مَسائل حديثية (24):
فضيلةُ العِشق!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عَقِبَ تعليقتي على صفحةِ أحد الإخوة الشعراء؛
تواصل معي أحد الإخوة، يسألني عن صحّة حديث ابن عباس (مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ،
فَكَتَمَ، فَمَاتَ؛ مَاتَ شَهِيداً).
وقال: أظنّ أنّ أحد العلماء المغاربة صحّحه، والله
أعلم!
أقول وبالله التوفيق:
بإسنادي إلى الإمام محمد بن حبّان البُستيّ في كتاب
المجروحين، رقم (456) رحمه الله تعالى قال: «سُوَيْد بْن سَعِيد الحدثانيّ، من أهل
الأنبار، مولده بالحَدِيثة.
يَرْوِي عَن عَلِي بْن مسْهر وَحَفْص بْن ميسرَة،
حَدثنَا عَنْهُ شُيُوخنَا (ت: 239 هـ).
يَأْتِي عَن الثِّقَات بالمعضلات.
رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي
يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ عَشِقَ، فَعَفَّ، فَكَتَمَ، فَمَاتَ؛
مَاتَ شَهِيداً).
وَمَنْ رَوَى مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ الْوَاحِدِ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ؛ يَجِبُ مُجَانَبَةُ رِوَايَاتِهِ.
هَذَا إِلَى مَا يُخطىء فِي الآثَارِ، وَيَقلّبُ
الأَخْبَارَ» انتهى.
وقال الدراقطنيّ في تعقباته على ابن حبّان (ص:
121): «سُوَيْدُ بْنُ سَعِيٍد ثِقَةٌ، وَلَكِنَّهُ كَبُرَ، فَرُبَّمَا قَرَأَ الْقُومُ
عَلَيهِ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ حَدِيثاً فِيهِ بَعْضُ النَّكَارَةِ، فَيُجِيزُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ «يعني
حديثَ الباب» فَالْبَلِيَّةُ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ سُوَيْدٍ، لَا مِنْهُ، وَهُوَ
شَيْخٌ، يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْخَصِيبِ، يَضَعُ الْحَدِيثَ».
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6: 554) من
طريق إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْفَقِيه عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ
الْحَدَثَانِيُّ، به مثله.
وأخرجه الخطيب في موضع آخر من تاريخه (15: 239) من
طريق مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْخَصِيبُ عن سويد، به مثلَه.
وأخرجه الخطيب في تاريخه (14: 501) أيضاً، من طريق
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ
بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، مرفوعاً مثله.
ثم قال: «رواه غير واحدٍ عَنْ سويد، عَنْ علي بْن
مسهر، عَنْ أبي يحيى القتات، عَنْ مجاهد، عَنِ ابْن عَبَّاس، وهو المحفوظ».
وأورده ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ له (861) ثم
قال: «سُوَيْدٌ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ
هَذَا الْحَدِيثَ».
وقال النسائيّ في ضعفائه (260): ليس بثقة.
ونقل ابن عساكر في تاريخه (72: 340) من طريق حسين
بن فهم عن ابن معين أنّه ذكر عنده سويد بن سعيد الحدثاني، فقال: لا صلى الله عليه
قال ابن فهم: ولم يكن عنده بشيء.
وقال الذهبي في المغني (1: 290): شيخ مُسلم مُحدث
نبيل لَهُ مَنَاكِير قَالَ أَبُو حَاتِم صَدُوق وَقَالَ احْمَد مَتْرُوك وَقَالَ
النَّسَائِيّ لَيْسَ بِثِقَة وَقَالَ البُخَارِيّ عمي وَكَانَ يقبل التَّلْقِين
وَقواهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
قال عداب: قول الدارقطنيّ: إنّ البلاء في الحديث
ممّن روى عن سويد؛ غير دقيق، إذ قد رواه عن سويد جماعة، كما قال الخطيب.
وقد صحّح حديثَ ابن عبّاس هذا غير واحدٍ من
العلماء، وأفرد له الحافظ أحمد بن محمد بن الصدّيق الغماري جزءاً، حقّقه ونشره
الدكتور إياد الغَوْج في الأردن.
وأنا أميلُ إلى تضعيفه سنداً، وإلى نكارته متناً!
أمّا تضعيف سنده؛ فلما سبق من الكلام في سويد، وهو
وإن أخرج له مسلم في صحيحه أحاديثَ، إلّا أنّ جمهور النقّاد على تضعيفه.
وأمّا متنه؛ فمشكل جدّاً؛ لأنّ العشق مرضٌ عُضال،
من النادر أن يبرأ العاشق منه.
وقد عاصرنا وعايشنا بعضَ من وقع في هذا البلاء،
فحدّثني بعضهم وأقسم بأنّه لا يدري إذا شرع في الصلاة ماذا يقرأ، ولا كم من
الركعاتِ صلّى.
وقد شاهدتُ بنفسي أحدَ من يكتم أموره وأحوالَه، من
أصدقائي، حين شاهد خطيبته وحبيبته التي زوّجها أهلها الأغبياء من غيره، تطوف
بالكعبة المشرّفة؛ وقع في الأرض مغشيّاً عليه!
وقال لي أحدهم: أنا ينطبق عليّ قول ذاك الشاعر:
يا قبلتي في صلاتي إذا
وقفت أصلّي
فحبيبتي هي قبلتي، وهي صلاتي، وهي قيامي وقعودي!
فإذا وصل بالإنسان العشق إلى هذه الحال؛ فهو ممّن
ينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله) والمفترض بالمسلمين أنهم من (وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
فكيف إذا تمادى به الحالُ، فصار حبّ معشوقته أشدّ
من حبّه لله تعالى؟
وأظنّ العاشقَ يغفل حقيقةً -لا مجازاً - عن الله تعالى، ويغدو تفكيره في محبوته، أعاذنا الله من الغفلة عن
جَنابه.
ولشدّة تأثير العشقِ المَرَضيِّ هذا على عقل العاشق
وقلبه وروحه ومشاعره؛ عدّه ابن قيّم الجوزيّة من الشرك الأكبر!
قال
في إغاثة اللهفان (2: 151): «إنّ تَعَبُّدَ القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة
معصية، ومفسدة الشركِ؛ أعظم من مفسدة المعصية.
وأيضاً، فإنّ الإنسان قد يتخلّص من الكبيرة بالتوبة
والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلبِ؛ فإنّه يَعز عليه التَخَلُّصُ منه».
وقال نحو ذلك في كتابه الداء والدواء (ص: 212).
ومن المعروفِ المتداول بين الناس؛ أنّ العاشقَ
أعمى، لا يسمع ولا يبصر ولا يفكّر إلّا بمعشوقته.
وحتى الذين ابْتُلوا بالعشق، ثم تمكّنوا بفضل الله
تعالى من تجاوزِ مرضهم هذا؛ فهم لا ينسون حبيباتهم، وتبقى في قلوبهم غصص وحزنٌ
وشوقٌ إلى ذكرهنّ، إنْ لم يمكن التواصل معهنّ.
وتبقى مثل هذه الآلام مع الإنسان العاشق، الذي لم
يتمكّن من الزواج بمحبوبته ربما إلى آخر عمره.
وهذه الأحوال الشنيعة، وعبوديّة الشهواتِ المدمّرة؛
هي ما يريد الغرب الفاجر أن يرمينا به، حتى تنصرف قوانا وطاقاتنا إلى محادّة الله
تعالى، والانشغال بشهوات الدنيا ومتاعها.
وقانا الله تعالى وإياكم، من هذا البلاء المدمّر،
وعبوديّة الشهوات والهوى.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق