الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

      مِنْ عِبَرِ التاريخِ (10):

تَرجمةُ الإمامِ مالكِ بن أنسٍ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال مجد الدين ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول  (1: 180 - 184):

 الإمام مالكُ بن أنسٍ:

هو أبو عبدِالله مالكُ بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث ... من بني حِمْيَرِ بنِ سبأٍ الأكبرِ، ثم من بني يَشْجبَ بنِ قَحطانَ، وفي نسبه خلافٌ غير هذا.

ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة، ومات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وله أربع وثمانون سنة.

وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة، وله وَلدٌ اسمه يحيى ([1]) ولا يُعْلَم له غيرُه.

هو إمام أهل الحجاز، بل إمامُ الناس في الفقه والحديثِ، وكفاه فخراً أنّ الشافعيَّ من أصحابه.

أخذ العلمَ عن محمّد ابن شهابٍ الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونافع مولى عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، ومحمّد بن المنكدر، وهشام بن عروة بن الزبير، وإسماعيل بن أبي حكيم، وزيد بن أسلم... وخلقٍ كثير سواهم.

وأخذ العلمَ عنه خَلقٌ كثيرٌ، لا يُحْصَون كثرةً، وهم أئمّةُ البلاد.

منهم: الشافعيُّ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وأبو هاشم المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وأبو عبد الله عبد العزيز بن أبي حازم، وأبو مروان عبدُالملك بن عبد العزيز «الماجشون» ويحيى بن يحيى الليثيّ الأندلسي، ومن طريقه رُوّينا «الموطأ» وعبد الله بن مسلمة القَعْنَبيّ، وعبد الله بن وهب، وأصبغ بن الفرج، وغير هؤلاء ممن لا يحصى عدده.

وهؤلاء مشايخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم من أئمة الحديث.

قال مالكٌ رحمةُ الله عليه : قلَّ مَنْ كتَبْتُ عنه العلم، ما ماتَ حتى يجيئَني ويستفتِيَني.

وقال بكر بن عبد الله الصنعاني: أتينا مالكَ بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة بن عبدالرحمن، وكنّا نستزيده من حديثه، فقال لنا ذات يوم: ما تَصنعون بربيعة، وهو نائم في ذلك الطاق؟

فأتينا ربيعةَ، فأنبهناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم.

قلنا: كيف حَظي بك مالكٌ، ولم تحظ أنت بنفسك؟ !

قال: أما عَلمتم أن مثقالاً من دَولةٍ؛ خيرٌ مِن حِمْلِ عِلمٍ؟

وكان مالكٌ مبالغًا في تعظيم العلم والدين، حتى كان إذا أراد أن يُحَدِّثَ؛ تَوضّأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، واستعمل الطيب، وتمكّن مِن الجلوس على وقارٍ وهَيبةٍ، ثم حدَّث!

فقيل له في ذلك، فقال: أُحب أن أُعظِّم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم .

ومر يومًا على أبي حازمٍ «سلمةَ بنِ دينارٍ» وهو جالس، فجازه، فقيل له؟

فقال: إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديثَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا قائم.

قال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصحُّ حديثًا من مالك.

وقال الشافعي رحمه الله : إذا ذُكِر العلماء؛ فمالكٌ النجم، وما أحد أمَنَّ عليّ مِن مالك رحمة الله عليه.

ورُوي أنّ المنصورَ منعه مِن رواية الحديثِ في طلاقِ المُكْرَه، ثم دَسّ عليه مَن يسأله، فروى مالكٌ على مَلأٍ مِن الناس: «ليس على مُستكْرَهٍ طلاقٌ»([2]) فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث.

وروي أن الرشيد سأل مالكًا فقال: هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار.

وقال: اشتر بها دارًا، فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوصَ؛ قال لمالك: ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على «الموطأ» كما حمل عثمانُ الناسَ على القرآن.

فقال مالكٌ: أمَّا حمل الناس على «الموطأ» فليس إلى ذلك سبيل؛ لأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تفرقوا بعده في الأمصار، فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم!

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) ([3]) وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون) ([4]) وقال: (المدينةُ تَنفي خَبَثَها) ([5])     وهَذي دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها.

قال ابنُ الأثير: يعني: إنّك إنما تكلّفُني مُفارقةَ المدينةِ، لما اصطنعتَه إليَّ، فلا أُوثِر الدنيا على مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وقال الشافعيُّ رحمه اللهُ : رأيتُ على باب مالكٍ كُراعاً من أفراسِ خراسان، وبغالِ مصر، ما رأيت أحسنَ منه، فقلت له: ما أحسنه!

فقال: هو هديةٌ مني إليك يا أبا عبد الله!

فقلت: دَعْ لنفسك منها دابةً تركبها؟ فقال: أنا أستحيي مِن الله تعالى أنْ أطأ تربةً فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بحافر دابة!

وكَم مثلُ هذه المناقبِ، لهذا الطَّود الأشَمِّ، والبَحرِ الزاخر» انتهى كلام ابن الأثير.

قال الفقير عداب: ترجمة ابن الأثير لمالكٍ، فيها قدرٌ غير قليلٍ من المنقبيّة، وهذا شأن مؤرّخينا بعد القرن الرابع الهجريّ، وللأسف!

وينبغي أن نتوقّفَ عند ثلاثِ نقاط:

الأولى: قول شيخه ربيعة الرأي: «إنّ مثقالاً من دَولةٍ؛ خيرٌ مِن حِمْلِ عِلمٍ».

وهو يشيرُ إلى صلتِه بالخلفاء العباسيّين، وتوقيرهم إيّاه، ممّا يجعل له احتراماً بين الناس.

والثانية: قول ابن الأثير: « هو إمام أهل الحجاز، بل إمامُ الناس في الفقه والحديثِ».

والحقيقةُ أنّ أحاديثَ مالكٍ الصحيحةَ الموصولةَ لا تتجاوَزُ (700) حديثٍ، وأقوالُه في الجرح والتعديل، وفي العلل نادرةٌ جدّاً، إنّما كان له القَبولُ من الناس.

وأمّا عن قول ابن الأثير: إنّه إمامُ الناس في الفقه؛ فقد نقل الذهبيُّ في النبلاء (8: 156) عن الإمام الشافعيّ قولَه: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ، إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ».

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ بُكَيْرٍ يَقُوْلُ: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّ الحُظْوَةَ لِمَالِكٍ، رَحِمَهُ اللهُ».

وَقَالَ حَرْملَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: «اللَّيْث أَتْبَعُ لِلأَثَرِ مِنْ مَالِكٍ».

ونقل عن إبراهيمَ الحربيّ قولَه: «سَأَلْتُ أَحْمَدَ ابنَ حَنْبَلٍ:

مَا تَقُوْلُ فِي مَالِكٍ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، وَرَأْيٌ ضَعِيْفٌ!

قُلْتُ: فَالأَوْزَاعِيُّ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ، وَرَأْيٌ ضَعِيْفٌ !

قُلْتُ: فَالشَّافِعِيُّ؟ قَالَ: حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ، وَرَأْيٌ صَحِيْحٌ».

وقولُ أحمدَ هذا؛ يؤكّدُ ما أقولُه دائماً: إنّ الإمام الشافعيّ هو إمام الفقهاء في عصره وما بعد عصره، وإلى يوم الناس هذا، وسأوضح ذلك في ترجمته، إن شاء الله تعالى.

النقطةُ الثالثةُ: كان مالكٌ يقبلُ أُعطيات السلاطين، ويقبلُ هدايا العلماء، وكان الليث بن سعدٍ خصّص لمالكٍ مرتّباً سنويّاً، يرسله إليه من مصر إلى المدينة النبويّة!

كما كان يقبلُ عطايا الناسِ وهداياهم.

وقَبولُ المالِ؛ يجعل العالمَ أسيرَ صاحب المال، ولا بدّ من أن يجامله!

قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا؛ خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، واليَدُ الْعُلْيَا؛ هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» أخرجه البخاريّ في الزكاة (1429) ومسلم في الزكاة (1033).

وفي أعلام النبلاء (7: 142) ما نصّه: « قَالَ أَحْمَدُ في محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ذئبٍ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بِالحَقِّ مِنْ مَالِكٍ».

وفيه أيضاً: « قَالَ حَمَّادُ بنُ خَالِدٍ الخيّاط القرشيّ: «كَانَ ابن أبي ذئبٍ يُشَبَّهَ بَابْنِ المُسَيِّبِ!

وَمَا كَانَ هُوَ وَمَالِكٌ فِي مَوْضِعٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ، إِلاَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ بِالحَقِّ، وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَالِكٌ سَاكِتٌ» رحمهم الله تعالى أجمعين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.



([1]) ترجمه ابن حبّان في الثقات (9: 259) وقال: «سكن الْيمن وَحَدَّثَهُمْ بالموطأ مُسْتَقِيم الحَدِيث» وترجمه العقيليّ في الضعفاء (4: 425) وقال: «حدّث عن أبيه بمناكير».

([2]) ليس هذا حديثاً مرفوعاً إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم، إنّما هو من كلام عبدالله بن عبّاس، رضي الله عنهما، أخرجه ابن أبي شيبةَ في المصنّف (4: 82) ولفظه (ليس لمستكره ولا لمضطهد طلاق) وعلّقه البخاري في صحيحه، في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، عَقبَ حديث (5268) وإسناد ابن أبي شيبةَ حسن.

 ([3]) قال الإمام تاج الدين السبكيّ في الإبهاج (6: 2218): «اعلم أنّ الحديث المشار إليه غير معروف، ولم أقف له على سند، ولا رأيتُ أحداً من الحفّاظ ذكره، إلا البيهقيَّ رحمه الله، في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك، بسبب الأشعري، وقد ساقها الحافظ ابن عساكر».

قال عداب: ومن طريقِ الحافظِ ابن عساكرٍ؛ ساقَ إسنادها إلى البيهقيِّ، التاجُ السبكيُّ في طبقات الشافعية الكبرى (3: 395) وقال: «قد سَاق ابْن عَسَاكِر جَمِيعَه، وَنحن نأتي على أَكْثَره» وليس فيما اقتصر عليه البيهقيّ من خطابِ البيهقيِّ؛ هذا الحديثُ!

([4]) من حديثِ سفيانَ بن أبي زهيرٍ الأزديّ مرفوعاً؛ أخرجه الإمام مالكٌ في الجامعِ من الموطّأ (1642) والبخاريّ في الحجّ، باب من رغب عن المدينة (1875) ومسلم في الحجّ، باب فضل المدينة (1363).

([5]) من حديث أبي هريرة مرفوعاً؛ أخرجه مالك في الجامع (1640) ومن طريق مالكٍ؛ أخرجه البخاريّ في الحجّ، باب فضل المدينة (1871) ومسلمٌ في الحجّ، باب المدينة تنفي شرارَها (1383) جميعهم بلفظ (الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) أمّا لفظ المتنِ، من حديث أبي هريرة؛ فهو عند الطحاوي في مشكل الآثار (1826).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق