الأحد، 7 أغسطس 2022

 مسائل فكرية (٤٣):

كَيفَ خَرَج الحُسَينُ عليه السلام على إمامه يَزيدَ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

اتّصل بي أحدُ الإخوةِ وقال لي:

«نقل غير واحدٍ من أهل العلم الإجماعَ على حرمةِ الخروجِ على السلطان الفاجر!

فما تفسيرك الخروج الإمامِ الحسين على أمير المؤمنين يزيدَ بن معاوية، وقد كان عبدالله بن عمر يناديه: يا أمير المؤمنين»؟

أقول وبالله التوفيق:

ليس في المسألة إجماعٌ ولا اتّفاق، فالزيدية والإسماعيليّةُ والإباضيّة؛ يوجبون الخروج على السلطان الجائر، بشروطٍ معروفةٍ لدى كلّ فرقةٍ منهم!

وحتى بين أهل السنّة أنفسهم؛ لا يوجد اتّفاق أصلاً، فالإمام ابن حزم!

قال الإمامُ أبو بكر الجصّاص االحنفيُّ في كتابه «أحكام القرآن» (1: 83):

«قَوْله تَعَالَى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً): إِنَّ الْإِمَامَ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَئِمَّةٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ؛ لِمَا أَلْزَمَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ مِنْ اتِّبَاعِهِمْ وَالِائْتِمَامِ بِهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ.

وَالْخُلَفَاءُ أَئِمَّةٌ; لِأَنَّهُمْ رُتِّبُوا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَلْزَمُ النَّاسَ اتِّبَاعُهُمْ، وَقَبُولُ قَوْلِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ أَئِمَّةٌ أَيْضاً.

وَلِهَذَا الْمَعْنَى: الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُسَمَّى إمَاماً; لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ؛ لَزِمَهُ اتِّبَاعُه وَالِائْتِمَامُ بِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَاماً؛ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ؛ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ؛ فَاسْجُدُوا)

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ)

فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمَنْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْها.

وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ مَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَتَنَاوَلُهُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص: 41] فَسُمُّوا أَئِمَّةً; لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ بِمَنْزِلَةِ مِنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) [هود: 101].

وَقَالَ: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) [طه: 97] يَعْنِي فِي زَعْمِكَ وَاعْتِقَادِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي؛ أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ)

وَالْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَجِبُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَقِّ وَالْهُدَى.

أَلَا تَرَى أَنَّ قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) قَدْ أَفَادَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [البقرة: 221] .

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمِ الْإِمَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِي أَعْلَى رُتْبَةِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ الْعُدُولُ وَمَنْ أَلْزَمَ اللهُ تَعَالَى الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، ثُمَّ الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.

فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ لِلنَّاسِ إمَاماً، وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ أئمة بقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)؟

لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ «وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً»!

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) مَسْأَلَتَهُ اللهَ تعالى تَعْرِيفَهُ: هَلْ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةٌ؟

فَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فَحَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ:

- أَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، إمَّا عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِهِ مَا سَأَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ إيَّاهُ.

- وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ إجَابَتِهِ إلَى مَا سَأَلَ لِذُرِّيَّتِهِ، إذَا كَانَ قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) مَسْأَلَتَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً.

وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعاً:

- وَهُوَ مَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً.

- وَأَنْ يُعَرِّفَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أجابَه إلَى مَسْأَلَتِهِ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إجَابَةٌ إلَى مَسْأَلَتِهِ؛ لَقَالَ: لَيْسَ فِي ذُرِّيَّتِك أَئِمَّةٌ، أو قَالَ: «لَا يَنَالُ عَهْدِي مِنْ ذُرِّيَّتِك أَحَدٌ»!

فَلَمَّا قال: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ وَقَعَتْ لَهُ، فِي أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً.

ثُمَّ قَالَ: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فَأَخْبَرَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً، وَلَا يَجْعَلهُمْ مَوْضِعَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أَنَّهُ النُّبُوَّةَ.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ؛ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ إمَاماً.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ الظَّالِمِ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْك فِي ظُلْمٍ؛ فَانْقُضْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ  عَهْدٌ، يُعْطِيهِمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فِي الْآخِرَةِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي؛ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُرَادًا للهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ نَبِيًّا، وَلَا خَلِيفَةً لِنَبِيٍّ وَلَا قَاضِيًا، وَلَا مَنْ يَلْزَمُ النَّاسَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ: مِنْ مُفْتٍ، أَوْ شَاهِدٍ، أَوْ مُخْبِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَراً.

فَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ شَرْطَ جَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ؛ الْعَدَالَةُ وَالصَّلَاحُ.

وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضاً عَلَى أَنَّ أَئِمَّةَ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ، غَيْرَ فُسَّاقٍ، وَلَا ظَالِمِينَ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْطِ الْعَدَالَةِ لِمَنْ نُصِبَ مَنْصِبَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ; لِأَنَّ عَهْدَ اللهِ؛ هُوَ أَوَامِرُهُ، فَلَمْ يَجْعَلْ قَبُولَهُ عَنْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَا أَوْدَعَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَأَجَازَ قَوْلَهمْ فِيهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِقَبُولِهِ مِنْهُمْ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهِ.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ؛ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يَعْنِي أُقَدِّمُ إلَيْكُمْ الْأَمْرَ بِهِ؟ وَقَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا).

وَمِنْهُ عَهْدُ الْخُلَفَاءِ إلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ، إنَّمَا هُوَ مَا يَتَقَدَّمُ بِهِ إلَيْهِمْ لِيَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَيْهِ، وَيَحْكُمُوا بِهِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدَ اللهِ إذَا كَانَ إنَّمَا هُوَ أَوَامِرُهُ؛ لَمْ يخل قوله: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ، أَوْ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ وَلَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا!

فَلَمَّا بَطُلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ؛ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ لِتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ؛ ثَبَتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأنّهم غَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا، فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ.

فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ بُطْلَانُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً، وَأَنَّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ - وَهُوَ فَاسِقٌ - لَمْ يَلْزَمْ النَّاسَ اتِّبَاعُهُ وَلَا طَاعَتُهُ.

وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)

وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِماً «قاضياً» وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَنْفُذُ إذَا وَلِيَ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ، إذَا أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فُتْيَاهُ إذَا كَانَ مُفْتِياً، وَأَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قُدِّمَ وَاقْتَدَى بِهِ مُقْتَدٍ؛ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً، فَقَدْ حَوَى قوله: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ إمَامَةِ الْفَاسِقِ وَخِلَافَتِهِ، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ فَلَا يُجِيزُ حُكْمَهُ، وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «زُرْقَانَ)([1]) وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ بِالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا مِمَّنْ تُقْبَلُ حِكَايَتُهُ!

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ، فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً، وَلَا يَكُونُ حَاكماً، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا خَبَرُهُ لَوْ رَوَى خَبَراً عَنْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً، وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ؟

وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدّعَى ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَحُبِسَ، فَلَجَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطاً.

فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ؛ قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: فَتَوَلَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ، أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، حَتَّى يَزُولَ عَنْك هَذَا الضَّرْبُ، فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّذِي يَدْخُلُ، فَخَلَّاهُ!

ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ فَأَبَى، فَحَبَسَهُ حَتَّى عَدَّ لَهُ اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ بَغْدَادَ.

وَكَانَ مَذْهَبُهُ مَشْهُورًا فِي قِتَالِ الظَّلَمَةِ وَأَئِمَّةِ الْجَوْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «احْتَمَلْنَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى جَاءَنَا بِالسَّيْفِ - يَعْنِي قِتَالَ الظَّلَمَةِ، فَلَمْ نَحْتَمِلْهُ - وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: «وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَرْضٌ بِالْقَوْلِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتَمَرْ لَهُ، فَبِالسَّيْفِ» عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أنّه قَالَ: (كَلَّا وَاللهِ! لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً) أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود في الملاحم (4336) وهذا لفظه، والترمذيّ في جامعه (3047) وقال: حسن غريب.

 وَسَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَرُوَاةِ الْأَخْبَارِ وَنُسَّاكِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ أبو حنيفةَ: هُوَ فَرْضٌ.

وَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ).

فَرَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلَى مَرْوَ، وَقَامَ إلَى أَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَهُ، وَنَهَاهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَسَفْكَهُ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَاحْتَمَلَهُ مِرَاراً، ثُمَّ قَتَلَهُ.

وَقَضِيَّةُ «أبي حنيفةَ» فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ؛ مَشْهُورَةٌ، وَفِي حَمْلِهِ الْمَالِ إلَيْهِ، وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرّاً فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ، وَالْقِتَالِ مَعَهُ!

وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِاللهِ بْنِ حَسَنٍ!

وَقَالَ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ: لِمَ أَشَرْت عَلَى أَخِي بِالْخُرُوجِ مَعَ إبْرَاهِيمَ حَتَّى قُتِلَ؟ قَالَ: مَخْرَجُ أَخِيكَ؛ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مَخْرَجِك.

وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ.

وَ«مذهبه» هَذا؛ إنَّمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَغْمَارُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، الَّذِينَ بِهِمْ فُقِدَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى تَغَلَّبَ الظَّالِمُونَ عَلَى أُمُورِ الْإِسْلَامِ.

فَمَنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ كَيْفَ يَرَى إمَامَةَ الْفَاسِقِ»؟

وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع (ص: 177) ما نصّه:

«وَرَأَيْت لبَعض مَن يَنْسب نَفسه للإمامة وَالْكَلَام فِي الدَّين، وَنُصب لذَلِك فصولاً ذكر فِيهَا الإجماعَ، فأتى بِكَلَام لَو سَكت عَنهُ؛ لَكَانَ أسلم لَهُ فِي أخراه، بل الخَرَسُ كَانَ أسْلَمْ لَهُ، وَهُوَ ابْن مُجَاهِد البصرى الطَّائِي، لَا الْمُقْرِئ.

فإنه أَتَى فِيمَا ادّعى فِيهِ الإجماع؛ أَنهم أَجمعُوا على أن لَا يُخرجَ على أَئِمَّة الْجور، فاستعظمت ذَلِك، ولعمري إنّه عَظِيم أن يكون قد عَلِمَ أنّ مُخَالفَ الإجماع كَافِر، فيلقي هَذَا إلى النَّاس، وَقد علم أَن أفاضل الصَّحَابَة وَبَقِيَّةَ النَّاس يوم الْحرَّة خَرجُوا على يزِيدَ بن مُعَاوِيَة وَأَنّ ابْن الزبير وَمن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأنّ الحسينَ بنَ عليّ ومن تابعهُ من خِيَار الْمُسلمين خَرجُوا عَلَيْهِ أَيْضاً.

رَضِي الله عَن الخارجين عَلَيْهِ، وَلعن قَتلتهمْ.

وَأَنّ الْحسنَ الْبَصْرِيّ وأكابر التَّابِعين خَرجُوا على الْحجَّاج بسيوفهم أَتَرَى هَؤُلَاءِ كفرُوا؟ بل وَالله مَن كفّرهم أَحَق بالْكفْر مِنْهُم!

ولعمري لَو كَانَ اخْتِلَافا يخفى؛ لعذرناه، وَلكنه أَمر مَشْهُور يعرفهُ أَكثر الْعَوام فِي الأسواقِ، والمخدرات فِي خُدُورهنَّ لاشتهاره».

وقال ابن حجر في ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ الهَمْدانيّ، من تهذيب التهذيب (2: 288) ما نصّه:

«قولهم: «كان يَرى السَيْفَ: يعني كان يَرى الخروجَ بالسيف على أئمّةِ الجَوْرِ، وهذا مَذهبٌ للسلفِ قديمٌ!

لكن استَقَرّ الأمرُ على تَركِ ذلك؛ لما رَأَوه قد أفضى إلى أشدَّ منه ففي وَقعةِ «الحَرّةِ» ووقعة ابن الأشعثِ، وغيرِهما؛ عِظَةٌ لمَن تَدَبّرَ. وبمثلِ هذا الرأيِ؛ لا يُقدَحِ في رَجلٍ قد ثَبَتَتْ عدالتُه واشتُهِر بالحفظ والإتقان والورع التام.

وأمّا تَركُه الجمعةَ؛ ففي جُملةِ رأيه ذلك أنْ لا يُصلي خَلفَ فاسقٍ ولا يُصحّح ولايةَ الإمامِ الفاسق.

فهذا ما يُعتذر به عن الحسن، فهو إمام مجتهد» انتهى باختصار.

فإذا كان أبو حنيفةَ المتوفى سنة (150 هـ) كان لا يُجوّز خلافَةَ مَن ليس بعدلٍ؛ أفتريد من الإمام الحسين (ت: 61 هـ) أن يقبل بخلافة فاجرٍ مجرمٍ، قد لا يكون على دين الإسلام أصلاً ؟!

ترجم الإمام الذهبيّ يزيد بن معاويةَ في النبلاء (4: 37) فقال: «كانَ نَاصِبِيّاً، فَظّاً، غَلِيْظاً، جَلْفاً، يَتَنَاوَلُ المُسْكِرَ، وَيَفْعَلُ المُنْكَرَ، افْتَتَحَ دَوْلَتَهُ بِمَقْتَلِ الشَّهِيْدِ الحُسَيْنِ، وَاخْتَتَمَهَا بِوَاقِعَةِ الحَرَّةِ، فَمَقَتَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يُبَارَكْ فِي عُمُرِه».

وفي تاريخ الإسلام للذهبيّ (2: 731) ما نصّه: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السري: حدثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غُنْيَةٍ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرَ رَجُلٌ يَزِيدَ، فَقَالَ:

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ!

فَقَالَ عُمرُ: تَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟

وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ عِشْرِينَ سَوْطًا».

فهذا إمامُكم المقدّس عندكم، عمر بن عبدالعزيز؛ لا يرى يزيدَ لعنه الله تعالى خليفةً للمسلمين!

وفي هذا كفايةُ، لمَن لم يخالط النصبُ قلبَه!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.



[1] زُرْقان: لقبُ محمد بْن شدّاد بْن عِيسَى، أبو يَعْلَى المِسْمَعي المتكلم المعتزلي (ت: 278 هـ) ترجمه الذهبيّ في تاريخ الإسلام (6: 609) ونقل عن االدارقطنيّ قوله: «لا يكتب حديثه».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق