مِنْ عِبَرِ التاريخِ (13):
عيدُ الغَديرِ الأكبَرُ !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحد الإخوةِ الكرام عن مشروعيّة «عيد الغدير»
فأجبتُه، وإليكم خلاصة الجوابِ.
أقول وبالله التوفيق:
في حوادثِ سنة (352 هـ) قال ابن كثير في البداية
والنهاية (15: 261):
«وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا
أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْ تُفْتَحَ
الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ، كَمَا فِي الْأَعْيَادِ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ
وَالْبُوقَاتُ، وَأَنْ تُشْعَلَ النِّيرَانُ بِأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ، وَعِنْدَ
الشُّرَطِ; فَرَحاً بَعِيدِ الْغَدِيرِ، فَكَانَ وَقْتاً عَجِيبًا وَيَوْمًا
مَشْهُودًا، وَبِدْعَةً ظَاهِرَةً مُنْكَرَةً» وانظر نهايةَ الأرب للنويريّ (1:
184).
وقال المقريزيّ في خططه (2: 254): «اعْلَمْ أنّ عيد
الغدير؛ لم يكن عيداً مَشروعاً، ولا عَمِلَه أحدٌ مِن سالفِ الأمّة المقتدى بهم.
وأوّلُ ما عُرفَ في الإسلام بالعراقِ، أيامَ معز
الدولة عليّ بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعةُ
من حينئذ عيداً.
وأصلهم فيه، ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده الكبير
(18479) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ،
فَنُودِيَ فِينَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَكُسِحَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، وَأَخَذَ بِيَدِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؟ قَالُوا: بَلَى!
قَالَ: (أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى
بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ)؟ قَالُوا: بَلَى!
قَالَ البراءُ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: (مَنْ
كُنْتُ مَوْلَاهُ؛ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ
مَنْ عَادَاهُ).
قَالَ البراءُ: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ: «هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ
مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ».
قال المقريزيّ: «وغدير خُمٍّ؛ على ثلاثة أميال من
الجُحْفَة، يَسْرَةَ الطريق، تَصبّ فيه عينٌ، وحولَه شجر كثير.
ومن سنّةِ الشيعة في هذا العيد -وهو أبداً يومَ
الثامن عشر من ذي الحِجّة - أن يُحيُوا ليلته بالصلاة، ويصلّوا في صبيحته ركعتين
قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد، ويُعتقوا الرقاب، ويكثروا من عمل البرّ، ومن
الذبائح».
وقال
أيضاً: «وقال ابن زولاق: وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وستين
وثلثمائة - وهو يوم الغدير - تجمّع خلق من
أهل مصر والمغاربة ومَن تبعهم، للدعاءِ لأنّه يوم عيد؛ لأنّ رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم عَهِدَ إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه، واستخلفه، فأعجَبَ المُعِزَّ
ذلك مِن فِعلِهم، وكان هذا أوّلَ ما عُمِلَ بمصر».
ووصف
المقريزيّ مُجرياتِ «عيد الغدير» في مصر، وصفاً دقيقاً واسعاً، لا يحتمله هذا
المنشور.
بيد
أنّ الشيعةَ لا يقرّون بأنّ معزّ الدولة بن بويه هو الذي ابتدع هذا العيد، عام
(352) ونسبوا إلى الإمام جعفرٍ الصادقِ، والإمام عليٍّ الرضا أنّهما عيّداً هذا
العيد، وأخبرا الناس بمشروعيّته.
ولا
يصحّ عندي أيّ أثرٍ عن الصادق والرضا عليهما السلام، ولا عن غيرهما في ذلك على
الإطلاق!
بيد
أنّ الشيعةَ لا يرون ما يحدثونه بِدَعاً، بل يجعلون ما يستحسنونه، ولو لغرض سياسيّ
أمراً مشروعاً، ويصرّون عليه، مثلما عملوا في الشهادةَ الثالثة، فمع أنّ إمامهم
الصدوق لعن المفوّضة الذين ابتدعوها؛ إلّا أنّ الشيعة لا يزالون يرددونها في
الأذان، بل ويضيفون عليها إضافاتٍ أخرى، غيرَ التي ابتدعها المفوضة الملعونين من شيخهم
الصدوق!
إنّ
حديثَ غدير خمّ متواترٌ عندي، بهذا القدر (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ؛ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ).
وإنّما
أعرض البخاريُّ ومسلم عن تخريجه؛ لأنّه لا يخدم مذهب أهل السنّة، مثلما أعرضا عن
تخريج حديث (حيَّ على خير العمل) وهو على شرطهما، وقد خرّجا بسنده أحاديثَ في
صحيحيهما، بل إنّهما خرّجا عشرات الأحاديثِ عن المجاهيل والوحدان؛ لأنّها وافقت ما
به يدينان!
لكنْ
هل اتّخاذُ هذه الذكرى عيداً؛ أمرٌ مشروع، وما وَجْهُ كونه عيداً، والأمّة كلّها
من الأنصار والمهاجرين؛ لم تعمل بمضمونه، بل أجهضتْه في مهده، وجعلت رغبةَ قريشٍ،
بعد رغبة الأنصار؛ هي المعمولَ بها، حتى انتزع السلطةَ منهم العجَم!
إنّ
العيدَ يومُ فرح وسرور، وذكرى يوم الغدير؛ ذكرى حزنٍ وألم ومعصيةٍ لله تعالى
وللرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأيّام
العيد توقيفيّة، لا يجوز اختراع أعيادٍ سوى الأعيادِ التي سنّها لنا الرسولُ صلّى
الله عليه وآله وسلّم.
لكني
لا أرى بأساً بتذكير الناس بذكرى مولد
الرسول، وذكرى وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكرى الإسراء والمعراج، وذكرى
الوقائع الكبرى في تاريخ الإسلام، ومنها يوم الغدير.
لا
على أنّها أعيادٌ، ولا على أنّها عباداتٌ، لها صلاةٌ مخصوصةٍ، أو خطبةٌ مخصوصة،
فهذا لم يأذن به الله تعالى، ولم يشرعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وإنما
هي ذكرياتٌ تُذكّر المسلمين بمواطن الحقّ والعدل والفخر ليتمسّكوا بها، وتذكّرهم بمواطن
الإخفاق في تاريخهم ليجتنبوها.
قال
المقريزيّ في كتابه الخطط والآثار (2: 256) يصف مراسم عيد الغدير في مصر:
«ثم
يعودون، ويدخلون من ذلك الدهليز إلى الإيوان الكبير... وقد نصب فيه كرسيُّ الدَعوة،
وفيه تِسعُ درجاتٍ لخطابَةِ الخطيب في هذا العيد، فيجلس القاضي والشهود تحته،
والعالَم من الأمراء والأجناد والمتشيعين، ومن يرى هذا الرأي من الأكابر والأصاغر.
فيدخل الخليفة من باب العيد إلى الإيوانِ، إلى باب المَلِك، فيجلس بالشباك، وهو
ينظر القوم، ويخدمه الوزير عندما ينزل، ويأتي هو ومن معه، فيجلس بمفرده على يسار
منبر الخطيب، ويكون قد سَيّر لخطيبه بدلةَ حَريرٍ يَخطُب فيها، وثلاثون ديناراً،
ويُدفع له كرّاسٌ محرّر من ديوان الإنشاء، يَتضمن نصّ الخلافة من النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه، بزعمهم.
فإذا
فرغ ونزل؛ صلّى قاضي القضاة بالناس ركعتين، فإذا قضيت الصلاة؛ قام الوزير إلى الشبّاك،
فيخدم الخليفة، ويَنفضُّ الناسُ بعد التهاني من الإسماعيليةِ، بعضِهم بَعضاً.
وهو
عندهم أعظمُ من عيد النحر، وينحر فيه أكثرهم».
ختاماً:
يجب علينا أن نعترفَ بأنّ مذهب أهل السنّة؛ هو مذهبُ السلطة الأمويّة، ثم
العباسية، ثمّ السلجوقيّة، ثمّ الأيوبية، ثم المملوكيّة، ثم السلطة العثمانية التي
حكمت أهلَ السنة أربعَ مائة عام تقريباً!
ولا
يخفى على عالمٍ أنّ السلطةَ تتصرّف في استعمالِ الحقِّ وتقييده وتعطيله، على حسب
ما تراه مصلحةً لدوام سلطتها، واستقرار مجتمعها.
أمّا
الآخرون؛ فكثيرٌ من تصرّفاتهم وبِدَعهم؛ هي ردودُ أفعالٍ وإثبات وجود، ومكايدة
للسلطة الحاكمة!
ومن
المهمّ هنا أن أن أوضحَ رأيي في الصراعاتِ التي جرت بين أجدادنا الطالبيّين، وبين
أعمامنا العباسيين، ومِن قبلهم الأمويّين، تنبيهاً لأولئك الذين يعيدونَ الصراعاتِ
الدمويّة صراعاتٍ كيديّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ!
إنّ
كثيراً من الصراعاتِ المسلحة والحروب التي نشبت بين الطالبيين والأمويين، وبين الطالبيين
والعباسيين؛ هي صراعاتٌ سياسيّة، اعتقد العلويون أنّهم أحقّ بالسلطة من غيرهم،
واعتقدوا أنهم مخوّلون بإزاحة الأمويين والعبّاسيين عن السلطة بقوّة السلاح، وهذا
غير صحيح أبداً!
فليس
لدينا في الكتاب والسنّة نصٌّ واضحُ الدلالةِ على أنّ السلطة السياسيّة لا تكون
إلّا بيد العلويين مثلاً!
نعم
كانت بعضُ الثوراتِ مشروعةً، مثل ثورة الإمام الحسين، وثورة الإمام زيد عليهما
السلام، قامتا اضطراراً، ودعتا إلى إزالة الظلم عن العباد، وإعادة الالتزام الصحيح
بالدين، وعدم تمكين الفجرة والفسّاق من رقاب المسلمين.
وها
قد قامت دولةٌ للشيعة في إيران، وقامت دولةٌ أخرى لهم في العراق، فأين سادةُ آل
البيتِ، من كلّ ما يجري؟
هذا
يعني أنّ الدعوة إلى (آل البيت) استغلالٌ موقوتٌ، وصوليّ ليس غير!
رئيس
دولة العراق كردي، ورئيس الوزراء عربي، وقائد الجيش سني، والوزراء أكثرهم ليسوا من
آل البيت، فأين هم آل البيت عندكم اليوم؟
ثمّ
إنّ الشيعةَ اليومَ طائفيّون بَمقتٍ، فهم لا يَعترفون بالسادةِ من آل البيت، ولا
يقيمون لهم وزناً، ولا يمدون يدَ العون إليهم، إذا لم يكونوا رافضةً مثلهم!
فلا
تخدعوا أنفسكم معاشرَ المسلمين، السياسةُ لا دينَ لها، والساسةُ من أقلّ الناس
ديناً، وأكثرهم خبثاً وروغاناً، وحرصاً على سلب الأمة ونهبها.
أمّا
نحن آلَ البيتِ؛ فالجميع متّفقون على منعنا حقوقنا الشرعية التي فرضها الله تعالى
لنا، حتى لو كنّا أعلمَ الناسِ، وأتقى الناس، وأوفى الناس لأمّتنا وأطاننا.
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق