السبت، 24 سبتمبر 2022

   التَصَوُّفُ العَليمُ (21):

الصوفيّةُ يَدْعونَ إلى تَكريسِ الجَهْلِ!

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال لي صاحبيّ: «ألا تَقولُ لي يا شيخ عداب، كيف صبرتَ على جهلِ الصوفيّة؟

قومٌ جهّالٌ، يكرهون أن يكون بينهم عالم، وقد سمعت عدداً منهم يقول لنا:

«إذا أردتَ معرفةَ الله؛ فتعالَ به بثوبِ الجهلِ، لا بثوبِ العلم»!

أقول وبالله التوفيق:

أستطيعُ أن أقول بكلِّ ارتياحٍ: ما من شيخٍ صوفيٍّ صحبتُه، إلّا آتاه الله تعالى نوراً بأقدارٍ متفاوتةٍ، بعضهم يسمّي هذا النورَ كَشفاً، وبعضهم يسمي هذا النورَ فراسةً، وبعضهم يَعدّه من الفتح المبين!

أقول هذا واثقاً وناصحاً قرّائي الكرام؛ لأنّ جميعَ شيوخي الصوفيّة - العلماء منهم وغير العلماء - حدّثوني عن أشياءَ في داخلي، قرؤوها في وجهي، أو في لغة الجَسَد عندي، لا يعلمها إلّا الله تعالى!

- في الدرس المسائيّ العامّ لشيخنا محمد الحامد الحمويّ، رضي الله عنه، استطرد، فراح يشرح لنا سورةَ الشَرْح، ثمّ استطردَ أيضاً، فحكى لنا قصّة الإمام أحمد بن الرفاعي الكبير، عندما كان يشرح هذه السورة؛ ذكرَ أنّ للعلماء فيها مذهبين:

- أحدهما: على الظاهر، وأورد حديثَ شقّ الصدر.

- والثاني: على المعنى وهو الإيمان والهداية.

فوقع في قلبِ الشيخ الرفاعي أنّ أحدَ حاضري درسِه أنكرَ حدوثَ هذا الشيء!

فقطع الرفاعيّ الدرس، وقاموا إلى الصلاة، ثم انصرفوا إلى بيوتهم.

قال شيخنا الحامد: في اليوم التالي - أو قال في الدرس التالي - حضر الإمام الرفاعي يلبس سراويلَ طويلة، وثوباً مفتوحَ الطرفين «القنباز».

وقبل بداية الدرس؛ نادى على تلميذه المنكِر، فانتبه وانتبه الناس، ففتح ثوبه، وأمسك بخنجرٍ كان معه، ثم شقَّ به صدره، ثم استخرج قلبه، فشقّه، ثم استخرج السوادَ الذي فيه، ثمّ أعاده إلى موضعه، ثم قال: هكذا فُعِلَ بجدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!

قال شيخنا الحامد، رحمه الله تعالى: «يقال: إنّ هذه الحادثةُ؛ هي أصلُ كراماتِ السادةِ الرفاعيّة، والله أعلم»!

قال عداب: في هذه اللحظاتِ؛ وقعَ في قلبي تساؤلٌ، أو إنكارٌ لا أدري، ورحت أتخيّل المشهدين معاً: شقّ صدر، وشقّ قلبٍ، من دون تخديرٍ، ولا غرفةٍ معقّمة، ويبدو أني سرحتُ وراء خيالي طويلاً، فصرخ بي الشيخ الحامد بصوتٍ مرعبٍ: «عداب خلّيك هون»!

فذهب والله ما كان بقلبي من إنكار فوراً، وتابعتُ معه الدرس!

- أصابني تسمّمٌ من طعامٍ، في أحد بيوت أقاربي، فحملوني إلى المشفى مغمىً عليّ، وكان قلبي متعلّقاً في المساجد، في تلك المرحلة من عمري.

كان مسجد التكية الهدائيّة مجاوراً للمشفى الوطني في حماة، فما أن قَويتُ على المشيِ، حتى غدوتُ أذهبُ إلى صلاةِ الجماعة في مسجد التكية المجاور.

عقبَ إحدى الصلواتِ؛ خرجت من المسجد، فخارتْ قوايَ، فجلست في الأرض قبل أن أقع، ودارت بي الدنيا دوراناً شديداً، حتى ما عدت أعي ما حولي.

صحوتُ على صوت شيخٍ، يقرأ عليّ ويدعو لي، فما أن رآني صحوتُ حتى بادأني بقوله: «الله يخرب بيتها، أرادتْ أن تحبّبك ببنتها، فقتلتك»؟!

قل لوالدتك: الشيخ فلان السبسبيّ - نسيت اسمه - يقول لك: اذهبي إلى أمّ عبدالمالك، حتى تفكّ لكَ السحرَ الذي سحرتك به، ولتعطها ما تشاءُ من المال؛ لأنّ سحرك قويٌّ جدّاً، قد يقتلك، وإذا لم يقتلك؛ فسيؤثّر عليك طيلةَ عمرك!

جاءتْ إليّ والدتي في اليوم الثاني، فأخبرتها، فقالت لي: والله يا ابني حدّثني قلبي بذلك فأخذتُ خالتك أمّ أحمد، وذهبنا إليها، لكنّها أنكرتْ أن تكون سحرتك، كما أنكرت أن تفكّ عنك السحر، وقدمت إليها (1000) ليرة، فقالت: لا أقوم بذلك مقابل مال الدنيا!؟ [كان مرتّب أستاذ المدرسة في تلك الأيام (210) ليرات].

- عندما دخلتُ العراق؛ كان لي شيخٌ عراقيّ شابٌّ، من عوامّ الناس، لكنّه صاحب كشفٍ كبيرٍ، وكراماتٍ رفاعيّةٍ كثيرة!

صدرتْ منه بعض الأخطاء الفقهية؛ لعدمِ معرفته، لا بقصدِ المعاندة، فاستخرت الله تعالى؛ أن يهيّئ لي شيخاً يرشدني، فلديّ رعوناتٌ نفسيّة كثيرةٌ، تحتاجُ إلى تهذيب!

استيقظتُ ذاتَ صباحٍ على رؤيا، أشار إليّ أحدهم فيها إلى إنسانٍ، وكأنه قال: هذا شيخك!

صرت كلّما ذهبت إلى مسجد سيّدي أبي حنيفةَ، أو سيّدي عبدالقادر الجيلاني، أو سيّدي موسى الكاظم، أتمشّى في الجامعِ، لعلّي أرى ذاك الشيخ الذي رأيتُه في المنام، أو يراني!

مرّت شهورٌ من دون جدوى!

في يومٍ من الأيّام، قال لي أحد دراويشِ الصوفيّة، ونحن في مسجد سيّدي عبدالقادر: سأعرّفك اليومَ على شيخٍ «كشفُه رصاص» - هكذا قال - فإذا كنت بين يديه؛ فاحفظ قلبك!

عقبَ صلاة الفريضةِ؛ زُرنا سيدي عبدالقادر، ثمّ خرجنا من عنده لنزورَ ذلك الشيخِ!

لكنني رفضتُ أن أزور أيّ شيخٍ في الحضرةِ القادريّة، قبل زيارةِ سيدي وشيخي عبدالكريم «بيارة» المدرّس، وكانت هذه عادةً دائمةً لي.

عندما زرنا شيخنا عبدالكريم؛ تبسّم في وجهي، وأشارَ برأسه يمنةً، وقال: هيّا الشيخ فلان ينتظرك، سلّم عليه، لم أتبيّن اسم الشيخ في كلامه!

خرجت أنا وزميلي الدرويش، حتى وصلنا إلى غرفة السيّد محمود النعيمي رضي الله عنه.

طرق زميلي الباب، فردّ الشيخُ من الداخل؛ تفضّلوا سيّدنا الشامي، أو قال: السيّد الشامي!

أدخلتُ الدرويشَ قبلي، لأنّ بينهما معرفة!

عندما دخلتُ بعده؛ أراد الشيخ محمود أن ينهض، فلم يستطع لأنه كان مريضاً، فجثوث لأقبّل يده، فأمسك يدي بقوّةٍ هائلةٍ، عجبت منها، وقبّل ظاهر كفي وباطنه مرّاتٍ عديدة!

وظلّ ممسكاً بيدي وهو يقول: «لا ينبغي لهذا الوجهِ أن يقبّل يدَ أحدٍ أبداً، لا يجوز للسيّد العالم أن يقبّل يد عاميّ مثلي».

أجلسني أمامَه، وأجلس الدرويشَ بجانبه، فحانت مني التفاتةٌ إليه، فتذكّرتُ المنام الذي كنت رأيته قبل شهور، فصرتُ أتأمّل الشيخَ، فتبسّم وقال: لا تتعب نفسك، أنا أنتظرك منذ شهور!

ثمّ أعطاني درساً في القراءاتِ القرآنيّة، لا والله لم أسمع في حياتي كلّها مثلَه، ولا أنا أحسن إلقاءَ درسٍ مثله - وسبق أن نشرت منشوراً عن هذا الدرس - ثمّ شربنا الشاي، وانصرفنا.

وغدوتُ كلّما زرتُ سيّدي عبدالقادر؛ أزور سيدي الشيخ عبدالكريم، ثم سيّدي الشيخ محمود.

كان من منهجي في تعليم القرآن العظيم؛ أنْ أقسم الدرسَ إلى قسمين، فربع الساعة الأولى تكون شرحاً لمسألةٍ واحدةٍ من مسائلِ التجويد، ثمّ يكون العَرْضُ فرديّاً.

بيدَ أني أحبّ أن يكون الطلّابُ الخمسةُ الأوَلُ الذي اخترتهم للإجازة حاضرين؛ ليستفيدوا من شرحِ الغريب، ويُؤشّروا على مواضع الوقوف!

كان أبرع هؤلاء الخمسةِ، في الجانب التطبيقيّ؛ شابٌّ يدعى «فيصل غازي» إذ كان يجمع بين جمال الصوتِ، وإتقان التجويد، والمقام العراقي!     

عندما انتهى من ختمةِ الإجازةِ؛ استحلفني بالله تعالى أن أقرئه خلافيّات شعبة مع حفص!

فقلت له: لا تستحلفني، فأنا قرأتُ خلافيّات شعبة على شيخي الشندويلي، رحمه الله تعالى، لكنّه لم يعطني بها إجازة، كان يريدني أن أستمرّ معه حتى يجيزني بالسبع.

لكنني سأعطيك رسالةً صغيرة إلى شيخٍ، أعلم بالقراءات مني ومن شيخي سعيد عبدالله الخالدي، ومن شيخي محمد سليمان الشندويليّ!

قال: هنا في بغداد؟

قلت: نعم في بغداد!

كتبت رسالة صغيرة إلى شيخي محمود النعيميّ؛ ليقرئه خلافيات شعبة وحفص!

فدخل عليه - وشرحت تمام القصة في منشور سابق - ثمّ قال له الشيخ محمود: ظننّا شيخَكم عداب أعلى رتبةً في الحقيقةِ!

أنا والله لا أحسن قراءةَ الفاتحة مثلك يا فيصل، فضلاً عن أن أحسن ما يحسنه الشيخ عداب!

لكنّه دخل إليّ وأنوار القرآن العظيم تَغمره من جميع جوانبه، فخشيتُ أن يغترَّ بعلمه، فأُلهمتُ بذلك الكلام الذي قلتُه له، والذي ظنّه علماً معرفيّاً كسبيّاً.

الزموا شيخكم هذا، فهو كذا وكذا!

لا أريد أن أسترسل أكثرَ للتأكيدِ على كشفِ شيوخ التصوّف، أو نور الشيوخ، أو فراسةِ الشيوخ!

شيوخُ التصوّف - مهما كانوا من العوامّ - فهم يعظّمون العلمَ وأهلَه، وهم يَعلمون أنّ للعلم سلطاناً، لا بدّ أن يظهر على أهل العلم، وهم يخافون على أهل العلم، من مثل ما خافه عليّ سيدي محمود النعيميّ، فلقّنني درساً في القراءات، جعلني أحسّ بجهلي التامّ في هذا العلم، منذ ذلك المجلس، وإلى هذه الساعة!

وأكثرُ السالكين في طريق التصوّف؛ هم من العوامّ، أو من المثقفين ثقافةً غير شرعيّة!

ومن النادر أن تجد عالماً في زاويةٍ صوفيّة، يجعل شيخاً صوفيّاً من العامّةِ شيخاً له!

سألتُ سيّدي الشيخ الشريف محمد الحافظ التجّاني رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ أن يعرّفني بالطريقةِ التجانية، حتى أسلك على يديه، فقال لي: أنت ابنُ الطريق، لا تحتاج إلى طريق جديد!

يا شيخ فيصل: ما أنتَ فيه هو الطريق، طريق العلم؛ هو الذي سيوصلك إلى الله تعالى.

طريقنا هذا - التصوّف - هو لهؤلاء العوامّ الذين تراهم في «المغربلين» وأنت قادم في طريقك إلينا: السمّان، والبقّال، والخضريّ، وغيرهم من العامّة!

بدلاً من أن نتركهم ينهش بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً؛ ندعوهم إلى الزاوية هنا، يتعلّمون العبادات والآداب ويذكرون الله تعالى.

نعم يا أخي الشيخ فيصل: ما أنت فيه هو الطريق، فالزم هذا الطريق».

[الكلام من الذاكرة، هذا معناه].

ولو جئنا إلى واقع الطرقِ الصوفيّة؛ سنجد (99%) من السالكين على شيوخِ التصوّف؛ هم من غير المتخصّصين في علوم الشريعة.

ولذلك يخاف شيوخُ التصوّف على طلّاب العلم الشرعيّ، من الاغترار بعلمهم، وإعجابهم بتحصيلهم، وازدرائهم لإخوانهم غير المتخصّصين.

من هنا يؤكّدون على تصحيح النيّة بعباراتٍ، يفهم الجاهلُ منها أنّها تزهيدٌ بالعلم، ودعوةٌ إلى الجهل، أو تكريسٌ له!

قال لي شيوخي:

- لا تظنّ نفسكَ فوقَ الخلقِ شجاعةً، نعم أنت شجاعٌ، لكنك تبدو شجاعاً لقلّة الشجعان!

لو وزنت نفسك بالإمام عليّ، أو الزبير بن العوّام، أو أبي دجانة؛ فكم يكون وزنك بين الشجعان؟

- إنّ الشيطانَ أعلمُ منك يا عداب!

- إذا أردت السلوكَ إلى الله تعالى؛ فاغتسلْ من علمك، وتعالَ إلينا!

- يا عداب: يقول الإمام مالك: لا يزال الإنسان عالماً، ما دام يطلب العلم، فمتى ظنّ أنه صار عالماً؛ فقد جَهِل!

- رحم الله مَن قال: كلّما ازددتُ علماً؛ ازددت علماً بجهلي!

- في واحدٍ من مجالس الذكر، لست أدري ما لحظ شيخ المجلس لديّ آنئذٍ، فقال بعالي صوته: يا دكتور عداب: جميع مَن في هذا المجلس أعلمُ منك!

أنا لم أفهم من هؤلاء الشيوخ أنهم يزهّدون في العلم، أو يَدعون إلى الجهل، أو يكرّسونه لدى الناس، كلّا وألف كلّا!

هم أرادوا أن تكون نوايايَ ونوايا أهل العلمِ خالصةً لله تعالى، وأن نطهّر قلوبنا من الشرك الخفيّ: الرياءِ والعُجب المحبطِ للعمل!

بدليلِ أنّهم أجمعون، كانوا يكلّفونني بتدريس طلّابهم، وإلقاء المحاضرات عليهم، والقيامِ بخُطب الجمعةِ في مساجدهم، من دون أدنى قيدٍ أو شرط، وكان شيوخي أنفسهم يحضرون مجالسي العلميّة!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق