الجمعة، 23 أبريل 2021

 قطوف من الآلام (5):

السيد فاروق عيسى الحمويّ في ذمّة الله تعالى!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

قبل دقائقَ بلغني نبأُ وفاة الأخ الفاضل السيدِ أبي مهديٍّ فاروق عيسى الحموي، رحمه الله تعالى.

ولي مع هذا الأخ الكريم قصّةٌ، يحسن ذكرها، في بيان معنى الإخاء والتضحية والثقة!

في عام (1973) صدر بحقيّ قرارٌ من وزير الداخلية علي الظاظا، نصّه تقريباً:

«يَحظرُ عملُ أو توظيفُ المدعو عداب بن محمودٍ الحمش، من العمل لدى مؤسسات ومكاتب ودوائر الدولة».

ذهبتُ إلى مدير التربية والتعليم في حماة، أستاذي عبدالكريم العِطريّ، وكان بيننا مودّة، لأتزوّد بخطاب التكليف للتدريس في منطقة «كَفر زيتا» من مناطق محافظة حماة، فأطلعني على القرار، واعتذر من إعطائي إيّاه، ونصحني بالتغيّب والاختفاء!

ذهبت فاشتغلت ثلاثةَ أو أربعةَ أيّام، حمّالاً على ظهري، دوام مسائي، في شركة الغزل والنسيج، جوار مزرعتنا في حماة، فجاءني في اليوم الأخير «مراقب الورديّة» وقال لي: أستاذ عداب: تعال معي!

ذهبت وراءه إلى مكتبه، فقال لي: أنا أكبر فيك شهامتك وعزّة نفسك، تشتغل عتّالاً لئلّا تضطر إلي عون أحد، وأنتَ كذا وكذا.

لكن جاءنا في الصباح هذا الخطابُ، وأطلعني عليه، فأعتذر عن استمرارك في العمل معنا!

قلت له: وما علاقة وزير الداخلية بالشركة الخماسيّة، أليست مؤسسة خاصّة؟

قال: لا !

ألم تعلم بأنها أُمّمت في زمان عبدالناصر، عام (59م)؟

قلت له: لا أدري!

لكن هل يمكن أن تعطيني هذا الخطاب؟

قال: أصوّره وأعطيك إياه، وإن كان هذا ممنوعاً، فأرجو أن لا تطلع عليه أحداً.

كان مرتّبي في التدريس، يتراوح بين (420 - 470) ليرة سورية، وكان عليّ التزاماتٌ مع الآخرين تقرب من (200) ليرة شهريّاً، فحِرتُ ماذا أصنع!

ذهبتُ إلى المخابزِ التي كنت أشتغل فيها قبل أربع سنواتٍ، فقالوا لي: أهلاً وسهلاً، سنعطيك أعطى أجرٍ، خمسَ ليراتٍ في اليوم، ويوم الجمعة عطلة!

اشتغلتُ في اليوم الثاني عند أحدهم، في حيّ المدينة، خلف الجامع الكبير.

ثم غدوتُ أبحثُ عن عملٍ أستطيع من ورائه أنْ أَفيَ بالتزاماتي، فلم أفلح أبداً، فاعتذرت من الذين كنت ملتزماً معهم.

ثم جالت في خاطري فكرة، عسيرةُ التحقيق، لكنني جرّبت!

رجوت والدي كثيراً، وألححت عليه أكثر، ثمّ وسّطت جميع من يمكن أن يستحيي والدي منهم، بأن يسمح لي بزراعة قطعة أرضٍ له، مساحتها (17) دونم!

بعد شهر من المفاوضات بين أبي وأعمامي؛ استطاعوا إقناعه بأن يسمح لي باستغلال (17) دونم لأجرّب حظّي!

سمح لي بذلك، لكنه اشترط عليهم، وأقسم بأنه لا يعطيني ليرة سوريةً واحدةً لاستعمالها في تكاليف المزرعة.

جلست مع واحدٍ من أصدقائي، وهو شريكي في التجارة الحرّةِ، الشهيد محمد أمين الأصفر، وحسبنا تكاليف المزرعة حتى تنتج أوّل صندوق خضار، فوجدناها (4000) ليرة سورية، وأنا ربما كنت أملك عشر ليراتٍ أو عشرين ليرة!

قال الشهيد محمد أمين: أنا أقرضك (1000) ليرة حتى نهاية السنة!

سُررت بذلك، وشاورته: مَن مِن إخواننا لديه قدرة مالية، يقرضنا (3000) ليرة إلى انتهاء موسم «القطن»؟

قال: لا أدري والله!

في مسجد السلطان، وعقب درس شيخنا السيّد عبدالحميد طهماز رضي الله عنه؛ ظهر أمامي الأخ فاروق عيسى، وتفاجأ بظهوري في المسجد، إذ يفترض أن أكون مختفياً!

سألته: إنْ كان لديه مالٌ يقرضني حتى نهاية موسم القطن في شهر كانون الأوّل، وكم يستطيع أن يقرضني؟

فتبسّم رحمه الله تعالى، وقال: جميع ما أملك تحت تصرفك!

قلت: لكنني أريد مبلغاً كبيراً (3000) ليرة، وشرحت له فكرةَ المشروع، فقال:

غدا بعد صلاة الظهر، تجدني في جامع الشيرازي، وتستلم المبلغ، إن شاء الله تعالى!

كتبت ورقة قرض، ووقعت عليها، وأشهدت أخي الشهيد أحمد بلقيس الحوراني، وذهب معي!

سلّمني السيد فاروق المبلغ، وسلّمته صكّ الاقتراض؟

نظر فيه، وتغيّر لونه وقال: يا رجل، الشيخ عداب يحتاج إلى صكّ يعطيه لأخيه فاروق؟

وقطع جملة (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعها في جيبه، ثم مزّق باقي الورقة!

في المساء، سألني والدي: هل ما زلتَ مصمّماً على إدارة المزرعة؟

قلت له: يا والدي: إذا كنت ذا رأيٍ؛ فكن ذا عزيمة!

قال: هذه الدورة الزراعية تكلفك (3000) ليرة، فمن الذي سيقرضك هذا المبلغ؟

قلت له: وهل يحتاج من كان أبوه محمود الحمش أن يَقترض من أحدٍ، وهو يقرض نصف حماة؟

قال: بلا بَربتَةَ، أنا أقسمت أنني لن أعطيك قرشاً!

قلت له: الأمر يسير، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه).

قال: لكنني لن أكفّر يميني، وأنا واثق أنك لن تعيد إليّ شيئاً!

قلت: يا والدي، هل اقترضتُ منك شيئاً، ولم أعده إليك؟ كيف حكمت عليّ هذا الجكم؟

قال: لأنني على يقين أنك لن تستطيع إدارةَ هذه المزرعة، وستخسر!

أخرجت النقود (4000) ليرة، وقلت له: رتّبت أمري ولله الحمد!

سكتَ هنيهةً وقال: ما كنت أظنّ أحداً يقرضك هذا المبلغ؟

بالله عليك، اقترضتَه من الشيخ فارس السالم؟

قلت له: ذكّرتني به، والله ما تذكّرته إلا الساعة، على كلّ حال، لو لزمني شيءٌ مستقبلاً لإدارة المشروع؛ سأقترض منه!

قال: ما دام استطعتَ تأمين (4000) ليرة بهذه السرعة، فخذ (17) دونم جوار المَسيلة هي الأخرى، وازرعها قطناً، فهو لا يحتاج مصروفاً كبيراً، وعند جَنيِه يكون معك ما تدفع لذلك!

وقمت بالمشروع على أحسن ما يكون، حتى صارت خضرة عداب الحمش مضربَ المثل في سوق الخضار، وكان الباعةُ ينتظرونها، ويشترونها بأغلى سعر في السوق، لجودتها الفائقة من جهة ولأن أسفل الصندوق خيرٌ من أعلاه.

اعتباراً من منتصف حزيران؛ بدأت أسدد أخي فاروق أقساطاً، حتى أكملت وفاءه في نهاية شهر أيلول، ولله الحمد.

هذا الموقف النبيل؛ يساوي عدابَ الحمش كلَّه عندي!

اللهم ألهم أهله وذريّته وأسرته وإخوانه الرضا عن قدر الله تعالى، والصبرَ الجميل، والاحتساب!

اللهم ارحم عبدك «فاروق عيسى» رحمةً واسعةً، واغفر له مغفرةً عامّةً، وتقبّله في المهاجرين الصادقين.

اللهم اغسله من ذنوبه بالماء والثلج والبرَد!      

اللهم نقّه من الخطايا، كما ينقّى الثوب الأبيض من الدرن.

اللهمَّ آوه في خير مأوى، وأكرم نزلَه، فأنت يا ربنا أكرم منزول به.

واجزه عني وعن كثيرين غيري، ممن كان يقرضهم وييسر عسرهم، يا ربّ العالمين، ويا أرحم الراحمين.

هذه شهادتي به وله، وأنت أعلم بحاله.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

ولا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله العليّ العظيم.

وعظّم الله تعالى أجورَكم إخواني الأحبّة.

ولا تنسوا أخوانكم «فاروق» و«محمد أمين»   و«فارس» و«عداب» من صالح دعائكم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق