الأحد، 18 أبريل 2021

مسائل حديثيّة (12):

كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: هل حديث (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً) حديثٌ صحيح، وما معناه !؟

أقول وبالله التوفيق:

هذا الكلام  (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً) من كلام عمر بن الخطّاب في عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنهما، قاله عمر على سبيل المدح لعلم ابن مسعودٍ.

وليس بحديث مرفوعٍ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقد جعله مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، عددٌ من العلماء، وهماً.

قال الخطّابي في غريب الحديث (1: 263) « والكِنْفُ الوِعاء ومنه قولهُ: عليه السلام في عبدالله «بن مسعود»: (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً).

وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين (5: 1653): وفي الحديثِ (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً).

وقال ابن الأثير الجزري في شرح مسند الشافعيّ (1: 357) وهو يعدّد مظاهرَ التصغير: «وتَصغيرُ تَعظيمٍ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً) في حقّ عبداللَّهِ بنِ مَسعودٍ».

 وهذا وَهْمٌ من هؤلاء الأئمة، رحمهم الله تعالى، والصواب أنّه أثر موقوف على عمر.

فقد جاء في موطّأ محمّد بن الحسن (607) ما نصّه:

607 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ «بن أبي سليمان» عَنْ إِبْرَاهِيمَ «النخعيّ» أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَطَعَ دَمُهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَدَخَلَتْ مُغْتَسَلَهَا، وَأَدْنَتْ مَاءَهَا، فَأَتَاهَا فَقَالَ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ!

فَسَأَلَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عُمَرُ: قُلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ؟

فَقَالَ: أُرَاهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ.

فَقَالَ عُمَرُ: «وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ».

ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما: (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً).

قال ابن أبي حاتم في المراسيل (21): «سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَمْ يَلْقَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَائِشَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا شَيْئاً، فَإِنَّهُ أُدْخِلَ عَلَيْهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، وَأَدْرَكَ أَنَساً، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ».

وأخرج عبدالرزاق في مصنّفه (10: 13) عن شيخه معمر، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا, فَجَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ عَفَا أَحَدُهُمْ؟

فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ: مَا تَقُولُ؟

فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَقُولُ: «إِنَّهُ قَدْ أُحْرِزَ مِنَ الْقَتْلِ»!

فَضَرَبَ عمرُ عَلَى كَتِفِهِ ثُمَّ قَالَ: (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً).

وأخرجه الطبرانيّ في المعجم الكبير (9: 349).

وأورده الهيثميّ في مجمع الزوائد (6: 303) وقال:

«رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنْ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ وَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ».

وأخرج أحمد في فضائل الصحابة (1550) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قال: حدّثنا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ عُمَرَ، فَأَقْبَلَ عَبْدُاللَّهِ، فَدَنَا مِنْهُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ؛ قَالَ عُمَرُ: (كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلماً).

وأخرجه الحاكم في المستدرك (5391) من حديث عبدالله بن نمير عن الأعمش، به، وقال:  «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ».

وهذا إسناد صحيح، زيد بن وهبٍ من المخضرمين، وقد سمع عمر.

وانظر إتحاف المهرة (12: 153).

فيمكننا أن نقول: إنّ هذا الأثر صحيح عن عمر.

أمّا عن معناه، فقد قالوا:

كُنَيْفٌ: تَصغيرُ كَنيفٍ، والكَنيفُ: موضعُ قضاء الحاجةِ، فقد أخرج مسلم في صحيحه (563) من حديث أَنَسِ بن مالكٍ قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ).

وفي رواية لمسلم (563) والبخاريّ (142): (كان إذا دخل الخلاء) وهذا تفسيرٌ للكَنيفِ.

لكنّ ابن فارسٍ في مقاييسه (5: 142) جعل الكُنَيْفَ تصغيراً لكلمة «كِنْف» وجعل كلمة (كنف) أصلاً واحداً، يدلّ على الستر، واشتُقّ الكَنيفُ منه؛ لأنه يستر الذي يقضي حاجته عن عيون الناس، لا أنّ الكُنَيْفَ تصغيرُ كَنيفٍ، في هذا الموضع.

قال عداب: وهذا تفسير طيّب، يليق بمقام عبدالله بن مسعودٍ، رضي الله عنه.

وعلى هذا التفسير، يكون معنى الأثر: «علم عبدالله بن مسعود المستور؛ وعاءٌ مُلئَ علماً».

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق