الثلاثاء، 20 سبتمبر 2022

        مَسائلُ حَديثيّةٌ (58):

الطاعنُ في السنّة النبويّة؛ كافرٌ أم فاسق؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

يتردّد على ألسنةِ كثيرٍ من الناس - اليومَ - قولهم: الطاعن في السنة النبوية؛ كافر!

ولو سألتَ أحدهم: ما السنّةُ التي يكفر منكرُها؟ لقال لك: أحاديثُ البخاريّ ومسلمٍ على الأقلّ!

لا يا حبيبي لا، إنّك جاهل، ولا تدري أنّك جاهل!

ولا أدلّ على أنّك جاهلٌ جهلاً مركّباً، من اعتقادِ البخاريّ ومسلمٍ، ومن يتابعهما في قَول أحاديث كتابيهما؛ أنّ (90%) من أحاديثِ الكتابين ظنيّة الثبوت، وليس في الكتابين (2%) قطعيّ الثبوت!

والله تعالى لم يمدح الظنّ في كتابه قطّ!

قال الله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) [الأنعام].

(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) [يونس].

فالسنّة النبويّة التي يكفرُ منكرُها؛ هي السنّة التي لم يختلفْ فيها أصحاب الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم قطُّ!

وأيّ حكمٍ اختلف فيه أصحاب الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى قولين أو ثلاثةِ أقوالٍ؛ فقد قال جماهير الأصوليين: يجب أن ينحصر الخلاف الفقهي في حدودِ ما اختلف فيه الأصحابُ، ولا يجوز استحداثُ قولٍ ثالثٍ أو رابعٍ!

ولو نحن سلّمنا بقول الأصوليين هذا؛ فإننا سنرجّح بين قوْلَي الصحابة، أو بين أقوالهم الثلاثة، فأرى أنا مثلاً قولَ الإمام عليّ عليه السلام؛ هو الأصوب!

بينما ترى أنت قولَ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هو الأصوب!

ويرى ثالثٌ أنّ قول عبدالله بن العباس رضي الله عنهم هو الأصوب!

فأيّ الأقوال الثلاثةِ هو السنّة النبويّة؟

هذا من جهة!

ومن جهة أخرى أهمّ من هذه الجهةِ؛ هي تفاوتُ مراتب الحديث الصحيح!

(1) فهناك حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم سبعةٌ من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

فهذا حديث متواتر، يعطيه الفقير عداب مرتبة (100%).

(2) وهناك حديثٌ حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ستةٌ من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا حديثٌ يمكن أن نعطيه درجة (98%).

(3) وهناك حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم خمسةٌ من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا حديثٌ يمكن أن نعطيه درجة (95%).

(4) وهناك حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعةٌ من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا حديثٌ مشهورٌ، يمكن أن نعطيه درجة (90%) افتراضاً.

(5) وهناك حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثةٌ من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا حديثٌ مستفيضٌ، يمكن أن نعطيه درجة (80%) افتراضاً.

(6) وهناك حديثٌ يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم اثنان من الصحابة!

كلّ حديثٍ منها يُروى بطريقٍ صحيح أو حسن لذاته، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا حديثٌ عزيزٌ، لا يمكننا بحالٍ أن نعطيه أكثر من درجة (60%).

(7) وهناك الحديثُ الذي لا يرويه عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من عشرةِ آلاف صحابيّ، كانوا يسكنون المدينة يوم وفاة الرسولِ الأكرم، سوى صحابيّ واحدٍ كبير يترجّح أنّه سمع الحديثَ مباشرةً من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ويُروى هذا الحديثُ بطريقٍ صحيح، ومتنه سليمٌ من الشذوذ أو النكارة.

وهذا الحديثٌ على مراتب كثيرةٍ، على النحو الآتي:

(أ) حديث فردٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى صحابيّ واحد، لكنْ رواه عن ذلك الصحابيّ سبعةٌ بين ثقة وصدوق!

فهذا حديثٌ فردٌ عن الرسول، لكنه متواترٌ عن ذاك الصحابيّ!

فإذا كان الراوي لهذا الحديثِ من علماء الصحابة وأذكيائهم، مثل الإمامِ عليٍّ وعمر وابن عبّاسٍ وعائشةَ، وكان الحديثُ لا يجرّ نفعاً، ولا يدفع ضرّاً عن واحدٍ منهم؛ فيمكننا أن نعطيه درجة (58%) إذ هذا من العلم الخاصّ الذي لم ينقل إلينا إلّا من طريق صحابيّ واحدٍ، ومن الممكن أن يكون حديثاً عقديّاً، أو في الحلال والحرام فكيف غفلت الأمّة كلها عنه إلا واحد؟

حديث فردٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى صحابيّ واحد، لكنْ رواه عن ذلك الصحابيّ سبعةٌ بين ثقة وصدوق!

فهذا حديثٌ فردٌ عن الرسول، لكنه متواترٌ عن ذاك الصحابيّ!

فإذا كان الراوي لهذا الحديثِ من علماء الصحابة وأذكيائهم، مثل الإمامِ عليٍّ وعمر وابن عبّاسٍ وعائشةَ، وكان الحديثُ لا يجرّ نفعاً، ولا يدفع ضرّاً عن واحدٍ منهم؛ فيمكننا أن نعطيه درجة (58%) إذ هذا من العلم الخاصّ الذي لم ينقل إلينا إلّا من طريق صحابيّ واحدٍ، ومن الممكن أن يكون حديثاً عقديّاً، أو في الحلال والحرام فكيف غفلت الأمّة كلها عنه إلا واحد؟

أمّا إذا كان هذا الحديثُ الفردُ مرويّاً عن صحابيٍّ من عامّة الصحابة، وقد روى أكثرَ من (10) أحاديث؛ فله حكم.

أما إذا كان من العامة، ولم يرو إلّا حديثين أو ثلاثة؛ فهذا ليس من أهل العلم، ويجب فحصُ ما روى فحصاً جيّداً؛ لنرى هل ما رواه يتوافق مع مقاصدِ القرآن العظيم، ومع ما هو أصحّ منه في الباب، ومع مقاصد الشريعة ومصالح المسلمين!

وكذلك إذا انفرد بذاك الحديث صحابيّ عاميٌّ صغيرٌ، مثل أبي سعيدٍ الخدريّ وأنس بن مالكٍ، فيجب التريث والتوقّف في أفراد هؤلاء كثيراً!

وكذلك رواياتُ من عُرف بالغفلة وقلّة التيقّظ، مثل عبدالله بن عمرو بن العاص، وعديّ بن حاتم.

وكذلك رواياتُ مَن عُرف بعدم النباهةِ، وعرف بقلّة الحفظ، مثل عبدالله بن عمر وأبي موسى الأشعريّ.

فمن المحال أن نعدّ ما ينفرد به واحدٌ من هؤلاء الصحابة وأمثالهم، رضي الله عنهم سنّةً نبويّة!

واعتبار ما ينفرد به واحدٌ من هؤلاء وأمثالهم سنّةً؛ هو أكبرُ سببٍ من أسباب اختلاف الأمّة وتمزّقها واحترابها.

(ب) حديثٌ فردٌ غريبٌ، لا يرويه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى صحابيٍّ صغيرٍ أو عاميٍّ واحدٍ، ولا يرويه عن ذاك الصحابيّ، سوى تابعيّ واحد!

وهذا الذي يسمّيه المحدّثون الفردَ المطلق!

وجميعُ عِلل الحديثِ متوضّعةٌ في هذا النوع من الأحاديث!

وقد يَرويه عن التابعي جمهورٌ، وقد يرويه عن التابعيّ اثنان، وقد لا يرويه عن التابعيّ، سوى تابعيٍّ واحد، وهكذا نزولاً إلى طبقة المصنّفين!

(ج) وهناك الحديث الفردُ الغريب المطلق، الذي في رواته راوٍ صدوق، وهو الذي يحسّنه جميعُ المعاصرين، وقد كان الذهبيّ وابن حجر عدّا ما يتفرّد به الصدوق ومَن دونه من الحديث منكراً!

(د) وهناك الحديثُ الفرد المطلق الغريب، الذي اختلف العلماء قديماً وحديثاً في تصحيحه أو تحسينه أو تضعيفه!

فأنت ترى - أخي القارئ الكريم - أنّ كثيراً من الرواياتِ هي من الفرد المطلق الغريب!

وهذه جميعُها، أو أكثرها؛ لا يمكن أن نعدّها من السنن، ودرجة ثبوتها قد لا تصل إلى (40%) على أحسن تقدير!

وحتى أقربّ لك المسألةَ أخي الفاضل، وتتوضّح لك صورةُ الفرد المطلق، في حدود الكتب التسعة فحسب؛ أقول:

(1) أخرج البخاريّ في صحيحه (304) أحاديث مكرّرة، تصفو (200) حديث تقريباً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (120، 127، 439، 470، 558).

وأواخرها (7263، 7470، 7522، 7523، 7542).

(2) أخرج مسلم في صحيحه (85) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (31، 73، 97، 117، 133).

وأواخرها (3003، 3022، 3027، 3028، 3029).

(3) وأخرج مالك في موطّئه (883) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (6، 7، 8، 9، 12).

وأواخرها (1873، 1876، 1882، 1887، 1888).

(4) وأخرج أحمد في مسنده (4789) حديثاً مكرّرة، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (4، 7، 15، 18، 19).

وأواخرها (26333، 26338، 26340، 26349، 26362).

(5) وأخرج الدارميّ في سننه (1404) أحاديثَ،  انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (2، 3، 4، 5، 6).

وأواخرها (3494، 3495، 3496، 3502، 3503).

(6) وأخرج محمد بن يزيد القزويني «ابن ماجه» في سننه (897) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (5، 22، 27، 49، 50).

وأواخرها (4324، 4329، 4332، 4337، 4341).

(7) وأخرج أبو داود السجستانيّ في سننه (682) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (11، 50، 52، 86، 87).

وأواخرها (5261، 5268، 5271، 5272، 5273).

(8) وأخرج الترمذيّ في جامعه المختصر (577) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (10، 53، 54، 102، 112).

وأواخرها (3938، 3939، 3942، 3943، 3944).

(9) وأخرج النسائيّ في المجتبى من السنن (525) حديثاً، انفرد بها عن بقية الكتب التسعة، فجميع هذه الأحاديث من الفرد المطلق الغريب، وتتفاوت درجة ثبوتها تفاوتاً كبيراً!

أوائلها (100، 113، 120، 176، 361).

وأواخرها (5754، 5755، 5756، 5757، 5758).

فهذه (10156) حديثاً مكرّرة، لعلّها تصفو (7000) حديثٍ، أكثرها دخل في ثقافتنا السنيّة - الصحيح والحسنُ والضعيف - وغدا من العسير جدّاً إقناع المقلّدة والعوامِّ بأنّ أكثر هذه الآلاف ليس من السنن في شيءٍ، إنما هو رواياتٌ، يصلح الصحيح والحسن منها في الترغيب والترهيب والرقاق، وحسب!

وبالتالي: إنّ رافضَ أيّ حديثٍ من هذه الأحاديثِ، إذا كان من أهل العلم، أو تبع واحداً من العلماء؛ لا يكفر ولا يفسق ولا يبتدع، بل هو على الصراط المستقيم، إن شاء الله تعالى.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق