مَسائِلُ حَديثيّةٌ:
هَلِ الأحاديثُ القُدسيّةُ
موضوعةٌ !؟
بسم
الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ
للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).
أمّا بعدُ: فقد اطّلعتُ
على منشورٍ كتبه زاعمٌ أنّه يدافع عن سنة الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم،
وينقّيها من الدَخَن الكثيرِ الذي لحق بها، باعتماده «منهج نقد المتن» دون اتّباعِ
منهج المحدّثين، زعم في منشوره أنّ
الأحاديثَ القدسيّةَ «افتراءُ على الله ورسوله» صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا
يعني أنّها موضوعةٌ مكذوبة، زاعماً «أنّ فكرة أنّ الله تعالى يتكلّم خارج القرآن
الكريم؛ هي فكرة باطلة؛ لأنها تتعارض مع نصوص كتاب الله التي تقرّر أنّ القرآن
وحده كلام الله عزّ وجلّ».
ويقول أيضاً: «والأعجبُ
أنّ أغلبَ هذه الأحاديث ضعيفة نكرة ركيكةُ المتن، تحمل معاني تسيء إلى مقام
الألوهية، وتصف الله بما لا يليق بجلاله، وتكثر فيها ألفاظ التشبيه والتجسيم، التي
لا يقبلها عقل ولا فطرة»
وساق خمسةَ أحاديثَ من
صحيحي البخاري ومسلم دليلاً على دعواه بأنّ الأحاديثَ القدسيةَ افتراء على الله
ورسوله.
ونحن سنناقشه في هذه
الأحاديث ذاتها لنرى هل هي ممّا يعارض القرآن الكريم كما يحاول أن يؤكّد دائماً؟
وقبل دراسةِ تلك
الأحاديثِ؛ عليّ أن أقول: إنّ دعوى الوضعِ حدّد العلماءُ سبيلَ تحقّقها، وقالوا:
إذا كان الكلامُ المنسوبُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخالف الكتابَ
أو السنّة أو الإجماعَ؛ نَنظر في إسناد الحديثِ، ونُلصِقُ هذا المتن المنكر بأضعفِ
راوٍ في الإسناد، ونحكم بضعف الحديثِ!
قال ابن حبّان في ترجمة
أحدِ الرواة من كتاب المجروحين (3: 158): «يَروي مَا لم يُتَابع عَلَيْهِ،
وَالْإِنْسَان إِذا كَانَ بِهَذَا النَّعْتِ، ثمَّ لم يرو إِلَّا خَبراً وَاحِداً،
خَالفَ فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَالنَّظَر والرأيَ؛
يسْتَحق مجانبتَه فِيه، وَلَا يُحتَجُّ بِه».
وقال في مقدمة صحيحه (1:
155): «وإنْ لم يوجَدْ ما قُلنا؛ نُظِر هَل روى أحدٌ هَذَا الْخَبَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم غيرُ أبي هريرة، فإنْ وُجد ذلكَ؛ صحّ أنّ
الخبرَ له أصلٌ.
ومَتى عُدم ذلكَ، والخبر
نفسُه يُخالفُ الأصولَ الثلاثةَ «الكتابَ والسنّة والإجماعَ» عُلِمَ أنّ الخبرَ
مَوضوعٌ لا شَكَّ فيه، وأنّ ناقلَه الذي تَفرّد به؛ هو الذي وَضَعَه» انتهى.
قال
الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح (ص: 2: 675): «وأما ما انفرد به المستورُ
أو الموصوفُ بسوءِ الحِفظِ، أو المُضَعَّف في بعض مَشايخه دون بعض، بِشيءٍ لا
متابع له ولا شاهدَ؛ فهذا أحدُ قِسمي المُنكر، وهو الذي يُوجَدُ في إطلاقِ كثيرٍ مِن
أهلِ الحَديث.
وإن خولف في ذلك؛ فهو
القسم الثاني، وهو المُعتمَد على رأي الأكثرين».
فمتى كان المنفردُ
بالحديثِ هو المدارَ فما فوقه واحداً ممن سبق وصفُه؛ حكمنا بنكارةِ الحديثِ في أيّ
كتابٍ كان!
ونحنُ لدينا في صحيح
البخاريّ ومسلمٍ (211) حديثاً، فهل هذه الأحاديثُ كلّها موضوعةٌ، ومَن الذي وضعها،
وإذا لم يكن واحدٌ من رواتها متّهماً بالوضعِ، وليس فيها ما يخالفُ الكتابَ والسنة
والإجماع، فكيف نحكم بوضعِها من دون دراستها؟
وحتى لا يُقال: إنّك تدّعي
أنّ الأحاديثَ القدسية في الصحيحين (211) حديثاً؛ أعرضُ الخمسةَ الأحاديثَ الأوَلَ
والخمسةَ الأخيرةَ من كلّ كتابٍ منهما.
في صحيح البخاري (131)
حديثاً قدسيّاً مكرّرة، أوائلها (22، 279، 555، 557، 806) وأواخرها (7536، 7538،
7539، 7553، 7559).
وفي صحيح مسلم (80) حديثاً
قدسيّاً، أوائلها (71، 72، 128، 131، 136) وأواخرها (2847، 2872، 2937، 2969، 2985)
ومعلوم أنّ أحاديثَ مسلمٍ قليلةُ التكرار.
فإذا كانت هذه الأحاديثُ
القدسية موضوعة مكذوبةً؛ فكيف راجت على البخاريّ ومسلم والدارقطنيّ وابن حزم؟
- الحديث الأوّل: (مرضت
فلم تعدني).
بإسنادي إلى الإمام مسلم
في كتاب البرّ والصلة (2569) قال رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: (يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ يَا رَبِّ: كَيْفَ
أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ
عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟
يَا ابْنَ آدَمَ:
اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ يَا رَبِّ: وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ
وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ
لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟
يَا ابْنَ آدَمَ
اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ
رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: اسْتَسْقَاكَ
عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ
عِنْدِي).
قال الفقير عداب: حسبَ
منهجنا النقديّ؛ لا نحكم على الحديثِ بمجرّد استغراب لفظه، بل ندرس إسناده أوّلاً،
ثمّ نحكم على الإسناد، ثمّ نحاول فهم المتن المستغرب لدينا.
مدار حديث أبي هريرة على
ثابت البناني، رواه عنه:
حمّاد بن سلمة عند إسحاق
بن راهويه في مسنده (28) والبخاري في الأدب المفرد (517) ومسلم في صحيحه (2569)
وغيرهم كثيرون.
ورواه حمّادُ بن زيدٍ عن
ثابتٍ، عند أبي عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم (11211) وهذه الفائدة من فوائدِ
المستخرجاتِ، إذْ أزاحت الغرابةَ عن إسناد الحديث في طبقتين.
وثابتٌ: من ثقاتِ الرواةِ،
وأبو رافع: ثقة ثبتٌ، وأبو هريرة: من حفّاظ الصحابة.
فإسنادُ الحديثِ لا غُبار
عليه إذنْ، فكيف يكون افتراءً على الله ورسوله؟
أمّا متن الحديثِ؛ فجميع
المسلمين يقولون: فعلت هذا الأمر لله، ولوجه الله.
والله تعالى يقول: (لَنْ
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ (37) [الحجّ].
فالحديث القدسيّ حثُّ على فعل الخير والبرّ، وليس
فيه أنّ الله تعالى يأكل ويشرب ويمرض، إلّا عند مَن لا يفهم البلاغة العربيّة
وأساليب البيان القرآنيّ!
والله تعالى يقول: (مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ (11) [الحديد] فهل الله تعالى يستقرضُ نقداً أو عيناً من عباده؟
- الحديث الثاني: (كنت
سمعه الذي يسمع به).
بإسنادي إلى الإمام
البخاريّ في كتاب الرقاق (6502) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ: حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بن يَسارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: (مَنْ عَادَى
لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي
بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي
يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي
لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ
شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ
وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).
والحديث أخرجه ابن حبّان
في صحيحه (347) واللالكائيّ في أصول الاعتقاد (9: 99) والبيهقيّ في الأسماء
والصفات (1029) وغيرهم، من حديث خالدِ بن مَخلدٍ القطوانيّ بهذا الإسناد، وخالد بن
مخلدٍ وثّقه عددٌ من الحفّاظ، وأعطاه لقب صدوقٍ عددٌ منهم، وهو أضعف راوٍ في هذا
الإسنادِ، فإن كان في متن حديثِه نكارةٌ؛ فهي من خفّةِ ضبطه.
قال الإمام الذهبيّ في
ميزان الاعتدال (1: 641): «هذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه (4)
في منكراًت خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولانه مما ينفرد به شريك، وليس
بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه
في مسند أحمد».
نقل صاحب المنشور كلام
الذهبي هذا، ثم قال: «إذن لولا هيبة صحيح البخاري؛ لاعتُبر هذا الحديث من
المنكرات، لكن سلطة الصحيحين حالت دون ردّه، بينما لم يتردّد النقّاد الأقدمون،
مثل الدارقطني وابن حزم في توجيه النقد بكتب الحديثِ، بما فيها الصحيحان.
وهكذا تحوّلت بعض
المنكراتِ إلى عقائدَ، والمكذوبَ إلى مقدّس، لا بميزان التحقيق والتمحيص، بل تحت
ضغط التسليم للروايةِ والآبائيّة».
أقول وبالله التوفيق:
التمحيصُ والتحقيقُ يكون
بدراسة الحديثِ المرويّ سنداً ومتناً.
أمّا سنداً؛ فصاحب المنشور
لا يقترب من دراسة الأسانيد أبداً !؟
وأمّا الدارقطنيّ وابن
حزمٍ؛ فلم يتعرّضا لهذا الحديث بالضعف أبداً، ولا صاحب المنشور أشار إلى ذلك،
وبناءً على استشهاده بهما؛ فقد قصّرا في نقد هذا الحديث!
وأمّا متن الحديثِ؛ فلم
يزد صاحب المنشور على قوله: « وهكذا تحوّلت بعض المنكراتِ إلى عقائدَ، والمكذوبَ
إلى مقدّس، لا بميزان التحقيق والتمحيص، بل تحت ضغط التسليم للروايةِ والآبائيّة».
فهو لم يخرّج الحديثَ، ولم
يحكم على إسناده، ولم يبيّن لنا في متنه المنكرَ الذي تحوّل إلى عقائدَ، والمكذوبَ
الذي تحوّل إلى مُقدّسٍ.
ومن المعلومِ لدى أهلِ
العلمِ؛ أنّ الحديث َ إذا صحّ إسنادُه، وكان في متنه غرابةٌ؛ بحثنا له على تأويلٍ
قريبٍ مقبولٍ، قبل رفضه وادّعاءِ نكارة متنه.
قال
الإمام أبو سليمان الخطّابيّ في شرح صحيح البخاريّ (3: 2259): « هذه أمثال ضربها، والمعنى -والله أعلم- توفيقُه للأعمال التي
يباشرها «العبدُ» بهذه الأعضاءِ، وتيسيرُ المحبة له فيها، فيحفظ جوارحَه عليه، ويَعصمه
عن مُواقعةِ ما يكره الله من إصغاءٍ إلى اللهو بسمعِه، ونَظرٍ إلى ما نهى عنه
ببصره، وبطشٍ إلى مالا يحل له بيده، وسعيٌ في الباطل برجله.
وقد
يكون معناه سرعةَ إجابةِ الدعاءِ والإنجاح في الطِلْبَةِ.
وذلك
أنّ مساعي الإنسان؛ إنما تكون بهذه الجوارح الأربع.
وقوله:
ما ترددت عن شيء أنا فاعله؛ ترددي عن نفس المؤمن، فإنه أيضاً مَثَلٌ، والتَردّد في
صفة الله عز وجل؛ غير جائزٍ، والبداءُ عليه في الأمور؛ غير سائغ، وتأويله على
وجهين:
أحدهما: أن العبد قد يشرف
في أيام عمره على المهالك مراتٍ ذواتِ عَددٍ، من داء يصيبه، وآفة تنزل به، فيدعو
الله فيشفيه منها ويدفع مكروهها عنه، فيكون ذلك من فعله كترَدُّد من يريد أمراً،
ثم يبدو له في ذلك، ويتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه، إذا بلغ الكتاب أجله،
فإنّه تعالى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه، وهذا على معنى ما رُويَ
أن الدُعاء يَردُّ البلاءَ، والله أعلم».
فعلى هذه المعاني يمكن أن
يفسّر متن هذا الحديثِ، ويُمكن أن يكون خالدٌ قد وَهِم في بعضِ ألفاظ الحديثِ،
لكنّ الأمر لا يحتاجُ إلى هذا التهويل!
الحديث الثالث: (أتيته
هرولة) رواه البخاري ومسلم بطرق مختلفة!
هذا الحديثُ مَرويٌّ عن
ثلاثةٍ من الصحابةِ رضي الله عنهم، هم أبو ذرٍّ وأبو هريرةَ وأنس بن مالك:
أمّا حديثِ أبي ذرٍّ؛
فأخرجه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2687) وابن ماجه (3821) وأحمد في مسنده
(20353) من حديث المعرور بن سويدٍ عن أبي ذرّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ.
وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي
شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا
تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ
لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ
بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً).
وأمّا حديثُ أبي هريرة؛ فأخرجه
البخاريّ في مواضع من صحيحه، فأخرجه من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة
مرفوعاً (7405، 7505) ومن هذه الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (2675) والترمذيّ في
جامعه (3603) وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه البخاريّ من طريق
يحيى بن سعيدٍ القطّان عن سليمان بن طرخان التيميّ، عن أنسٍ، عن أبي هريرة مرفوعاً،
ومن هذه الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (2675).
وأخرجه البخاريّ من طريق
شعبةَ عن قتادةَ، عن أنس بن مالكٍ مرفوعاً
(7536).
فيكون البخاريّ قد حكى
الخلافَ في رواية الحديثِ عن أنسٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، أو عن
أنس، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.
وليس هذا اضطراباً في
روايةِ الحديثِ، كما حاول صاحب المنشورِ أن يُفهم، إنّما هو عَرضُ رواياتٍ متعددة
للحديثِ تزيدُ من ثبوته.
فحديثُ أبي هريرة في إطار
روايات البخاري وحده؛ مرويٌّ عن أنسٍ والأعرج وأبي صالحٍ عن أبي هريرة.
وليست رواية أنس عن أبي
هريرة بمستنكرة؛ فقد روى أنسٌ عن أبي هريرة عدداً من الروايات عند البخاري (2055،
2207، 2295) وغيرها، وعند مسلم (2035، 2675، 2823).
أمّا متن الحديث؛ فليس فيه
شيءٌ مستنكرٌ، لمن يفهم البلاغة العربية.
قال الإمام الترمذيّ في
شرح هذا الحديث: «وَيُرْوَى عَنْ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «مَنْ
تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً؛ تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، يَعْنِي بِالْمَغْفِرَةِ
وَالرَّحْمَةِ).
وَهَكَذَا فَسَّرَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَاهُ «يَقُولُ: إِذَا
تَقَرَّبَ إِلَيَّ الْعَبْدُ بِطَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُ؛ أُسْرِعُ إِلَيْهِ
بِمَغْفِرَتِي وَرَحْمَتِي» وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ (فَاذْكُرُونِي؛ أَذْكُرْكُمْ) قَالَ سَعيدٌ معناه:«اذْكُرُونِي
بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي».
وقال
ابن بطّال: «وأمّا وصفُه تعالى بأنّه يَتقرّب إلى عبده، ووصفه بإتيانه هرولة، فإن
التقرُّبَ والإتيانَ والمشيَ والهرولةَ مُحتملةٌ للحقيقةِ والمجاز، وحملُها على
الحقيقة؛ يَقتضى قَطع المسافاتِ، وتَواتي الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى،
فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب
أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبراً وذراعاً وإتيانه ومشيه؛ معناه: التَقرُّب
إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويَكون تقربه تَعالى من عبده؛ عبارةً عن إثابته على
طاعته، وتقرّبه من رحمته، وقوله تعالى: (أتيتُه هرولةً) أي: أتاه ثوابي مُسرعاً.
قال
الطبرى: وإنّما مثّلَ القليلَ من الطاعةِ بالشِبْرِ من الدنو منه والضِعْفَ من
الكرامةِ والثَوابِ بالذراع، فجَعلَ ذلك دليلاً على مَبلغِ كَرامتِه لمن أدمن على
طاعته».
فإذا
فُهم الحديثُ على هذا النَحوِ؛ فأيُّ مخالفةٍ بينه وبين القرآن الكريم، وأيّ منكرٍ
في دلالةِ ألفاظه المجازيّة؟
-
الحديث الرابع: (لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) رواه البخاريّ.
قال
صاحب المنشور: «العجيب أنّ هذا الحديثَ صِيغ على أنّه من قول الله عزّ وجلَّ، فهل
يصحّ أن ينسب هذا النصُّ إلى الله تعالى، أم إنّه من الإسرائيليات، افتروا به على ابن
عبّاسٍ، ثمّ رفعوه ليكون من كلام النبوّة»؟
قال
الفقير عداب: من قُصورِ صاحبِ المنشورِ وتسرّعه بالاتّهام قال: إنّ هذا المفترين
«افتروا هذا الحديث على ابن عبّاسٍ، ثمّ رفعوه ليكون من كلام النبوّةِ» ولم يتنبّه
إلى أنّ هذا الحديث مرويٌّ عن أربعةٍ من الصحابةِ: عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن
عبّاس، وأبي هريرة، وعبدالله بن جعفر بن أبي طالب!
-
أمّا حديث عبدالله بن مسعودٍ؛ فأخرجه البخاريّ في الكتاب نفسه (3412) وأحمد في
مسنده (3520).
-
وأمّا حديث ابن عبّاسٍ؛ فأخرجه البخاريّ في أحاديثِ الأنبياء (3396) ومسلم في
الفضائل (2377).
-
وأمّا حديثُ أبي هريرة؛ فأخرجه البخاريّ في الكتاب نفسه (3416) ومسلم في الفضائل
(2273).
-
وأمّا حديثُ عبدالله بن جعفرٍ؛ فأخرجه أبو داود في كتاب السنّة (4670) وأحمد في
مسنده (1665).
وجميع
هذه الأحاديثِ الأربعةِ؛ هي من قولِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليست
من الأحاديثِ القدسيّة!
إنّما
من مزيدِ أمانةِ البخاريّ؛ أشار إلى أنّ أحدَ مشايخِه نسبه إلى الله تعالى.
ففي
كتاب التوحيد (7935) قال الإمام البخاريّ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ (ح).
وقَالَ
لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ
قَالَ:
(لَا
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)
وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.
قال
الفقير عداب: يَعجبُ الإنسانُ من صاحبِ المنشور لاختياره هذه الروايةَ الشاذّةَ
التي أراد البخاريّ أن ينبّه عليها، دون بقيّة الرواياتِ الأصحّ أسانيد منها؟
فخليفة
بن خيّاط يقول فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: «صدوق ربما أخطأ».
ويقول
عليُّ ابن المدينيّ: لو لم يحدّث شباب؛ لكان خيراً له، وقال تلميذه البخاريّ:
مُقاربُ الحديث.
ومعلوم
لدى أهلِ الحديث؛ أنّ تفرّد صاحب مصطلح مقارب الحديث بحديثٍ؛ يُعدّ مُنكراً،
وخليفة بن خيّاطٍ تفرّد بنسبة هذا الحديث إلى الله تعالى، فتفرّده منكر!
فمن
جهة الإسناد؛ لا يسعنا سوى الحكم بصحة هذا الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وآله
وسلّم من قوله.
وأمّا
من جهة المتن؛ فلم يذكر لنا صاحب المنشور نكارةَ هذا المتن، واستحالةِ صُدوره عن
الله تعالى وهو القائل في القرآن الكريم:
(آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ (285) [البقرة].
هذا
على افتراض أنّ الحديثَ قدسيٌّ من كلامِ الله تعالى، وقد بيّنت قبلَ قليلٍ أنّه
حديثٌ شريفٌ، وليس بقدسي!
وأمّا
عندما يكون حديثاً شريفاً؛ فلا يختلفُ العقلاءُ أنّ الإنسانَ إذا ذكرَ العظماءَ
والكبراءَ؛ خَفضَ جناحَه تجاههم، ويونسُ بن متّى رسولٌ من رسل الله تعالى، صلوات
الله تعالى عليهم أجمعين، فعندما ذكره رسول الله محمّد؛ أظهر عظمةَ يونسَ، ولم يرَ
من اللائقِ أن يقول: (أنا سيّد ولدِ آدم ولا فخر) أخرجه مسلم (2278) لأنّ الأنبياء
معظّمون، وإنّما قالها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمامَ أصحابه، وليس فيهم
نَبيٌّ، والله تعالى أعلم.
-
الحديث الخامس: حديث (اعمل ما شئتَ؛ فقد غفرت لك) رواه مسلم.
قال
الفقير عداب:
بإسنادي
إلى الإمام مسلم في كتاب التوبة (2758) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي عَبْدُ
الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ: (أَذْنَبَ عَبْدٌ
ذَنْباً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ،
وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ: اغْفِرْ لِي
ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ
لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ
فَقَالَ أَيْ رَبِّ: اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ
عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ
بِالذَّنْبِ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ).
وأخرجه
البخاريّ في التوحيد (7507) وأحمدُ في مسنده (7607) جميعهم من حديثِ إسحاق بن
عبدالله، به نحوَه.
وإسحاق
بن عبدالله: ثقةٌ حجّةٌ، كما يقول ابن حجر، ووثّقه أبو زرعة وأبو حاتم ومحمّد بن
سعدٍ والنسائيّ!
وعبدالرحمن
بن أبي عمرةَ: ثقة كما يقول ابن حجر، ووثقه محمد بن سعد، وقال الذهبيّ: ثقة مشهور،
وترجمه ابن حبان في الثقات.
فلا
يسعنا من جهة الإسنادِ، إلّا أن نحكم بصحة إسنادِ الحديث!
قال
صاحب المنشور: «هل يعقل أن يُنسبَ إلى الله قولٌ بهذه الصيغةِ المطلقةِ (اعمل ما
شئتَ؛ فقد غفرتُ لك) مكافأةً للعبد أنّه كان يُذنب ويستغفر كلَّ مرّة».
وأقول:
بلى يُعقلُ ذلك، فقد قال الله تبارك وتعالى: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزُمَر] فهل من
فرقٍ بين الإطلاقين؟
بقي
علينا معالجة قول صاحبِ المنشور «إنّ فكرة أنّ الله تعالى يتكلّم خارج القرآن
الكريم؛ هي فكرة باطلة؛ لأنها تتعارض مع نصوص كتاب الله التي تقرّر أنّ القرآن
وحده كلام الله عزّ وجلّ».
قال
الفقير عداب: أين في نصوصِ القرآن الكريم «أنّ القرآن وحده كلام الله عزّ وجلّ»
أليس التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم من كلام الله جلّ وعلا؟
كلامُ الله المعجزُ؛ هو
القرآن الكريم وحده، أمّا تلك الكتبُ؛ فلم يرد أنّ ألفاظها معجزة، فيمكن أن يكون
لله تعالى كلامٌ غيرَ معجزٍ مثلها، وأين المانع من ذلك، والله تعالى يقول: (قُلْ
لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي؛ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ
أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
[الكهف].
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ، مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) [لقمان].
يضافُ إلى ما تقدّم؛ أنّ
مصطلح «الحديثُ القدسيُّ» شائعٌ في ثقافتنا الإسلامية، لا يخلو منه كتابٌ في علوم
القرآن.
وقد قاربتُ الثمانين من
عمري، ولم أقرأ أو أسمعْ أحداً ينكر وجودَ الأحاديثِ القدسيّة، قبل صاحب المنشور
هذا، أصلحه الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كل حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق