مَسائِلُ حَديثيّةٌ:
هَلْ يُعتدُّ بمسندِ أحمدَ
المطبوع !؟
بسم
الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ
للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).
أرسلَ إليّ أحدُ الأصدقاء
منشوراً مطوّلاً، قال فيه: «إنّ مسندي أحمد والحميديّ وصحيح ابن حبّان» لا شكَّ في
صحّة نسبةِ أصولها إلى مؤلّفيها، ولا في احتوائها ما يصحّ عن النبيّ (صلعم هكذا)
صلّى الله عليه وآله وسلّم [نملأ الدنيا كلاماً فارغاً، فإذا جئنا إلى الصلاة على
الرسول؛ اختصرنا تخفيفاً على القارئ، فقلنا (صلعم)].
تابع يقول: «لكنّ الشكّ
إنما هو في سلامة المطبوع منها من التحريف بعد وفاة مؤلفيها، والشكّ بالتالي في
كلّ ما فيها؛ لِتطرّق احتمال التحريف إليه، إذْ يبطل الاستدلالُ كلّما تطرّق
الاحتمال.
إلّا أن يكون خبراً
«والصواب خبرٌ» تشهد له النصوص القرآنية، أو نصوص نبويّة سلمت ممّا شاب مرويّاتِ
هذه الكتب بعد وفاة مؤلفيها.
أمّا المسند المطبوع
منسوباً إلى أحمد؛ فإنّ كلّ أصوله الخطيّة؛ مدارها على إسنادٍ واحدٍ فقط إلى أحمد،
هو:
الحسن بن علي بن محمدّ
التميميّ الواعظ، المعروف بابن المُذهِب.
يرويه عن أبي بكرٍ أحمد بن
جعفر بن حمدان القطيعيّ، عن عبدالله بن أحمد، عن أبيه».
تابع يقول: «سواء في ذلك
طبعة الحلبيّ، أو طبعة المكتب الإسلاميّ، أو طبعة أحمد شاكر الناقصة، أو طبعة
مؤسسة الرسالة.
وهذا الإسنادُ لا يصحّ،
لما يكتنف ابنَ المذهب والقطيعي من رَيبٍ» انتهى.
ثم راح يترجم لابن المذهب،
والقطيعيّ، ونقل تضعيفهما عن عددٍ من الحفّاظ.
ثمّ قال بعد الانتهاءِ من
ترجمتهما ما نصّه: «قلت: وما يُدرينا أنّ المسندَ لم يكن مع ما غرق، فاستحدث
القطيعيّ نسخةً من كتابٍ ليس فيه سماعُه» انتهى مرادي من كلامه.
أقول وبالله التوفيق:
سأعتمدُ في هذه الدراسة العلمية نسخة ترقيم العالَميّة من مسند أحمد ابن حنبلٍ،
التي يبلغ عدد أحاديث مسندِ أحمد، حسب ترقيمها (26363) حديثاً.
مع معرفتي بترقيم الطبعات
الأخرى، وطبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، التي بلغ عدد الأحاديث
فيها (27647) حديثاً.
أحبّ أنْ أنبّه إلى بعضِ
الأمورِ الضروريّة، التي تخصَّ أحمدَ ابن حنبلٍ ومسنده!
أوّلاً: أنا أعتقدُ أنّ
أحمدَ ابن حنبلٍ من الصالحين، مع يقيني أنّه رأس المجسّمة، ورأس فتنة خلق القرآن
هو وابنُ أبي دؤاد!
كيف هذا؟ لأنني أعذر
بالجهل، وأعذر بالاجتهاد!
ثانياً: أنا لست من
المعجبين بشخصيّة أحمدَ ابن حنبلٍ، ولا بمسندِه، وترتيبُ منهجه، وكثرة التكرار
الذي فيه؛ متعب ومزعج، وما أكثر الأحاديثَ التي يكرّرها سنداً ومتناً، من دون أيّ
فائدة تذكر، والسبب في ذلك؛ أنّ الرجلَ ليس لا ييحسن التأليفَ فحسب، بل إنّه كان
ينهى عن كتابة تلامذته عنه من الأساس!
ثالثاً: مِن الغُبنِ
الفاحشِ القميء؛ أنْ نَشطُبَ (26363) حديثاً، بمثلِ هذه الكلماتِ الساذجة الصادرةِ
عن إنسانٍ يزعم التخصّص في علم الحديثِ، ولم أقرأ له منشوراً يقصد فيه غير التشكيك
في السنّة، ورفض الحديثِ [أقول: لم أقرأ، ولم أقل: لم يكتب فانتبه].
ثالثاً: ممّا أخطأَ فيه
سلفنا وخلفنا؛ الهوسُ بعلوّ الإسنادِ، فكتابٌ مثل صحيح الإمام البخاريّ؛ لا يصلنا
مسنداً، إلّا من طريقِ راوٍ واحدٍ، لا هو بمحدّث ولا ناقدٍ، إنّما أطال الله
عمرَه، فقصده الرواة من كلّ حدبٍ وصوب، وهكذا أكثرُ كتبنا الجليلة، وللأسف!
والأمر ذاته ينطبق على
مسند أحمد ابن حنبلٍ، إذْ لا يُعرَف له إسنادٌ، سوى الإسنادِ الذي ذكره صاحب
البحثِ الذي شكّك بمسند أحمدَ من أوّله إلى آخره.
مع أنّ الرواةَ عن أحمد ابن
حنبلٍ يتجاوزون مائةَ راوٍ [انظر بعضَ الرواة عنه في تهذيب الكمال (1: 437 -
470)].
والرواة عن عبدالله بن
أحمد كثيرون جدّاً أيضاً:
منهم أحمد بن شعيب
النسائي، كما في السنن الكبرى (3: 143) و(4: 174).
ومنهم وأبو بشرٍ محمد بن
أحمد الدَولابيّ، كما الأسماء والكنى له (1: 17، 212، ، 238).
ومنهم أبو عوانة يعقوب بن
إسحاق الإسفرايني، كما في مستخرجه على صحيح مسلم (1: 59، 175، 264، 441)...
ومنهم أحمد بن محمّد بن
خزيمة، كما في مشكل الآثار للطحاوي (12: 205).
ومنهم أبو بكر أحمد بن
مروان الدينوري، كما في كتابه «المجالسة وجواهر العلم» رقم (9، 253، 428، 942،
1151)...
ومنهم أبو بكر الخلال في
كتاب السنّة (1018، 1019).
ومنهم إسحاق بن أحمد
الكاذي كما في كتاب الإبانة لابن بطة (1202).
ومنهم أحمد بن محمد بن
هارون، كما في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية لعبدالله بن أحمد.
ومنهم أبو بكر محمد بن
أحمد بن الجهم، كما في مصنّف ابن أبي شيبة (7: 474).
ولو رحتُ أحصي وأتتبّع؛
لزدت على مائة راوٍ أخذوا العلم عن عبدالله بن أحمد بن أحمد.
لكنْ لماذا لم يروِ المسندَ
عن عبدالله بن أحمد سوى القطيعي المتّهم بالوضع؟
لأنّ القطيعيّ ولد سنة
(274) وتوفي سنة (368 هـ) وله من العمر خمس وتسعون سنة، كما في النبلاء للذهبيّ (16:
213).
رابعاً: وقع حديثُ عبدالله
بن أحمد في كتب المتأخرين في الوفاة عنه، من مثل النسائيّ والطحاوي والطبراني وابن
عديّ وكثيرين غيرهم.
وكلّ حديثٍ ينقل هؤلاء عن
عبدالله قوله: قال أبي: تجده في مسندِ الإمام أحمد، أو في غيره من كتبه، وهذه
أدلّة تثبت أنّ كثيراً من أحاديث مسند أحمد؛ حملها الثقات عن طريق عبدالله، فكيف
نعدم الثقة بمسند أحمدَ كلّه للاحتمال؟
رابعاً: أكرمنا الله
بموسوعة بديعة دقيقة بدرجة تزيد على (95%) حسب عملي عليها.
هي موسوعة (صخر) التي يبدو
أنها ستنقرض من الأسواق!
من برامج هذه الموسوعة؛
التخريج، وهذا التخريج يتناول أحاديث كلّ كتابٍ، فيرصد عدد الأحاديث حسب الترقيم
العام.
ثم يرصد الأحاديث من دون
تكرار.
ثمّ يرصد الأحاديث برواية
الثقات.
ثم يرصد المرفوعات،
فالموقوفات، فالمقطوعات.
ثم يرصد الأحاديث التي
اتفق عليها أصحاب الكتب الستّة.
ثمّ يرصد الأحاديث التي
اتّفق فيها أحمد مثلاً مع الستّة أو الخمسة، أو البخاريّ أو مسلم...إلخ.
ثم يرصد الأحاديث التي
انفرد كلّ كتابٍ عن التسعة.
وسنتاول سريعاً هذه
الفوائد لأنها ستخدمنا في العثور على أحاديثِ مسند أحمد، في غير المسند، وأنّ
روايتها من طريقِ القطيعيّ عن عبدالله عن أحمد؛ لا تقودنا إلى طَرحِ كتاب أحمد ابن
حنبلٍ، وفقدان الثقة به.
ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدد
أحاديثِ مسند أحمد حسب موسوعة صخر المسمّاة ترقيم العالمية (26363) حديثاً مع
التكرار الكثير!
وعدد أحاديث مسند أحمد من
دون تكرار (9339) حديثاً، وقدّمت أنّ كثيراً من هذا التكرار لا فائدةَ منه؛ لأنّه
تكرّر بالسند والمتن نفسه.
فنحن إذا أردنا أن نجمع
أحاديث مسند أحمد، من الكتبِ المتقدمة عليه والمتأخّرة عنه؛ فإننا ننظر إلى
الأحاديثِ غيرالمكررة (9339).
أرجو أنْ لا تملَّ أخي
طالبَ العلم؛ لتتعلّم كيف تقيم الحجة على شبهات الجاهلين والمغرضين.
أصحاب الكتب التسعة الذين
خُدمتْ أحاديثهم في موسوعة «صخر» هم:
مالك بن أنس في كتابه
الموطّأ (179 هـ) ورمز كتابه «ط».
أحمد ابن حنبل (241 هـ)
ورمز كتابه (حم)
الدارمي عبدالله بن
عبدالرحمن (255 هـ) ورمز كتابه «مي».
البخاري محمد بن إسماعيل
(256 هـ) ورمز كتابه (خ).
مسلم بن الحجاج (261 هـ)
ورمز كتابه (م)
ابن ماجهْ محمد بن يزيد
الرَبعي القزويني (273 هـ) ورمز كتابه «ق».
أبو داود سليمان بن الأشعث
(275 هـ) ورمز كتابه (د).
الترمذيّ محمد بن عيسى بن
سَورةَ (279 هـ) ومرز كتابه (ت).
النسائيّ أحمد بن شعيب بن
علي (303 هـ) ورمز كتابه المجتبى (س).
هؤلاء الأئمّة التسعة؛
اتّفقوا على تخريج (535) حديثاً، جميعها موجودة في مسند الإمام أحمد، أوّلها
(15836) وقد كرره أحمد في كتابه (4) مرات أُخر(15843، 15857، 15864، 15876).
والإمام أحمد وافق الأئمة
الستّة على تخريج (1071) حديثاً، أوّلها (12258) وقد كرّره أحمد في مسنده مرتين
(12002، 12541).
والإمام أحمد وافق
الصحيحين على تخريج (3619) حديثاً، أوّلها عند أحمد (17492) وكرره أحمد في مسنده
ثلاث مرّاتٍ أخر (17530، 19304، 19358)
والإمام أحمد خرّج من
أحاديث مالك بن أنس (623) حديثاً مسندة، وأحاديث مالك المتّصلة كلها لا تتجاوز
(700) حديثٍ، أوّلها عند أحمد (21221) ولم يكرره أحمد في مسنده.
وعدد أحاديث صحيح البخاريّ
(7564) حديثاً، خرجّ الإمام أحمد في مسنده منها (4789) حديثاً.
وعدد أحاديث صحيح مسلم حسب
ترقيم العالمية صخر (5362) خرّج أحمد منها (4789) وهذا عجيب!
هذه الألوف من الأحاديث
التي انتقاها هؤلاء الأئمّة من مسند أحمد؛ جميعها محفوظة في كتبهم، فلو ضاع مسند
أحمد أو غرق كما افترض صاحب المنشور مقلّداً غيره؛ لاستطعنا أن نجمع أكثر مسند
أحمد منها.
انتبه أخي القارئ: ههنا
يأتي الإشكال:
انفرد أحمد عن بقية التسعة
بتخريج (4789) حديثاً، لم يخرّجها من التسعة أحدٌ غيره، أوائلها (4، 7، 15، 18،
19، 20) وأواخرها (26333، 26338، 26340، 26349، 16362).
هذه الأحاديثُ التي انفرد
بها أحمد من جملة أحاديث كتابه المكررة (26363) حديثاً وليس لدي إحصائيّة لها كم
تبقى من غير تكرار.
ههنا يمكن للمشككين أنْ
يتفلسفوا، بيد أنّ الجواب يأتي سريعاً جدّاً:
لقد خرّج الحافظ ابن حجر
أفرد هذه الأحاديث في كتابين:
الأوّل: كتاب إطراف المسند
المعتلي بأطراف المسند الحنبليّ، فقد عزا أحاديث مسند أحمد جميعها إلى مخرّجيها من
أصحاب المصنفات الحديثيّة.
والثاني: إتحاف المهرة
بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة.
ففي هذين الكتابين تجد
الأحاديثَ الكثيرة جدّاً، التي انفرد بها أحمد عن بقية التسعة موجودةً في الكتب
المتأخّرة، وسأضرب لك مثالاً واحداً من إتحاف المهرة؛ لأنني تعبت.
في (1: 179) ما نصّه: (حم
عم حب) هذا الحديثُ من زوائد أحمد على الكتب الثمانية في موسوعة صخر، أشار ابن حجر
إلى أنّه مرويّ بإسنادِ عبدالله بن أحمد عن أبيه، وبإسناد عبدالله بن أحمد عن غير
أبيه أيضاً، وهو في صحيح ابن حبّان (737).
تعبتُ كثيراً جدّاً، فقد
أُجريت لي عمليّة في فقرات ظهري، ولم أعد أحتمل شيئاً، لا بل لم يعدْ عقلي يعمل.
وفي هذا القدر كفايةٌ لمن
كان لديه مسحةٌ من عقل، ونَزْرٌ من العلم، وخوفٌ من الله تعالى.
واللهُ تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة مهمة: غداً أراجع
المنشور، فليتريّث الذي يفرحون إذا أخطأ أمثالي، في كتابة رقم، أو في خطأ طباعي،
ونحو ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق