الجمعة، 19 أغسطس 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (47):

أبو عبدالله الحاكم النيسابوريّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كثرت في الأيّام الأخيرةِ مقاطع الفيديو، التي تتناول الحاكمَ النيسابوريَّ وكتابَه المستدرك على الصحيحين، بين متّهم له بالرفض والكذب ووَضعِ الحديثِ، وبين منافح عنه، ومثبتٍ لعدالته وصِيانته وصدقه وصلاحه.

فتواصل معي عددٌ من إخواني وأصدقائي، يسألونني عن موقفي مما هو دائر على وسائل التواصل الاجتماعيّ، حِيالَ هذه المسألة؟

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: وازن أخي القارئ بين شخوص المتحاملين على الحاكم، وبين أشخاص المدافعين عنه، وسترى أنّ المدافعين عنه؛ هم من علماءِ وطلبةِ العلم الشرعيّ، أمّا المتحاملين عليه؛ فهم من الصحفيين، وهواةِ الثرثرةِ، ومنهم مَنْ لديهم هوسٌ في عداوةِ الشيعةِ، بحقٍّ أم بباطل!

ثانياً: أنت عندما تريد أن تحكم على عالم توفي (405 هـ) في عام (1444 هـ) فلا بدّ أنّك ترجع إلى أقوال معاصريه من أهل العلم، فمن بعدهم، خاصّةً أولئك الذين اختصّوا بالجرح والتعديل.

ثالثاً: ثمّة فرقٌ كبيرٌ بين حكمِك على عالمٍ، وبين حكمك على علمه!

حكمُك على الإمامِ البخاريّ؛ لا يسري على صحيح البخاريّ.

وحكمك على الحاكمِ؛ لا يسري على كتابه المستدرك!

فالإمام البخاريّ عالم كبيرٌ، وثقة صادق، وكتابُه الصحيح، لم يستمدَّ صحّته من عدالةِ الإمام البخاريّ فحسب، إنما استمدّها من شروط البخاريِّ في إخراج الصحيح، ومن قُدرتِه على الوفاء بشروطه في كتابه.

والإمام أبو عبدالله الحاكم عالم كبيرٌ، وثقة صادق، وكتابُه المستدرك؛ لم ينَلْ ما نالَ من الانتقادِ، بسبب كذبِ الحاكم، أو انعدام عدالته أبداً أبداً!

إنّما فرّق علماء الإسلام بين شخص الحاكمِ العالم العدل الصادقِ، وبين شروط الحاكم في كتابه المستدرك، ومدى التزامه بهذه الشروط.

رابعاً: إنّ أفضلَ طبعةٍ لمستدرك الحاكم؛ هي الطبعةُ التي صدرت عن دار الميمان للنشر والتوزيع، في الرياض، عام (2014 هـ) وقد حَقّقها فريقٌ من أهل العلم على خمس نسخٍ مخطوطة، قاموا بوصفها في مقدمة التحقيق (ص: 297- 321).

وقد خرّجوا أحاديثَ المستدرك من الكتب التي تقدّمته، فماذا قال أولئك المتخصّصون بالتحقيق وعلوم الحديث؟

خامساً: الذين حقّقوا كتاب المستدرك؛ أعدّوا إحصائيّات دقيقةً مفيدةً، يحسن أن أضعها بين يديك، أخي القارئ!

«عدد أحاديث كتاب المستدرك (9018) حديثاً.

منها ستة أحاديثَ كُرّرت أرقامُها، وهي (4594، 6695 [كرّر ثلاث مرات] 8665، 8958) فعلى هذا، يكون عدد الأحاديث الفعليّ = (9024) حديثاً.

(1619) عدد الأحاديث التي حكم الحاكم بصحتها على شرط الشيخين.

(169) عدد الأحاديث التي حكم الحاكم بأنها على شرط البخاريّ.

(969) عدد الأحاديث التي حكم الحاكم بأنها على شرط مسلم.

(2726) عدد الأحاديث التي حكم بأنها صحيحة، فحسب!

(98) عدد الأحاديث التي ضعّفها الحاكم في المستدرك؛ ليبيّن الفروق بين أحاديثِ الباب.

(850) عدد الأحاديث التي أوردها الحاكم شواهدَ لبعض الأحاديثِ ليقوّيها بها.

(2537) عدد الأحاديث التي سكت الحاكم عنها، فلم يحكم عليها بصحة أو ضعف!

(56) عدد الأحاديث التي توقّف الحاكم بالحكم عليها.

(6543) عدد الأحاديث المرفوعة إلى الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(1381) عدد الأحاديث الموقوفة على الصحابةِ رضي الله عنهم.

(1100) عدد الأحاديث المقطوعةِ على التابعين، فمن بعدهم.

سادساً: هذه الإحصائيّات العلمية؛ تؤكّد على أنّ الحاكم لم يُعطِ كتابَه صورته النهائيّة، وقد توفّاه الله تعالى، بعد أن أنجز مسوّدته.

يدلّك على هذا ما تقدّم من إحصاء:

(850) عدد الأحاديث التي أوردها الحاكم شواهدَ لبعض الأحاديثِ ليقوّيها بها.

(2537) عدد الأحاديث التي سكت الحاكم عنها، فلم يحكم عليها بصحة أو ضعف!

(56) عدد الأحاديث التي توقّف الحاكم بالحكم عليها.

فالحاكم ليس عاجزاً عن النقدِ، إنّما أراد أن يتمّ مسوّدة الكتابِ، ثم يتفرغ لتحريره وتنقيده على رويّة وهدوء، فلم يتيسّر له ذلك.

سابعاً: إنّ كتابَ المستدرك، من تراثنا الحديثيّ، فقد جمع فيه الحاكم تسعة آلاف حديثٍ، ساقها بأسانيده إلى نهاياتها.

فإنْ كان المستدرك كتاباً مفيداً - وهذا شيء يقرّره نقّادُ الحديث وحدهم - فبها ونعمت.

وإن لم يكن كتاباً مفيداً؛ فعذر مؤلّفه أنّه اجتهد، فكتب مسوّدةَ كتابه، فلمّا جاء يحرّره؛ اخترمته منيته ومات!

فهل يلام إنسان لأنّه ماتَ، قبل أن ينجز كتاباً، أو بحثاً من أبحاثه؟

أنا الفقير عداب: سأموتُ وأترك أكثر من عشرين كتاباً، وأكثر من مائة بحثٍ علميّ، جميعها يحتاج إلى مراجعة وتحريرٍ، وبعضها يحتاج إلى تكميل!

ماذا أصنع إذا احتوشتني الأمراض والعوارضُ، فلم أعد قادراً على الإكمال؟

ثامناً: إنّ الحاكم النيسابوريّ رحمه الله تعالى؛ استقى كتابَه المستدرك، من كتبٍ سبقته، مثل موطّأ مالك برواياته المتعدّدة، ومسند الطيالسيّ، ومسند أحمد ابن حنبل، ومصنف ابن أبي شيبة، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح شيخه ابن حبان، وسنن الدارميّ، وسنن أبي داود، وجامع الترمذيّ، سنن الدارقطنيّ، وغير هذه الكتبِ، من المصنّفات الحديثيّة.

ولم يخترعْ أحاديثَ وأسانيد ضمّنها كتابه، فكيف يجوز أن نتّهمه بوضع الحديث؟

تاسعاً: إنّ الأمورَ التي جعلت الصحفيَّ الجاهلَ يتّهم الحاكمَ بالزندقة والرفض ووضع الحديث؛ أحاديثُ أخرجها في فضائل عليٍّ وفاطمةَ والحسن والحسين عليهم السلام في المجلد السادس (4621 - 4890) وهذه الأحاديثُ تؤرّخ لحياة الإمام عليّ وولديه عليهم السلام.

لكنّ الذي فاتَ هذا الصحفيَّ أعمى القلب؛ أنّ الحاكم النيسابوريَّ أخرج في فضائل مجموع الصحابةِ ومناقبهم ثلاثةَ مجلّدات (6، 7، 8) وهذه أرقام الأحاديثِ التي أخرجها في فضائل الصحابة رضي الله عنهم (4451 - 7178).

فيكون قد أخرج في فضائل الصحابة (2727) حديثاً، منها (269) حديثاً في فضائل أصحاب الكساء، عليهم السلام.

عاشراً: إنّ تشيّع الحاكم النيسابوريّ؛ ليس سوى حبِّ آل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا صلةَ له بأيِّ معنىً آخر من معاني التشيّع!

فهو يقدّم أبا بكر وعمر وعثمان، على عليٍّ رضي الله عنهم، وخرّج فضائلهم في كتابه المستدرك، قبل فضائله (4451 - 4620)!

بل هو يخرّج فضائل خصوم الإمام عليّ، بما لا تجده مجموعاً في كتابٍ حديثيٍّ غيره:

فأخرج فضائل الزبير بن العوام (5639 - 5682).

وأرّخ لولده عبدالله بن الزبير (6462 - 6490)

وأخرج فضائل طلحةَ بنِ عبيداللهِ (5683 - 5704).

وأخرج فضائل محمد بن طلحة الذي قتل مع أبيه في وقعة الجمل (5705 - 5718).

وأخرج فضائل حكيم بن حِزام (6154 - 6166).

وأخرج فضائل أبي موسى الأشعريّ (6065 - 6081).

وأخرج فضائل خالد بن الوليد (5370 - 5386).

وأخرج فضائل عمرو بن العاص (6017 - 6030).

وأخرج فضائل المغيرة بن شعبة (5999 - 6014).

نعم هو أعرضَ عن ذكر معاوية بن أبي سفيان في كتاب «معرفة الصحابة» لكنه أخرج من طريقه عدداً من الأحاديث في المستدرك (443، 1063، 2364، 4036، 5422) ومواضع أخرى.

حادي عَشرَ: ذكر محقّقوا الكتابِ المآخذ على مستدرك الحاكم، في مقدمة التحقيق (219 - 224) فلم يكن شيٌ منها يتّصل بعدالةِ الحاكم، ولا بصدقه ولا بمعرفته الحديثيّة، إنّما جميع الانتقاداتِ كانت على شروطِه، ومدى التزامه بشروطه.

ثاني عشر: عالج محققوا الكتاب مسألةَ تشيّع الحاكم في مقدمة التحقيق (113 - 126) وختموا هذه المسألة بقولهم: «خلاصة ما سبق أنّ هناك من الأدلة القويّة المتكاثرةِ؛ ما يدلُّ على نفيِ أن يكون الحاكم غالياً في التشيّع!

كما أنّ هناكَ أدلّةً - وإن لم تكن في قوّةِ وكثرةِ الأدلة السابقة - تنفي أن يكون شيعيّاً أيضاً.

هذا صنيع الحاكم في المستدرك، سواء من ناحية الرواياتِ، أو من مناحية موقفه من الصحابة، أو من شيوخ السنة، ممّا يجعله بعيداً كلّ البعد، عمّا اتُّهم به» انتهى.

قال عداب: ألا تلاحظ أخي القارئ، كيف يجتهدون ونجتهد في نفيِ «تُهمة» التشيّع عن الحاكم؟

مع أنّ التشيّع الذي هو حبّ آل البيتِ، وكراهية خصومهم؛ هو التطبيق العمليّ لقول الله عزّ وجلّ (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) [الشورى].

ولقولِ الإمام عليّ عليه السلام: (وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (78).

خِتاماً: نحن في وسط الزمانِ الذي عناه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله:

(سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ!

وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ!

وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ!

قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟

قَالَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ).

أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين (7571، 8105) وابن ماجه في الفتن (4036) من حديث أبي هريرة مرفوعاً.

وأخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين (12820) من حديث أنس بن مالك مرفوعاً.

فمن الضروريّ أنْ تنتبهوا عندما ترغبون في التعلّم والتثقّفِ؛ أن تختاروا في كلِّ تخصص كبارَ أهله وأتقاهم.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق