التَصوّفُ العليم:
هل أجمع الصحابةُ على عصيان
الرسول ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ
للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).
أمّا بعد: يثير بعضُ أهلِ العلمِ إشكالاً تجاهَ
حديثِ الغدير المتواتر عندنا وعند عددٍ من العلماء قبلنا، ويشنشن بهذا الإشكالِ
النواصبُ والساسةُ الذين لا يريدون لهذه الأمّة أن تتوحّد؛ لأنّهم منتفعون بهذه
التمزّق والاحتراب!
يقولون: إذا كان حديثُ الغدير متواتراً - كما
تقولون - فأنتم بهذا القول تتّهمون جميعَ الصحابةِ بعِصيانِ رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلّم!
فهل يُعقَلُ أن يجمع الصحابةُ كلّهم على عصيان
الرسول؟
أقول وبالله التوفيق:
جواب هذا الإشكالِ من وجوه:
أوّلاً: هناك عددٌ من الأحاديثِ التي تثبتُ مخالفةَ
بعضِ الصحابة للرسولِ في حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم، منها:
حديثُ رزيّةِ يوم الخميس.
وحديثُ عَقَبةِ تبوكَ.
وحديثُ صلح الحديبية، عندما رفض الصحابة الإحلالَ
من إحرامهم بالعمرة، وجميعها أحاديث في الصحيحين، أو أحدهما، وغير ذلك كثيرٌ، وليس
بالقليل!
فتصوّرُ مخالفةِ بعضِ الصحابةِ للرسولِ في حياته
وبعد انتقاله؛ مصاديقه كثيرة، لا يكابر بها إلّا الحمقى!
ثانياً: نحن نحترم جماهير الصحابة الكرام، وخاصّة الخلفاءَ الراشدين، ونترضى عنهم
في بداية كلّ حلقة ذكر.
بيد أنّنا نضعّف الأحاديث التي تقول:
(عليكم بسنّة الراشدين).
(اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكرٍ وعمر).
(أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم؛ اهتديتم).
(إنْ لم تجديني؛ فأتِ أبا بكر) فلم يثبت في نقدنا
الحديثيّ شيءٌ من هذا الكلام!
نحنُ نُجلّ أصحابَ الرسول ظاهراً وباطناً، بيد
أنّنا لا نعتقد بعصمتهم نظريّاً، ولا عمليّاً، والأحاديث الصحيحة التي تنصّ على
أنّ منهم مَن سيدخل النار كثيرة!
من
ذلك ما أخرجه البخاريّ (4625) ومسلم (2680) من حديث عبدالله بن عباس مرفوعاً، قال
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ.
أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ
أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ
أُصَيْحَابِي؟! فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) وفي لفظ
مسلم: (يا ربِّ أصحابي)!
والتأويلاتُ
التي تتأوّلونها أنتم، نحن لا نوافق عليها.
ثالثاً:
نحن لا نقول: (إن الصحابةَ كلّهم قد نقضوا هذه الولاية) إنّما نقول: الصحابة بشرٌ
من البشر، جعلهم الإمام ابن حزم الأندلسيّ اثنتي عشرة طبقةً في الفضل، وليسوا
هم محفوظين ولا معصومين، وتاريخ أهل السنة
الذي عُني كثيراً بتمجيدِ الصحابة وتقديسهم؛ لم ينقل إلينا علماً تفسيرياً وفقهياً
وفكرياً عن عشرةٍ من الصحابة، ولم ينقل هذا التاريخُ ذاته زهداً ولا ورعاً ولا
تفانياً في العبادة عن خمسةٍ منهم!
أليس
تعظيم الصحابةِ مستقىً من مواقفهم وتاريخهم؟
هذا
يعني أنّ الصحابة في جملتهم من العوامّ، وأنّ عشرين وجيهاً سياسيّاً هم الذين نقل
لنا هذا التاريخ عنهم شيئاً ذا بال.
وهذا
هو سبب موقفنا المعتدل، غيرَ المغالي، وغيرَ المفرّطِ تجاه الصحابة رضي الله عنهم
وأرضاهم.
نعم
نعود ونؤكّد أننا لا نقول: (إن الصحابةَ كلّهم قد نقضوا هذه الولاية)!
بيد
أنّ التاريخ هو الحكم، والتاريخ يقول أموراً كثيرةً:
إنّ
الذين كانوا يمثّلون الأنصارَ أهل الأرض كانوا خمسةَ رجالٍ أو ستّة رجال!
فنحن
إذا قلنا: إنّ الصحابةَ من الأنصارِ فعلوا، أو لم يفعلوا؛ فهؤلاء هم المعنيون
بالفعل أو التركِ، وليس جميع الأنصار، إذْ كانت حياةُ المجتمع العربي في تلك
الحقبة قبليّةً، زعيم القبيلة هو الذي يحلّ ويربط، وهو الذي يعطي ويمنع، نيابةً عن
قبيلته كلها!
فلو
أنّنا قلنا: إنّ خمسةَ رجال من زعماء الأنصار؛ تنكّروا لولاية الإمام عليّ، ورأوا
أنّ أهل الدار أولى بحكمها؛ يهون الأمر على النفس المؤمنة، وتذهب في تفسيرات موقفهم
من حديث الولايةِ تفسيراً مخالفاً لتهويلكم (إن الصحابةَ كلّهم قد نقضوا هذه
الولاية).
والذي
ظهر في أحداث انتقال الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أنّ الذين تزّعموا
المفاوضات باسم المهاجرين؛ هم ثلاثةُ رجالٍ فحسب، هم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة!
فلو
أنّنا قلنا: إنّ ثلاثةَ رجال من زعماء قريشٍ؛ تنكّروا لولاية الإمام عليّ، ورأوا
أنْ لا تجتمع في بني هاشم ونبوّةٌ وخلافةٌ؛ يهون الأمر على النفس المؤمنة، وتذهب
في تفسيرات موقفهم من حديث الولايةِ تفسيراً مخالفاً لتهويلكم (إن الصحابةَ كلّهم
قد نقضوا هذه الولاية).
أليس
هذا هو ما يقوله التاريخ، وهل بين أيدينا وأيديكم ما يُشير إلى أنّ زعماء قريش
الثلاثة هؤلاء استشاروا بني عبد منافٍ سادةِ قريش، وسادتهم بني هاشم ؟
ونحن
وأنتم متّفقون على أنّ هؤلاء الثمانية الرجال من المهاجرين والأنصار؛ ليسوا
بمعصومين، ولا هم في الذروة من العلم والفقه، وعمر بن الخطّاب تعلّم من إخوانه
الصحابة بعدما صار خليفةً، ومع هذا، فقد بقي له أكثرُ من سبعين مسألة فقهية ينفرد
بها عن جميعهم!
فتهويلكم
بقول: (إن الصحابةَ كلّهم قد نقضوا هذه الولاية) هواءُ غُبار!
رابعاً:
نحن نعتقدُ أنّ كثرةَ الأحاديثِ الصحيحة الواردةِ في الثناء على الإمام عليّ عليه
السلام؛ لم يكن هدفُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم منها التغزّلَ بالإمام عليّ
والانحيازَ النبويّ له، ومن يعتقد ذلك بالرسول؛ يخرج من الملّة كما هو مقرّرٌ
لديكم!
إنّما
كان الهدفُ منها - في مجتمع قبليّ شديد الأنفة والتفاخر والعصبيّة - توجيهَ
الأنظار إلى مقام الإمام عليّ الدينيّ، الذي يؤهّله وحده إلى قيادةِ الأمة بعد
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولا
أظنّ عالماً أو جاهلاً يكابر في أنّ ورودَ ثمانيةٍ وخمسين حديثاً صحيحاً وحسناً في
فضل رجلٍ، كان من دون هدفٍ أعظم:
(من
كنت مولاه؛ فعليّ مولاه).
(أنت
مني بمنزلة هارون من موسى).
(لا
يحبك إلّا مؤمن، ولا يبغضك إلّا منافق)
(يحبّ
الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه).
(أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى).
(اللهم
ائتني بأحبّ خلقك إليك).
هل
وردَ صحيحاً في فضل أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم وأرضاهم؛ نحو هذا الثناءِ
النبويّ العالي؟ قطعاً لا!
بل
هو وردَ في كتبِ أهل السنّةِ صحيحاً أو حسناً؛ أنّ واحداً من الخلفاء الثلاثةِ
بارز فارساً من أعداء الإسلام؟ هل ورد أنّ واحداً منهم قتل أحداً من المشركين؟
فالذي
فتح الله على يديه، وأنقذ المسلمين في معارك المسلمين الكبرى (بدر - أحد - الخندق
- خيبر) أليس أقدر على قيادةِ الأمّةِ ممّن لا يأبه له فارس من فرسان العرب؟
خامساً:
بناءً على ما سبق، فهذا يعني أنّ زعماء الصحابة أخطأوا ثلاث مرّات:
المرّة
الأولى: عندما استبعدوا صاحبَ هذه الخصائص!
والمرة
الثانية: عندما قام الأنصار بتولية رجل - على فضله وكرمه وشجاعته - لم يُنقل إلينا
عنه خمسُ مسائل من العلم (سعد بن عبادة) وعندما قام عمر وأبو عبيدةَ بمبايعة أبي
بكرٍ، وليس لأبي بكر من الصفات الذاتية والدينية بعضُ هذه الصفات.
والمرّة
الثالثة: حين استبعدوا الذين وجّه الله تعالى هذه الدين إليهم قبل جميع الخلقِ
(وأنْذرْ عَشيرتَكَ الأقربينَ) بني هاشم،
وليس في الأمّة مثلهم، فضلاً عن أفضل منهم!
نقول
أخطأوا، ولم يصلنا من التاريخ الصحيح أسباب هذه الأخطاء، ونحن لسنا ممّن يتّهم
الصحابة بالمؤامرة، ولا نقول: ارتدّوا، ولا نقول فسقوا.
والله
خبير بما كان وما هو كائن وما سيكون، فقال للمسلمين من بعدهم:
(وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
ولم يقل لنا
أبداً: قدّسوهم وعظّموهم، وكفّروا وضلّلوا مَنْ أراد أن يدرسَ تاريخهم، أو أنْ يؤشّرَ
على أخطائهم التي كانت سببَ فرقة الأمة واقتتالها، منذ (1400) سنة، وإلى اليوم!
وإنّ من أعجب
العجب، وأغربِ الغرائب؛ أنّ الأمّة - سنّةً وشيعةً - لم تتبيّن أنْ علينا أن
نتجاوزَ تاريخَ الصحابة السياسيّ كلّه، باستثناء المسائل الفقهيّة فيه، فقد كان
الراشدونَ أهلَ تقوى وأهل دينٍ، من دون أدنى شكّ لديّ، رضي الله عنهم أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق