الاثنين، 12 سبتمبر 2022

        مِنْ عِبَرِ التاريخِ (17):

ملكة بريطانيا من ذريّة الرسول!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تواصلَ معي بعضُ الإخوةِ الأصدقاء، يسألون عن حقيقةِ ما أثاره ويثيره الدكتور علي جمعة، بشأنِ ملكة بريطانيا «اليزابيث الثانية» بزعمه أنّها من ذريّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

أقول وبالله التوفيق:

ليس لي غرضٌ في النيلِ من الدكتور «علي جمعة» فهو رجلٌ من علماء السلطان، وهو صاحب المقولة الشهيرة: «اضرب بالمليان»!

لكنّ هذه الدعوى باطلة، من جهتين:

الجهة الأولى: التاريخ!

فالتاريخ يُقرُّ بوجود شخصيّة امرأةٍ اسمها «زائدة» ارتدّت عن الإسلام، هي وأولادها من زوجها المسلم المأمور ابن المعتمد بن عبّاد.

المعتمد بن عبّاد لخميّ قحطانيّ، لا علاقة له بنسب قريشٍ البتّة!

وكَنّتُه «زائدة» التي تنصّرت مجهولة، لا يُعرَف حتى اسم أبيها، فضلاً عن أن تكون من ذريّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

جاء في كتاب دولة الإسلام في الأندلس للمؤرخ محمد بن عبدالله بن عنان المصري (ت: 1406 هـ) (2: 345) ما نصّه:

«وعلى أي حال فقد زحف المرابطون على قرطبة، وبها حاكمها ولد المعتمد، الفتح الملقب بالمأمون، وكان قد اتخذ كل الأهبات الدفاعية الممكنة، وأرسل زوجه وأولاده وأمواله تحوطاً إلى حصن المُدَوّر، الواقع جنوب غربي قرطبة على ضفة نهر الوادي الكبير، لكي تبقى بمنجاة من الخطر، وحتى تستطيع أن تلوذ عند الضرورة بحماية ملك قشتالة، وقد كان هذا الإجراء فيما يبدو بإشارة المعتمد، أو بموافقته.

والواقع أن قرطبة لم تصمد طويلا، فقد اقتحمها المرابطون بعنف، وقتل الفُتح بن المعتمدِ بن عبّاد خلال الهجوم مدافعاً عنها، ورفع المرابطون رأسه على رمح.

وكان افتتاح المرابطين لقرطبة في اليوم الثالث من صفر سنة (484هـ) (26 مارس سنة 1091 م).

وهنا يجب أن نقف قليلا، لنتناول مسألة تاريخية هامة، غمرتها الأسطورة مدى عصور، ثم ألقى عليها البحث الحديث ضوءه المُقَنّع، تلك هي قصة «زائدة» الأندلسية.

لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية، المعاصرة واللاحقة، أن «ألفونسو» السادس قد تزوج من ابنةٍ للمعتمد بن عبّاد تُسمّى «زائدة» أو إنّه قد اتخذها خليلة، وأنجب منها ولده الوحيد «سانشو».

وقد استمرت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصوراً كأنها حقيقة لا ريب فيها، وتتحدث دائماً عن «زائدة» الأندلسية، وعن ذريتها النصرانية.

ونقول نحن: إنّه لا توجد بين هذه التفاصيل المغرقة، سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة، وأنها كانت حقيقةً زوجةً أو خليلةً لألفونسو السادس، وقد أنجب منها ولده سانشو الذي قتل طفلا في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م). ولكنها لم تكن ابنة للمعتمد بن عباد، ولم يُقدّمها المعتمد لألفونسو ثمناً لحِلْفه.

وهذا هو لب الأسطورة كلها، وهذا هو وجه الإغراق والتحريف.

ذلك أنه مما لا يسيغه العقل أن يرضى أمير عظيم مسلم كالمعتمد بن عباد، أن يزوج ابنته من أمير نصرانيّ، أو أن يقدمها له جارية وحظية، ومهما كان من استهتار المعتمد وتسامحه الديني، وإذا فرضنا أنه لم يكن يقيم في مثل هذا التصرف الشائن، وزناً للاعتبارات الدينية والشرعية، وهو في ذاته مما لا يقبله العقل؛ فمن المستحيل عليه ألا يحسب أعظم حساب لنتائجه السياسية، وخصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، وأقلها أن يضطرم شعبه المسلم بالثورة عليه، وأن يسحقه ويسحق أسرته، ومن جهة أخرى فإن المعتمد كان يرمي من جانب خصومه في الداخل وفي الخارج بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني، ولم يكن من المعقول أن يُقدّم بمثل هذا التصرف إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعه في صف المارقين والخوارج على الدين.

أما التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث والنصوص الوثيقة، فهو أن زائدة هذه كانت حسبما تقدم زوجة للفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينة، أرسل زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور، أو أنه حينما اقتحم المرابطون المدينة وقتل الفتح، استطاعت زائدة أن تلوذ مع أولادها بالفرار، وأن تلجأ إلى حصن المدور.

ثم التجأت إلى حماية ملك قشتالة، حينما اشتد خطر المرابطين على سائر تلك الأنحاء وربما كان ذلك بموافقة المعتمد.

ولما كانت «زائدة» على جانب كبير من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة أخرى مزواجاً، كَلِفاً بالنساء، فقد انتهز فرصة التجائها إليه، واتخذها خليلةً، ثم تزوجها.

وتقول الروايات القشتالية في هذا الموطن، إنّ «زائدة» كانت تحب الملك النصراني بالسماع، وتتوق إلى الزواج منه، وأن المعتمد قد نزل لملك قشتالة في هذه المناسبة عن قونقة، ووبذة وإقليش وأوكانيا وكونسويجرا وغيرها من الأماكن، وهي التي كان قد افتتحها من مملكة طليطلة أيام بني ذي النون، وذلك كمهر لزائدة.

وقد يكون المعتمد قد نزل حقاً عن هذه الأماكن وغيرها لملك قشتالة، ولكن ذلك لم يكن سوى بعض ما تعهد به لملك قشتالة كثمن لحلفه وعونه.

ومتى تقرّر أن «زائدة» لم تكن ابنته؛ فإنه لا محل أن يقرن هذا التنازل من جانب المعتمد بقصة زواج «زائدة» من الملك النصراني.

ونقول تتمةً لقصة زائدة: إنها غدت خليلة أو زوجة لملك قشتالة، على الأرجح عقب سقوط قرطبة بقليل، في أوائل سنة 1092 م، وأنها بهذه المناسبة اعتنقت النصرانية وتسمت باسم «إيسابيل» وفي رواية باسم «ماريا» وتَنصّر أولادها من الفتح، ومن كان معها من الحشم، ورزق منها ألفونسو بولده الوحيد سانشو، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون، وذلك في سنة (1097) أو (1098م).

ولما اجتاح المرابطون أراضي قشتالة، في أوائل عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، وسار القشتاليون لمحاربتهم تحت أسوار قلعة إقليش، بعث ألفونسو بولده الصبي «سانشو» على رأس الجيش لكي يثير حماسة الجند، فقتل في الموقعة التي نشبت بين الفريقين، وقتل معه معظم أكابر الجيش وقادته، وذلك في سنة (501 هـ)  (1108 م) وتوفي ألفونسو على أثر ذلك غماً وحزناً.

ولم تذكر لنا الرواية الإسلامية اسم زائدة، ولا شيئاً من قصتها بطريق مباشر، ولكنها مع ذلك تقدم إلينا الدليل القاطع على حقيقةِ شخصيتها وصفتِها.

ولدينا في ذلك نصّان، كلاهما حاسم في تقرير هذه الحقيقة:

أوّلُهما: ما ورد في تاريخ ابن عذارى «البيان المغرب» في أخبار سنة (501 هـ).

وهي الموافقة لسنة (1108 م) عن الحملة التي أرسلها ألفونسو السادس ضد المرابطين لإنجاد قلعة إقليش، وقد جاء فيه:

«وفي خلال ذلك وصل إلى حصن «إقليش» وَلَدُ أذفونش شانجه - مِن زَوجِ المأمونِ بنِ عَبّاد، التي كانت تَنصّرت - بنحو سبعة ألاف فارس».

والثاني: نص أورده الونشريسي في كتابه: «المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب» وقد جاء فيه عن موضوع الخوف على الأبضاع والفروج ما يلي:

«ومنها الخوفُ مِن الفتنة على الأبضاعِ والفروج، ومَتى يأمنُ ذو زوجةٍ، أو ابنةٍ، أو قَريبةٍ وَضيئة؛ أن يَعثُر عليها وَضيءٌ مِن كلاب الأعداءِ، وخنازير البُعداء، فيُغِرَّها في نفسها، ويُغِرّها في دينها، ويَستوليَ عليها، وتُطاوعُه، ويُحالَ بينها وبين وَليّها بالارتدادِ في الدين، كما عَرض لِكَنّةِ المُعتمِد بن عبّاد، ومَن لها مِن الأولاد، أعاذنا الله من البلاء وشماتة الأعداء».

تلك هي الحقيقة حول أسطورة «زائدة بنت المعتمد بن عبّاد» وتقديم أبيها المعتمد إياها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين.

وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنها حقيقة لا ريب فيها.

وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة.

والظاهر أن المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له، من الناحية التاريخية».

قال عداب: «زائدةُ» المرتدّة عن الإسلام هذه؛ مجهولةُ النسب، لا يُعرفُ عنها أكثرُ مما تقدّم!

وسواءٌ كانت الملكة «اليزابيث» من أحدِ أولادها الذين تنصّروا، أو كانت من ذريّة الطفل «شانجه» المقتول في المعركة؛ فمن أين جاء إلى «زائدة» المرتّدة النسب الهاشميّ؟

الجهة الأولى: الدين!

لو أنّنا سلّمنا جدلاً بأنّ «زائدة» جدّة الملكة «اليزابيث» هاشميّةً، ثمّ أحبّت «ألفونسو» القشتالي هذا، وتزوّجته، وارتدّت عن الإسلام، فماذا ينفعها هذا النسب يوم القيامة؟

قال الله تبارك وتعالى:

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102).

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) [المؤمنون].

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ؛ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) [البقرة].

إنّ النسب الشريفَ قد يكون سبباً في شفاعة الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم لذريّته يوم القيامة، إذا كانت ذرّيته مؤمنةً موحّدةً، سليمةَ المعتقد!

قال الله تعالى:

(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله؛ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) [النساء].

(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) [الزخرف].

ولا ريب في أنّ الشركَ أبطلُ الباطل، وإنه لظلم عظيم!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق