الأحد، 28 أغسطس 2022

         مَسائلُ حَديثيّةٌ (55):

الملكان الموكلان بالمؤمن المتوفّى يزيدان في حسناته إلى يوم القيامة!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد الإخوةِ القدماء الكرام مقطعاً صوتياً لواعظٍ وُصف بأنه العلّامة فلانٌ!

يستدلُّ بالحديثِ الآتي على أنّ العبدَ المؤمن لا ينقطع عمله إلى يوم القيامة، إذ يوكّل الله تعالى الملكَين اللذين كانا يكتبان حسناته وسيئاته في الدنيا، بتسبيح الله تعالى وحمده وتكبيره، وأن يكتبا ذلك في صحيفته!

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام أبي الشيخِ الأصبهانيِّ (ت: 369 هـ) في كتابه «العَظَمَةِ» (503) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ بْنِ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ عَنْ ثَابِتِ البُنانيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَّلَ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَهُ، فَإِذَا مَاتَ؛ قَالَ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ وُكِّلَا بِهِ، يَكْتُبَانِ عَمَلَهُ:

قَدْ مَاتَ، فَائْذَنْ لَنَا أَنْ نَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ!

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ]سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلَائِكَتِي يُسَبِّحُونِي[!

فَيَقُولَانِ: أَفَنُقِيمُ فِي الْأَرْضِ؟

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ]أَرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يُسَبِّحُونِي[.

فَيَقُولَانِ: فَأَيْنَ؟

فَيَقُولُ: قُوما عَلَى قَبْرِ عَبْدِي، أَوْ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِي؛ فَسَبِّحَانِي، وَاحْمَدَانِي، وَكَبِّرَانِي، وَاكْتُبَا ذَلِكَ لِعَبْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[.

وأخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان (9462) من طريقِ يحيى بن يحيى النيسابوريّ عن عثمان بن مطر، به مثلَه.

وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (3: 228) والسيوطيّ في موضوعاته (2: 359) من طريق عيسى بن خالد «اليماميّ» عن عثمان بن مطر، به مثلَه.

وعثمانُ بن مطر، قال فيه أبو زرعة في ضعفائه (152): ضعيف الحديث.

وقال البزار في مسنده (2842): « وَعُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ».

وأسند العقيليّ في الضعفاء (3: 216) عن ابن معين قال: كان ضعيفاً ضعيفاً.

وقال النسائيّ في ضعفائه (420): ضعيف.

وقال ابن حبان في المجروحين (667): « يَرْوِي الموضوعات عَن الْأَثْبَات لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ».

ونقل ابن عدي في ضعفائه (6: 278) عن البخاريّ قوله: عنده عجائب، منكر الحديث!  

وختم ابن عدي ترجمته بقوله: «وَأَحَادِيثُهُ عَنْ ثَابِتٍ خَاصَّةً مَنَاكِيرُ وَسَائِرُ أَحَادِيثِهِ فِيهَا مَشَاهِيرُ، وَفِيهَا مَنَاكِيرُ، وَالضَّعْفُ بَيِّنٌ عَلَى حَدِيثِهِ» وهذا الحديثُ من روايته عن ثابت.

وقال ابن الجوزيّ في الموضوعات (3: 229): اتّفقوا على تضعيف عثمانَ بن مطر!

خلاصة الكلام: هذا الحديثُ ضعيف الإسنادِ جدّاً، والمتّهم به عثمان بن مطرٍ الشيبانيّ.

ومعنى أنّه متّهم به؛ أنه هو الذي نسبه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تعمّداً، أو وهماً.

فإن تعمّد؛ فهو داخل في وعيد متعمّد الكذب على الرسول!

وإن نسبه وهماً؛ فالله تعالى أعلم بجزائه!

لكننا نحنُ مأمورون باجتناب الاحتجاج بالحديثِ المكذوب على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، سواءٌ نسب الحديث إليه وهماً أم عمداً.

أمّا عن نكارة متنه؛ فعثمان بن مطر تنقل عنه عجائب، كما قال البخاريّ!

وحتى يكون كلامنا على متنه دقيقاً؛ يجب أن نمهّد بهذا التمهيد:

أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنّ من وظائف الملائكةِ الكثيرةِ؛ تسبيحَ الله تعالى، وحمدَه، والاستغفارَ للمؤمنين.

قال الله تعالى:

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) [غافر].

(وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) [الشورى].

وأخبرنا أنّ من وظائفِ الملائكةِ؛ لعنَ الكافرين الذين ماتوا على كفرهم!

قال الله تعالى:

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86).

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ؛ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87).

خَالِدِينَ فِيهَا، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88).

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَأَصْلَحُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً؛ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ؛ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ.

أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) [آل عمران].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) [البقرة].

وأخبرنا الله تعالى أنّ الملائكةَ من سكّان السمواتِ، وليسوا من سكّان الأرض، فقال تبارك وتعالى:

(قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) [الإسراء].

(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) [الحِجر].

(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) [النحل].

(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج].

وأخبرنا أنّ من وظائف الملائكةِ متابعةَ المؤمنين والعنايةَ بهم.

قال الله تعالى:

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد].

لكنْ ليس في الكتابِ ولا في السنّة أنّ السمواتِ والأرضَ تضيقُ بالملائكة الموكّلين بالمؤمن، وليس لهم مكانٌ يقيمون فيه سوى المقابر، وعلى قبر كلّ مؤمن ملكان اثنان!

وإثباتُ مثل هذا الاعتقادِ؛ يحتاجُ إلى آيةٍ قرآنيّةٍ، أو حديثٍ صحيحٍ صحيحٍ.

فأولئك الوعّاظ الجهلةُ؛ يشوّهون ثقافةَ المسلمين باستشهادهم بمثل هذه الأحاديث الضعيفةِ والمكذوبة!

خاصّةً إذا كان في الأحاديثِ الصحيحةِ نقيضُ ما جاء في أحاديثهم الضعيفة والمنكرة!

فقد أخرج مسلم في كتاب الوصية من صحيحه (1631) والترمذي في الأحكام من جامعه (1376) من حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ؛ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ).

وقال الترمذيّ:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

ختاماً: حديثُ عثمان بن مطرٍ؛ موضوع مكذوب، والمتّهم بوضعِه عمداً أو وَهماً؛ عثمان هذا.

ولذلك أودعه ابن الجوزي والسيوطيّ في الموضوعات.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق