي.
قال عداب: بينما
روى مسلمٌ من طريقِ شيخِه أحمدَ ابن حنبلٍ تسعة عشر حديثاً، منها (166، 215، 502، 581،
710).
قال ابن
الأثير: «فضائله كثيرة، ومناقبه جمَّة، وآثاره في الإسلام مشهورة، ومقاماته في
الدين مذكورة، انتشر ذكرُه في الآفاقِ، وسرَى حمدُه في البلاد، وهو أحدُ المجتهدين
المَعمولُ بقولِه ورأيِه ومذهَبِه، في كثير من البلاد، والمأخوذُ بهَدْيِه ودَلِّهِ
في الأغوار والأنجاد.
قال إسحاق بن راهَوَيْهِ:
أحمد ابن حنبل حجةٌ بين الله وبين عبيده، في أرضه.
وقال الشافعي:
خرجتُ من بغداد، وما خلَّفت بها أحداً أتقى، ولا أوْرَع، ولا أفقهَ ولا أعلَمَ من
أحمد ابن حَنبلٍ.
وقال أحمد بن
سعيد الدارمي: ما رأيتُ أسودَ الرأس أحفظَ لحديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم،
ولا أعلمَ بفقْهِه ومَعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل» انتهى كلام ابن الأثير.
قال الفقير
عداب: كلام الشافعيّ في مديح أحمد «خرجتُ
من بغداد، وما خلَّفت بها أحداً أتقى، ولا أوْرَع، ولا أفقهَ ولا أعلَمَ من أحمد
ابن حَنبلٍ» أخرجه ابن عديٍّ في مقدمة الكامل (1: 210) قال: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا
بْنُ يَحْيى الساجي: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ عَبداللهِ الْخُوَارِزْمِيُّ:
أَخْبَرنا حَرْمَلَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: «خَرَجْتُ مِنَ
الْعِرَاقِ، فَمَا خَلَّفْتُ بِالْعِرَاقِ رَجُلا أَفْضَلَ، ولاَ أَعْلَمَ، ولاَ
أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ».
وأخرجه الخطيب
البغداديّ في تاريخه (6: 90) من طريق الحافظ مُحَمَّدَ بن يعقوبَ الأصمِّ، قَالَ:
سمعت أبا يعقوب الخوارزمي ببيت المقدس، قَالَ: سمعت حرملة بْن يحيى، يقول: سمعت
الشافعي، يقول: وساقه بنحوه.
وأخرجه ابن عساكر
في تاريخ دمشق (5: 272) من طريق زكريّا بن يحيى الساجي ومحمّد بن يعقوب الأصمّ،
كلاهما عن يوسف بن عبدالله الخوارزميّ، به مثلَه.
فمدار هذه
الروايةِ على أبي يعقوبَ الخوارزميّ (ت: 271 - 280 هـ) هذا.
ترجمه الذهبيُّ
في تاريخ الإسلام (6: 644) وقال: «ما علمتُ به بأساً».
وبالعودةِ إلى
كتب الرواية والتاريخ والسيرة والأنساب والرجالِ الثقاتِ والضعفاء؛ وجدتُ هذا
الراوي قد روى عن جمعٍ من الشيوخِ، وروى عنه جمعٌ من التلامذة، ولم أقف فيه على
جرح أو تعديلٍ، سوى كلمة الذهبيّ هذه «ما علمتُ به بأساً».
وجميعُ ما وقفت
عليه من رواياته الأحاديثَ:
- حديثُ أنس بن
مالك عند الخطيب البغداديّ في التاريخ (2: 504) وغيره.
- وحديثُ أبي
الزبير عن جابر، في المشيخة البغدادية لأبي طاهر السٍلَفيّ (39) وفي إسناده
عبدالله بن لهيعة.
- وثناء
الشافعيّ على أحمد ابن حنبلٍ.
وهذه القصة مخرّجة
في عدد من كتب التاريخ، رواها عن أبي يعقوبَ هذا اثنان كما تقدّم قريباً.
- وهي من رواية
الحافظ أبي العبّاس الأصمّ عن أبي يعقوبَ هذا بلفظ: «خرجت من بغدادَ وما خَلفتُ بها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه.
أظنه قَالَ:
ولا أعلمَ من أَحْمَد ابن حَنْبَل» كما تقدّم
في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق.
- وهي من رواية الحافظ زكريّا بن يحيى الساجي عن أبي يعقوب هذا بلفظ: «خَرَجْتُ مِنَ
الْعِرَاقِ فَمَا خَلَّفْتُ بِالْعِرَاقِ رَجُلا أَفْضَلَ، ولاَ أَعْلَمَ، ولاَ
أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ» عند ابن
عديٍّ في الكامل (1: 210).
وفرق بين الروايتين كبير؛ إذ كانوا يقصدون بالعِلم الحديثَ، ويقصدون بالفقه
الاستنباط!
عموماً هذه هي حالُ الراوي الوحيد لهذه القصّة، وهو ليس ممن يُقبَل تفرّده
في قصّة مثل هذه، غابت عن جميع تلامذة حَرْمَلَةَ الكثيرين!
وما لنا نذهب بعيداً، فهذا هو أحمد ابن حنبل يقول: «أحفظنا
للمطولات الشاذكوني. وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن
المديني، وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقههم»
أخرجه ابن حبّان في مقدمة كتابه «المجروحين» فقال: سمعت علي بن أحمد
الجرجاني بحلب، يقول: سمعت حنبل بن إسحاق بن حنبل، يقول: سمعت أحمد ابن حنبل يقول.
ولا يخفى على
طلّاب العلم؛ أنّ الإمام ابن جرير الطبريّ والإمام أبا عمر بن عبدالبَرّ؛ لم يذكرا
أحمدَ ابن حنبلٍ في مجتهدي الفقهاء!
فيكون كلامُ
أحمد هنا خاصّاً بفقهاءِ أهل الحديث وحسب!
وعليه: فيحيى
بن معينٍ أعلم بالرجالِ من أحمد، وعليّ ابن المديني أعلم منه بالعلل!
وتكون إطلاقاتُ
التعظيمِ والتفخيم؛ من جملة المنقبيّاتِ التي درج عليها المصنّفون في تراجم
الرجال.
غير أنّ أكبرَ
ما يُنسبُ إلى أحمدَ ابنِ حنبلٍ؛ المسارعةُ في التكفير!
ففي طبقات
الحنابلة (1: 145): «قال حنبل بْن إِسْحَاقَ: سمعت أبا عبداللهِ يقول: من زعم أن اللهَ
لا يُرى فِي الآخرةِ؛ فقد كفَر باللهِ، وكذّب بالقرآنِ، وردَّ عَلَى اللهِ أمرَه، يُستتاب،
فإنْ تابَ، وإلّا قُتل.
والله تعالى لا
يُرَى فِي الدنيا، ويُرَى فِي الآخرة».
قال عداب: ليس
قولُ الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) نصّاً
في إثباتِ الرؤية، فناظرةٌ تأتي بمعنى منتظرة، فعلى هذا لا يسوغُ تكفيرُ من قال:
بعدم رؤية الله تعالى البصريّة في الآخرة!
وهذا يشير إلى قلّة
معرفة أحمدَ ابن حنبلٍ بفنون البيان ومجازات القرآن، ولم يذكره أحدٌ في طبقات
اللغويين أو النحويين أو الأدباء، على كلّ حالٍ!
وفي
طبقاتِ الحنابلة (1: 319): «قال مُحَمَّد بْن منصور الطوسيّ «الحافظ»: سمعت أحمد ابن
حنبل يقول: مَن زَعم أنّه كان فِي أصحاب النَّبِيّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خيرٌ مِن أبي بكرٍ، فولّاه رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
فقد افترى عَلَى رسوله، وكفر بأنْ زعم أنّ اللهَ يُقِرُّ المنكرَ بين أنبيائه فِي
الناس، فيكون ذلك إضْلالاً لهم».
أنا
لم أفهم هذا الكلامَ أصلاً، حبّذا لو شرحه لنا أحدٌ، وما مناطُ التكفير فيه؟
وفي
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداويّ (10: 321): «ذَكَرَ
الْمَرُّوذِيُّ لأحمَدَ عَمْرَوَ بْنَ عُبَيْدٍ؟ قَالَ أحمَدُ: كَانَ لَا يُقِرُّ
بِالْعِلْمِ، وَهَذَا كَافِرٌ!
وَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: الْكَرَابِيسِيُّ يَقُولُ: مَنْ لَمْ
يَقُلْ: لَفْظُهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ!
فَقَالَ أحمد: هُوَ الْكَافِرُ».
قال
الفقير عداب: لا ريب عندي في أنّ أحمدَ ابن حنبلٍ أكثر علماء الإسلام حتى نهايةِ
القرنِ الثالثِ الهجريّ تكفيراً لمخالفيه من أهل القبلة!
ونحن
يجب أن نفرّق بين حالين، معظمُ أتباعِ أحمد لا يفرّقون بينهما:
الحالُ
الأولى: تقوى الرجل وعبادته وورعه وزهده في الدنيا.
والحالُ
الثانيةُ: آراؤه واتّجاهاته العقديّةُ والفكريّة والسلوكيّة!
الحالُ
الأولى: يشترك فيها جميع شيوخي من أهل السنّة والشيعة والإباضيّة!
فشيخي
محمّد الحامد.
وشيخي
سعيد حوّى.
وشيخي
مروان حديد.
وشيخي
محمد الحافظ التجّاني.
وشيخي
نور الدين عتر.
وشيخي
أحمد محمد نور سيف.
وشيخي
المفتي أحمد الخليليّ.
وشيخي
المفتي عبدالعزيز ابن باز.
وشيخي
المرجع الدينيّ السيّد علي السيستانيّ.
وشيخي
السيّد محمد الكسنزانيّ.
وعشراتٌ
آخرون من شيوخي؛ جميعهم أتقياءُ أنقياءُ عُبّادٌ مهذّبون مؤدّبون، لا تستطيع أن
تجدَ لهم زلّةً أخلاقيّةً أو سلوكيّة.
وبهذا
المعنى أقول: شيوخي من أهل السنّة بمذاهبهم، وشيوخي من الشيعة بمدارسهم، وشيوخي من
الإباضيّة بمدارسهم؛ جميعهم عبّادٌ صالحون أتقياء!
أمّا
حالُهم الثانيةُ، وآراؤهم واتّجاهاتهم العقديّةُ والفكريّةُ؛ فيختلفون فيما بينهم
اختلافاً بيّناً، وجميعهم يخطّئُ بعضُهم بعضاً، ويضلّل بعضهم آراءَ بعض!
وكذلك
كان الإمام أحمدُ ابن حنبلٍ، وأكثرُ المسلمين منذ ذلك التاريخ وحتّى اليوم؛ ليس
لديهم اعتدالٌ في الحكم، ولا توازنُ في المواقف، ويندر لدى جميعهم التماسُ
الأعذار، وحملُ مخالفاتهم على الاجتهادِ، الذي يؤجَر المصيب فيه، ولا يأثم المجتهد
المخطئ، إذا كان من أهل الاجتهاد والصلاح.
رحم
الله علماءَنا الصالحين الأتقياءَ، على مدار التاريخ الإسلاميّ، من السنّة والشيعة
والإباضيّة والمعتزلةِ والجهميّة، ورحمنا معهم، وغفر لنا ولهم ما اجتهدنا واجتهدوا
فيه، فجانبوا الحقَّ والصوابَ غيرَ عامدين؛ إنّه هو العزيز الحكيم، الرحمن الرحيم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله
وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمدُ للهِ على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق