مَسائل حديثية (21):
هل كان أبو لؤلؤةَ مجوسيّاً؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ يقول: «قرأت لك منشوراً قديماً جدّاً تقول
فيه: إنّ أبا لؤلؤة قاتل عمر؛ لم يكن مجوسيّاً، إنّما كان نصرانيّاً وأسلم، وله
ابن محدّثٌ كبير»!؟
أقول وبالله التوفيق:
لستُ أتذكّر مثلَ هذا المنشور الغريبِ، في فقراته
كلّها.
أمّا أنّه ليس مجوسيّاً، وإنّما هو نصرانيّ؛
فالمسألة خلافيّة، كما سيأتي.
وأمّا أنّ له ولداً محدّثاً؛ فهذا غلط، ومن المحال
أن أكونَ قلتُ مثلَ هذا الكلام!
إنّما له بنت صغيرةٌ مسلمةٌ، قتلها عبيدُالله بن
عمر بن الخطّاب مع آخرين، عندما سمع بمقتل أبيه.
لكنْ سواء كان أبو لؤلؤةَ مجوسيّاً، أم كان
نصرانيّاً، أم كان مسلماً؛ فهو ممّن يدخل ابتداءً تحت قول الله تعالى: (وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) [النساء].
فكيف وقد قتل خليفة المسلمين عمر بنَ الخطّاب،
وستّةً أو سبعةً من المسلمين معه، رضي الله تعالى عنهم، في دقائقَ معدودة!؟
وقد اختلفَ المؤرخون في نسب أبي لؤلؤة على أقوال:
(1) فذهب قوم إلى أنّه مجوسيّ، فقد نقل ابن أبي
عاصم في الآحاد والمثاني (1: 108، 112) والطبراني في المعجم الأوسط (1: 181) وفي
الكبير (1: 70) عن ابن عبّاس مثلَ ذلك.
ونقل ذلك عبدالرزاق في مصنّفه (5: 474) وابن أبي
شيبة في مصنّفه (7: 439) نقلا ذلك عن ابن شهاب الزهريّ.
ونقل ابن شبّةَ في تاريخ المدينةِ (3: 913) عن محمد
بن عمرو بن علقمة؛ أنّه كان مجوسيّاً.
(2) ونقل الآجريّ في الشريعة (4: 1924) عن المسوَر
بن مخرمة، والحاكم في المستدرك (3: 97) عن أبي رافع مولى الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم؛ أنّ أبا لؤلؤة نصرانيّ.
ونصّ ابن حبّان في السيرة من الثقات؛ أنّه كان
نصرانيّاً.
(3)
وقال ابن عبدالبَرّ في الاستيعاب (3: 1155): حَدَّثَنَا خَلَفُ بن قاسم: حدثنا
الحسن بن رشيق: حدثنا الدَّولابِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ بن مسلم الكابليّ قَالَ: اخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي شَأْنِ
أَبِي لُؤْلُؤَةَ!
فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: كَانَ مَجُوسِيّاً.
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: كَانَ نَصْرَانِيّاً.
حَدَّثَنَا
أَبُو سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: كَانَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ أَزْرَقَ نَصْرَانِيًّا!
وَجَأَهُ
بِسِكِّينٍ لَهُ طَرَفَانِ، فَلَمَّا جُرِحَ عُمَرُ؛ جُرِحَ مَعَهُ ثَلاثَةَ
عَشَرَ رَجُلا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أُخِذَ، فَلَمَّا أُخِذَ؛ قَتَلَ نَفْسَهُ».
أمّا
عن وَلَد أبي لؤلؤةَ المحدّث؛ فليس له ولد محدّث، أو غير محدّث، إنما كانت له بنت
صغيرة، قتلها عبيدالله بن عمر مع آخرين، في فورةِ غضبه!؟
أمّا
الإِمَامُ، الفَقِيْهُ, الحَافِظُ, المُفْتِي, أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
القُرَشِيُّ, المَدَنِيُّ, أبو الزنادِ عبدُالله بن ذكوان،و كنيته أبو عبدالرحمن،
كما وصفه الذهبيّ في النبلاء (6: 161) فقد قال ابن حبّان في مشاهير علماء الأمصار
(ص: 215) وفي الثقات (7: 6) جازماً: «كان ذكوان أخا أبي لؤلؤةَ قاتل عُمَر بن
الخطاب.
وكان
أبو الزناد من فقهاء المدينةِ، وعُبّادهم، وكان صاحب كتاب لا يَحفَظُ، مات سنة
إحدى وثلاثين ومائة، وقد قيل سنة ثلاثين ومائة»!
وقال
ابن عساكر في تاريخ دمشق (28: 48): «قالوا: كان ذكوانُ أخا أبي لؤلؤةَ قاتل عمر،
بولادة العجم».
ومثله
قال الذهبيّ في الكاشف (1: 549) وقال في تذهيب تهذيب الكمال له (5: 138): « قال
أحمد بن صالح المصري: أبوه ذكوان أخو أبي لؤلؤة، قاتل عمر رضي الله عنه».
وبعضُ
العلماء استغرب الأمرَ، واستفظعه فيما يبدو، فقال: «قالوا، وقيل: إنّ ذكوان أخو
أبي لؤلؤة».
والذي
يظهر لي أنّ أبا لؤلؤةَ كان قد أعلنَ إسلامَه، وأعلنت ابنتُه الصغيرة إسلامها معه.
سواءٌ
أعلنه معتقداً، أم متّقياً، فالنتيجة عندي سواء!
وإلّا
كيف لأبي لؤلؤةَ أن يكون مجوسيّاً أو نصرانيّاً، وتكون ابنته الصغيرةُ مسلمةً،
والصغير يتبع أحسن أبويه ديناً؟
لكنْ
لما ارتكب هذه الفظاعةَ الإجراميّة في قتل خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب؛ لم
يشاؤوا أن يُلصقوا قتلَه برجلٍ مسلم، فقالوا: قتله مجوسيٌّ أو نصرانيّ، بقرينة
أنّه من سبي نهاوند كما قالوا، وعهده بالمدينة قريب!
وكان
للصراع السنيّ الشيعيّ أثر كبيرٌ في ذلك، إلى درجة أنّهم يقولون عن سبعين أو ثماني
مليوناً من الشيعة الإمامية: إنهم مجوس!؟
تماماً
مثلما قالوا: إنّ الذين قتلوا خليفةَ المسلمين الآخر عثمان بن عفّان رضي الله عنه؛
هم الغوغاء والأعراب، وحقيقة الأمر أنّ أكبر المحرّضين على عثمان؛ هم طلحةُ
والزبير وعائشة، وكثير من الأنصار، ومات ابن مسعود وعبدالرحمن بن عوفٍ، وهما لا
يكلّمان عثمان، رضي الله عنهم.
بيد
أنّ الصحابةَ الذين حرّضوا على عثمان، لتسليطه بني أميّة على رقابِ الناس وأموالِهم؛
لم يكونوا يريدون قتلَه – فيما
ظهر لي – إنّما
كانوا يريدون خلعَه فحسب!
قال
الإمام المزيّ في ترجمة عثمان من تهذيب الكمال (5: 128) رقم (4436) من الطبّعة
المصغّرة ما نصّه: قال الحسن البصريّ يصف عهد عثمان: «أرزاقٌ دارّة، وخير كثير،
وذات بَين حَسَنٍ، ما على الأرضِ مؤمن يخاف مؤمناً، إلّا يَوَدُّه ويبصّره
ويألفُه.
فلو
صبر الأنصار على الأثرةِ؛ لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق، ولكنّهم سلّوا
السيفَ مع مَنْ سلَّ، فصار عن الكفّار مغمداً، وعلى المسلمين مسلولاً إلى يوم
القيامة».
هذا
الكلام يؤكّد الذي ذكرتُه قبلَ قليل، لكنّ أهلَ السنّة – وهم السواد الأعظم من الأمّة،
ربما من أجل خواطر الصحابةِ الذين كانوا في حزب البغاة؛ انتهجوا منهج
السكوتِ عمّا جرى بين الصحابة، وبالغوا في تعظيمهم، واصطبغت ثقافة الأمة بثقافة
القصّ والحذف والاختصار والتعمية والإماتةِ، حتى لم يعد أحدٌ يَعرفُ أين الحقيقة،
وللأسف!
رحم
الله عثمان بن عفّان، ورحم الله طلحة والزبير وعائشة، وسامحهم فيما جَنَوه على هذه
الأمّة، فهو أرحم الراحمين.
ونقل
المزيّ في الموضع نفسه (5: 128) عن الإمام عليٍّ عليه السلام قال:
«مَن
تبرّأ من دين عثمان؛ فقد تبرّأ من الإيمانِ، والله ما أعنت على قتله، ولا أمرت به،
ولا رضيت».
قال
الإمام ابن رجب الحنبليّ في رسالتِه: الفرق بين النصيحة والتعيير (ص: 24):
« لما
قُتِل عثمان رضي الله عنه لم ترَ الأمةُ أحقَّ من علي رضي الله عنه فبايعوه.
فتوصّل
من تَوصّل إلى التَنفيرِ عنه؛ بأن أظهر تَعظيمَ قتل عثمان وقُبحَه - وهو
في نفس الأمر كذلك - ضُمَّ إلى ذلك أنَّ المؤلَّب على قتله، والساعي
فيه علي رضي الله عنه.
وهذا كان كذباً وبُهتاً، وكان علي رضي الله عنه
يحلف ويُغلِّظُ الحَلِفَ على نَفيِ ذلك وهو الصادقُ البارُّ في يمينه رضي الله عنه
وبادروا
إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً، ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم واجتهد أولئك في
إظهار ذلك وإشاعته على المنابر، في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمةِ، حتى
استقر في قلوب أتباعهم أنّ الأمر على ما قالوه، وأنّ بني مروان أحقُّ بالأمر من عليٍّ
وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره.
فتوصلوا
بذلك إلى تأليف قلوبِ الناس عليهم، وقتالهم لعلي وولده من بعده، وثبت بذلك لهم
الملك، واستوثق لهم الأمر.
وكان
بعضُهم – بني
أميّة - يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلامًا، ما معناه: «لم
يكن أحدٌ من الصَحابة أكفأ عَن عُثمانَ مِن عَليٍّ» فيقال له: لِمَ تسبُّونه إذًا؟
فيقول: «إنّ المُلكَ لا يقوم إلا بذلك».
ألا
قبّح الله ملكاً لا يقوم إلا على الافتراء والدماء!
ختاماً:
أعاذنا الله تبارك وتعالى من الوقوع في إراقةِ الدماء، فقد أخرج أحمد، والبخاري في
الدِياتِ (6862) من حديث عبدالله بن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَنْ
يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ؛ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَراماً).
اللهم
حفظتنا من هذا، فيما مضى من أعمارنا؛ فاحفظنا واحفظ إخواننا وأحبابنا من الخوض في
أعراض ودماء المسلمين، ما بقي من أيّامنا يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً. والحَمْدُ
للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق