الاثنين، 26 سبتمبر 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (61):

عائشةُ أحبّ الناس إلى الرسول!؟

صلّى الله عليه وآلِهِ وسلّم

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قبل الشروع في تخريج الأحاديثِ التي استدلّوا بها على أنّ عائشةَ أحبّ الخلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ يحسن أن أمهّد بتمهيدٍ يسير، فأقول:

- إنّ اهتماماتِ الرجل كثيرةٌ ومتشعبة، بينما اهتمامات المرأة تنحصر في ذاتها ورغباتها، وأعظم رغباتها في الحياة الدنيا؛ أن تكون زوجةً وأمّ أولاد.

- إنّ عوارض المرأةِ النفسيّة والجسمانيّة كثيرةٌ، فهي في اليوم الواحد تتقلّب عدّة مرّات، ولأنّها نرجسيّة أنانيّة بوجه عام؛ فهي قد تغار من أمّها وأخواتها، ومن كلّ امرأةٍ تظنّ هي أنها أجمل منها، أو أنها أكثرُ سعادةً ومتاعاً منها.

- إنّ المرأةَ - كلّ امرأةٍ عرفتُها في هذه الحياة، أمّي وعمّاتي وأخواتي وخالاتي وزوجاتي، تعتقد أنّ لها حاسّةً أنثويّة لا تخطئ إلّا نادراً.

وهي تبني على ما تظنّه إلهاماً أنثويّاً، إلهيّاً لا يخطئ!

- إنّ كلّ امرأة عرفتها، ترى نفسها تستحقّ أضعاف ما تنال من خير وبرٍّ وسعادةٍ ومتاع، ولهذا مهما أكرمها زوجها؛ فهي تطمع بأكثر، إلى ما لا نهاية!

- إنّ أمّنا عائشة رضي الله عنها، عاشت مع سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثماني سنين، أو أكثر قليلاً (9 + 9 = 18) وهذا يعني أنّ السنّ التي غدت فيها أرملةً؛ هي السنّ التي تبدأ فيها الحياة الزوجيّة لأكثر النساء!

وقد عاشت شبابها وكهولتها من (11- 58 هـ) من دون زوجٍ مؤنسٍ، مُسعدٍ في الحياة.

ولا يخفى على ذي عَقلٍ ما تحتاجه الأنثى في مراحل حياتها المتقلّبة العديدة، مما يُومأُ إليه إيماءاً، ولا يحسن البوح به من الرجل تجاه أمّه التي أنجبته، فكيف به تجاه أمّ المؤمنين رضي الله عنها؟

- عُرف عن نساءِ بني تيم أنهنّ ذوات شخصيّاتٍ قويّة، وحاجات المرأة ذات الشخصيّة القويّة؛ أضعاف حاجات المرأة الخَفِرَة الحييّة.

فالأولى تحتاج إلى رجلٍ قويّ يستحوذ على شخصيتها، وإلّا فلن تكون سعيدةً أبداً، غنيٍّ يوفّر لها احتياجاتها في أكمل صورها، وهكذا...!

ووجدت عائشةُ نفسها بعد وفاة والدها أبي بكرٍ رضي الله عنه أمَّ المؤمنين، وسيّدة بيتِ أبي بكرٍ، تمرّ عليها الأيام والشهور والسنون، وهي حبيسة بيتها، مع خادمتها!

لا ريب في أنّ هذه حياةٌ قاسيةٌ صعبة، بل أصعب حتى من السجن.

من يعرف عداب الحمش؛ يعلم أنه من أصلب الرجال وأشدّ الرجال!

وقد مضى عليّ ستّ سنواتٍ وحيداً، من دون زوجةٍ، أو حتى خادمٍ، بلغ بي الضيق مبلغاً كبيراً وكبيراً جدّاً، حتى غزتني الكآبة، وغدوت أوثر الوحدةً والانعزال.

وغدوتُ أشدّ حساسيةً وانفعالاً وضجراً من الحياةِ كلّها!

وأمّنا عائشة رضي الله عنها من بني البشر، ليست ملاكاً من السماء، وليست أقوى من الرجال ولا أصبر!

ففي ضوء هذه المقدّمة؛ يجب أن نفهم جميعَ حركات عائشة وسكناتها، إيجابياتِها وسلبياتها، وإلّا فنكون قد ظلمنا أمّنا، وجنفنا عليها !

بإسنادي إلى الإمام محمد بن يزيد القزوينيّ «ابن ماجهْ» في كتابه السنن (101) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ «الضبيُّ» وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَا:

حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدِ «الخزاعيّ الطويل» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ).

قِيلَ له: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَبُوهَا).

وأخرجه الترمذي في جامعه (389) به مثله، وقال: «حسن صحيح، غريبٌ من هذا الوجه، من حديثِ أنس».

وقد أخرجه جمع من المصنّفين، كلهم من حديث المعتمر بن سليمان، به.

وأخرجه ابن حبّان في صحيحه (7107) من حديث معتمر بن سليمان عن حميد الطويل، عن الحسن البصري، عن أَنس، مرفوعاً.

قال أبو حاتم الرازي، كما في العلل لابنه (2651): «هذا حديث منكر، يمكن أن يكون حميد عن الحسن، عن النبي صَلى الله عَليه وسَلم» يعني مرسلاً.

وقال في موضع آخر من العلل (2666): «إنما هو عن الحسن، عن النبيّ صَلى الله عَليه وسَلم، وأما عن أَنسٍ؛ فليس بمحفوظ».

وقال الدارقطنيّ في العلل (2439): «والصحيح: عن مُعتمر، عن حميد، عن الحسن مرسلاً.

فالحديثُ من مراسيل الحسن البصري، ففي جامع التحصيل للعلائيّ (ص: 78) قال الإمام أحمد: «ليس في المرسلات شيءٌ أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح؛ فإنهما كانا يأخذان عن كلّ أحدٍ».

فحديثُ أنسٍ في أنّ عائشةَ أحبّ الخلقِ إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ضعيفٌ، لا يصلح للاحتجاج به.

وبإسنادي إلى الإمام البخاريّ في جامعه الصحيح، كتاب المغازي (4358) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ «بن شاهين الواسطيّ»: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِاللهِ «المزنيّ الطحّان» عَنْ خَالِدِ بن مهرانَ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ «النهدي» أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ.

قَالَ «عَمرُو» فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)!

قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَبُوهَا).

قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (عُمَرُ) فَعَدَّ رِجَالاً، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.

وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2384) من حديث أبي عثمان النهدي قال: أخبرني عمرو بن العاص.

وأخرجه الترمذيّ في فضل عائشة من الجامع (3885) وقال: حسن صحيح.  

مدار حديثِ الباب على عَمرِو بن العاص، رواه عنه:

عامر بن شراحيل الشعبيّ، عند الخرائطيّ في اعتلال القلوب (22) والحاكم في المستدرك (6740) وهو مرسل، لم يسمع الشعبي من عمرو، كما في جامع التحصيل (ص: 204).

وعبدالرحمن بن مَلّ النهديّ، عند البخاري ومسلم والترمذيّ.

وعبدالله بن شقيق، عند أحمد في فضائل الصحابة (1281).

وقيس بن أبي حازم، عند أحمد في فضائل الصحابة (672، 1637).

فعلّةُ الحديثِ؛ في عَمرو بن العاص نفسه.

وعمرو بن العاص؛ صحابيّ أسلم عام فتح مكّة، ثمّ لم تكن له استقامةٌ بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد كان من أكبر المحرّضين على عثمانَ رضي الله عنه، وقاتل الإمامَ عليّاً في مقابل ولايةِ مصر وخراجها.

قال الذهبيّ في تاريخ الإسلام (2: 425): «فائدة: قال الطحاوي:

حدثنا المزنيّ قال: سَمِعْتُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟

قَالَ عمرو: أَصْبَحْتُ وَقَدْ أَصْلَحْتُ مِنْ دُنْيَايَ قَلِيلًا، وَأَفْسَدْتُ مِنْ دِينِي كَثِيراً، فَلَوْ كَانَ مَا أَصْلَحْتُ هُوَ مَا أَفْسَدْتُ؛ لَفُزْتُ!

وَلَوْ كَانَ يَنْفَعُنِي أَنْ أَطْلُبَ؛ طَلَبْتُ، وَلَوْ كَانَ يُنْجِينِي أَنْ أَهْرَبَ؛ هَرَبْتُ!

فَعِظْنِي بِمَوْعِظَةٍ أَنْتَفِعُ بها يا ابن أَخِي؟

فَقَالَ ابن عبّاس: هَيْهَاتَ يَا أَبَا عَبْدِاللهِ!

فَقَالَ عمرو: اللَّهُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُقَنِّطُنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَخُذْ مِنِّي حَتَّى تَرْضَى».

عمرو بن العاص؛ رجلٌ من رجال الدنيا خلّف قناطيرَ مقنطرةً من الذهب كما قال الذهبي في ترجمته من النبلاء (3: 58) حتى كان بها ولدُه عبدالله «الساذج» من ملوك الصحابة، كما قال الذهبي في ترجمته من النبلاء (3: 90).

فعمرو بن العاص؛ عندي ساقط العدالة، حديثه غير مقبول أبداً!

ولا أستبعد أبداً أن يكون وضع هذا الحديث دهاءاً، ليتألّف به قلبَ المرأةِ عائشة أم المؤمنين، بعد أن قتل أخاها محمد بن أبي بكر، وأحرقه في جوف حمار!

قال الذهبيّ في تاريخ الإسلام (2: 340): «قال عَمْرو بن دينار: أُتي عمرو بن العاص بمحمد بْن أبي بَكْر أسيرًا، فقال: هَلْ مَعَك عقد من أحد؟ قَالَ: لَا، فأمر به فقُتِل».

وفي الموضع ذاته: قتله معاويةُ بن حديج، ثُمَّ جعله فِي بطن حمار وأحرقه».

وما وراء ذلك من رواياتِ (الأحبيّةِ) التي يصحّحها بعض العلماء؛ فهي من حديثِ عائشة مع نفسها، ومما تحبّ أن تتشبّع به كلّ أنثى، خصوصاً في ظروفٍ مثل ظروف عائشة!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق