مِنْ عِبَرِ التاريخِ (13):
تاريخُ عدابِ الحَمش في
صفحات (2)!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
ذكرتُ في المنشور السابق (1) أنّ والدتي عندما
قرّرت الانفصال عن والدي؛ بقيَت سنتين عند أهلها، ورفضت العودةَ إلى والدي، على
الرغم مما كانت تعانيه من شوقها لابنتيها.
وبقيتُ أنا وأختيّ ليلى (1952 - 1967م) وأختي فريال
(1954 - 2017م) عند والدي، وكانت ترعانا ابنة عمّي أمّ عماد خولة بنت عبدالرزاق بن
إبراهيم، توفيت (2018) ووالدتها أمّ ضرار هاجر بنت محمّد السراقبي العنَزيّ (ت: 1992م)
تقريباً، رحمة الله عليهم أجمعين.
ويحسن في هذا المنشور؛ أن أذكر أبرز الأحداث التي
جرت لي شخصيّاً، قبل دخولي المدرسة الابتدائيّة عام (1956).
أوّلاً: الإصابة الأولى:
عندما كان عمري دون سنتين؛ اختصم والدي مع والدتي،
كما هي العادة في كلِّ يوم، وكانت تحملني بين ذراعيها، كأنها تحتمي من قسوته بي!
كان بيده عصاً غليظة، تدعى (الغازوز) وهي عصاً صلبة
جدّاً من خشب السنديان، كانوا يستعملونها لأحمال الجِمال الثقيلة.
كأنّ والدتي رفعت صوتها عليه - وهي عصبية جدّاً - فضربها
بالغازوز على رأسها، فحادت يمنةً أو يسرةً، فوقع الغازوز على رأسي أنا!
ظللت أصرخ بعد ذلك حتى بلغت الثالثةَ والنصف من
عمري!
حدّثتني بنت عمّي أمّ عماد قالت: كنّا نتناوب عليك
خمسُ بناتٍ صغيرات، نخرج بك إلى الشارع، نسير بك في زقاقنا، لعلك تسكت، لكن من دون
فائدة!
وحدّثتني والدتي قالت: عندما أصابك الغازوز، وسال
الدم من رأسك الصغير؛ لبست ثيابي، وحملك مسرعاً إلى الطبيب (شكيب الدلّال) ولم يقل
الحقيقة للطبيب!
فقلت له أنا الحقيقة!
فالتفت إلى والدي وقال له: أنت رجل متديّن، كيف
تستجيز أن تضرب زوجتك الصالحة بالغازوز، أما تخاف الله يا رجل؟ والله لن أعالج
ابنك حتى يموت، أو تقول لي: ماذا صنعت لك بنت محيي الدين النشتر؟
قال له: ردّت بوجهي!
قال له: الحمويون أكثر أناس يردّون في وجه الله
ويشتمونه، هل وجهك هذا أعزّ من وجه الله تعالى؟
والله يا محمود الحمش، أنت لا تستحقّ هذه البنت،
ولا يستحقها واحدٌ من هذا الحيّ الصلف العنيد!
لا أدري والله كيف زوجتك إيّاها الشيخة سكينة
الولي؟
كان الدكتور (شكيب) على صلة قوية بآل النشتر وحيّ
باب القبلي، وقد حدّثني عندما كبرتُ بعدد من قصص ذلك التاريخ، رحمه الله تعالى.
كان لدى والدي عربةُ حصان فاخرة، قليلة المثيل في
مدينة حماة، فحملني مع والدتي بها، بناء على مشورة الدكتور شكيب، وأوصلني إلى بيت
والدها.
كان لدى جدّي محيي الدين خبرةٌ بدائيّة في الطبّ
والجراحة، ومن هذه الخبرة المتوارثة؛ أخذت الأسرة لقب (النشتر).
بعد عدّة أشهرٍ من الصراخ الدائم المستمر مع
العلاج؛ توفاني الله تعالى، وغسّلوني وكفنوني، وخرجوا بي إلى القبر، وأخبروا
والدي، الذي حضر ليدفنني!
نزل والدي في القبر، وكشف وجهي يقبّلني، ثم وضعني على
شفير القبر، لم تستطع يداه أن تحملاني.
ثم صرخ صوتاً عالياً جدّاً، خاطب به الله تبارك
وتعالى، وجاء خالي فكشف عن وجهي، فعطستُ، ورجعتُ إلى الحياةِ، فحملني والدي، وصرخ
بوالدتي أن الحقيني، وكان والدي مرعباً، فلحقته والدتي خوفاً، وعاد بنا إلى بيته.
حدّثني بهذه القصّة جدّتي سكينة وجدّي النشتر
ووالدتي ووالدي.
ثانياً: الإصابة الثانية: كان والدي يحبّني كثيراً،
وكان يحبّ والدتي أكثرَ مني - كما حدثني هو - وكان والدي ينام في الصيف على سطح
المنزل المرتفع سبعة أمتار عن أرض الديار الصخرية.
ففي ذلك اليوم كان الجوّ حارّاً، وكنت ما زلت في
حال الصراخ الدائم، فأصعدني معه إلى سطح المنزل، ونام.
قمتُ أنا ومشيت في ظلام الليل، فوقعت على ظهر
المطبخ، الذي كان من ألواح (توتياء) ثم وقعت على الأرض.
صحا والدي من نومه على صوت الألواح، ثم رمى بنفسه
إلى أرض الديار؛ ليجدني جثّةً هامدةً!
كان والدي جهوريَّ الصوت جدّاً، فاستيقظ كثير من
الأقارب الجيران على صراخه، واستيقظ جدي السيد إبراهيم.
أقبل عليّ جدي، وبيده عصا خيزران، فضربني بها، فلم
أتحرّك، فحملني بين يديه، ووضعني بجانبه على سريره، وراح يقرأ القرآن والأدعية،
حتى أُذّن لصلاة الفجر.
قاموا جميعا وصلّوا، ثمّ دعا جدّي وأمّنوا، فأفقت
وناديت على الوالدة، التي أُغمي عليها مِن الصدمةِ.
وأراد أن يحملني والدي، فمنعه جدي أن يلمسني حتى
أذبح قرباناً.
كان لوالدي قطيع من الغنم، وكان على الدوام منها في
منزلنا خمسة خراف.
أشار جدي إلى أفضلها، فذبحه والدي، ووزّعه على فقراء
الحيّ، ثم أمره فذبح كبشاً آخر، وأطعمه لأهل المنزل، شكراً لله تعالى.
عقب هذه الحادثةِ؛ لم أعد أصرخ، وكان عمري في حدود
الثالثة والنصف!
ومنذ ذلك اليوم غدا آل الحمش ينادونني الشيخ عداب.
حدّثني بهذه القصّة جدّي ووالدي ووالدتي، رحمهم
الله تعالى.
ثالثاً: عندما أتممت الرابعة من عمري؛ كنت فصيح
اللسان، كثيرَ الثرثرة، عنيداً بما يقرب من عناد والدي!
كانت الوالدة تريدني أن أبدأ بحفظِ القرآن الكريم،
لكنني ما كنت أستجيب لها.
فتآمرَت مع والدي على أن تضعني في كُتّاب الشيخ عارف
النوشيّ، الذي كان يبعد عن بيتنا أربعة أمتار، على أن يوصي والدي الشيخ عارفاً بأن
يلين خطابي، ويرغّبني بالسكاكر والحلويات، ووالدتي تتكفّل بإحضار جميع ذلك، وتعطي
الشيخ عارفاً أجرةً أسبوعيّةً ضعفَ جميعِ الأولاد.
عرض والدي الفكرة على الشيخ عارف، الذي كان يحبّني
كثيراً جدّاً، وكان يعطيني (سكّرة) كلما شاهدني جالساً على باب المنزل، لكنني كنت
أرفض أخذ شيء منه، كما حدّثني هو.
قال لهم الشيخ عارف: عداب ولد ذكيّ نبيه، لكنّه
عنيدٌ مثل أبيه محمود، ضربت محمود أكثر من (100) عَلْقَةٍ، ثم طردته؛ لأنه كان
يشغل الأولاد عن الحفظ، يضرب هذا، ويشتم هذا، ولم يكن لديه رغبة بتعلّم شيءٍ!
أحضروني إلى الشيخ عارف، الذي كان يدللني كثيراً،
على خلاف جميع الطلاب الصغار!
كان لدى الشيخ عارف عصاتان من خيزران، إحداهما
غليظة، والأخرى رفيعة!
كان يضرب الأولاد الكبار بالكبيرة، ويضرب الأولاد
الصغار بالصغيرة، إذا شاغبوا، وعندما كان يضرب ولداً من الكبار؛ لم أكن أقول له
شيئاً!
أمّا إذا ضرب ولداً من الصغار؛ فكنت أصرخ عليه،
وأقول له: يقول الله تعالى في القرآن: حرام عليكم تضربوا الأولاد الصغار، لذلك ما
بجوز تضرب الصغار.
وكنت آخذ من كيس حلويّاتي، وأعطي الأولاد الصغار
كلهم، دون الكبار!
لماذا؟ لا أعلم!
كان الشيخ عارف يعلّمنا في كلّ يوم سورةً واحدةً من
قصار السور، وفي اليوم التالي نسمعه إيّاها، ثم يعطينا سورة جديدة.
وكان طيلةَ النهار يكرّر علينا السورة، والتلامذة يرددون
وراءه!
لكنني يصبح لديّ إشباعٌ، بعد ثلاثِ أو أربع مرّاتٍ،
فأقول له: خلاص خلاص، أو كفى كفى، حفظنا السورة!
فيقول لي: أسمعني السورة لأرى؟ فأسمعه إيّاها،
فيحاول أن يجد أحداً حفظها غيري، فلا يجد!
فيُضطرّ إلى التكرار، وأنا أرفض التكرار، فكان
يفضّل أن يوصلني إلى البيت، وينادي على الوالدة حتى تستلمني، وهكذا طيلة جميع
الصيفيات التي حضرتها عليه قبل الابتدائيّة!
حدثني بذلك هو، وحدثتني به والدتي.
كانت والدتي تحتال عليّ لأحفظَ أكثر من سورة كلّ
يومٍ، فأرفض، وأقول لها: الشيخ عارف يزعل، ورفاقي الصغار يزعلون، لازم ما أحفظ
أكثرَ منهم.
ويبدو لي أنني كنت غيرَ واعٍ لشيءٍ مما حولي، إنّما
كانت ذاكرتي قويّةً فحسب!
دليل ذلك أنني لا أتذكّر شيئاً من مجالس الشيخ عارف
قبل الخامسة من عمري.
وانظر أنت أخي القارئ: بدأتُ بحفظ القرآن الكريم في
الرابعة من عمري، تقريباً، وعندما دخلت المدرسةَ الابتدائيّةَ في السابعة، إلّا
ثلاثةَ أشهرٍ؛ لم أكن حفظت سوى (جزء عمّ).
ولو كنت واعياً، مدركاً ما معنى قرآن، وما معنى
حفظ؛ كنت حفظت القرآن العظيم كلّه في أقلّ من ثلاث سنوات!
هذه أبرز الأحداث التي عشتها قبل دخولي المدرسة
الابتدائيّة.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق