الأحد، 21 مارس 2021

 

مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (3):

زكاةُ الدَيْنِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتب إليّ أحدهم يقول:

إنّ لديّ مبلغاً كبيراً في أحد مصارف البلاد الإسلامية «البنك».

بيد أنني لا أستطيعُ تنميتَه ولا العملَ ببعضِه، ولا سحبَ شيءٍ منه، إلّا مصروفي الشخصيّ، وقد مضى على هذه الحالِ أكثرُ من خمس سنواتٍ!

وقد سألتُ عَدداً من العلماء عن ذلك؟

- فبعضهم قال لي: مالك هذا يصنّف ضمنَ الدينِ القويِّ، وعليه، فيجبُ عليك إخراجَ زكاة هذا المالِ في كلّ عامٍ، من مالٍ آخرَ لديك، سوى المال المحجوز هذا، حتى لو اقترضتَه قرضاً؛ لأنّ الزكاةَ حقُّ الفقير والمسكين وغيرهما من مستحقّي الزكاة، وهم لا يستغنونَ عن حقّهم سنةً واحدةً، فضلاً عن أكثرَ من خمس سنين!

- وبعضهم قال: صحيحٌ أنّ مالَكَ يُصنَّف ضمن الدين القويّ، لكنْ لا يجب عليك زكاتُه، حتى تقبضَه، أو تستطيع التصرّف فيه، فعندها تخرج زكاتَه عن السنوات التي لم تُخرج الزكاةَ فيها، بسبب الحجز.

فما تقولون أنتم شيخنا ...؟!».

أقول وبالله التوفيق:

لا رَيبَ في أنّ الدَيْنَ بشتّى أنواعِه؛ مَمْلُوكٌ لِلدَّائِنِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ صَاحِبِهِ، ولا يُمكنُه تَنميتُه ولا التصرّف فيه؛ فَقَدِ ذَهَبَ عبدالله بنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ أمّ المؤمنين، وَعِكْرِمَةُ مَوْلَى عبدالله بن عبّاسٍ، ومالك بن أنسٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الدَّيْنِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مالٌ غَيْرُ نَامٍ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، شأنه في ذلك شأنُ عُروضِ الْقُنيَةِ، من مسكنٍ يشغَلُه، وأثاثٍ يستعمله، ومَركوبٍ يستقلُّه.

فهذه كلها ذات قيمة عالية، ولا زكاةَ عليها؛ لعدمِ إمكان النماء فيها.

والذي أفتى به الإمامُ مالكٌ رحمه الله تعالى؛ أنْ لا زكاةَ في الديون حتى تُقبَضَ، فإذا قُبِضَتْ؛ زكّى عليها مرّةً واحدة.

ثمّ متى صارَتْ في يده؛ ففيها الزكاةُ على رأس الحولِ من تاريخ زكاته تلك.

سواءٌ نمّاها بعدَ ذلك، أم لم ينَمّها؛ لأنّ إمكانية تنميتها ظاهرة، فإن تكاسَل هو؛ فلا يَتحمّل صاحبُ الحقّ في ماله مستحقُّ الزكاة تكاسُلَه وإعراضَه عن تنمية المال.

وفي هذا المعنى رويَ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال:

)أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ؛ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ) أخرجه الإمام الترمذيّ في جامعه (641) والدارقطنيُّ في سننه (1970) والبيهقيّ في سننه الكبير (4: 107) والبغويّ في شرح السنّة (1589) وقالَ الترمذيُّ: «ذهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أنّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةً، مِنْهُمْ: عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ بن إبراهيم الحنظليّ، رحمهم الله تعالى».

ختاماً: رحمةً بالناسِ، ومحافظةً على أموالهم؛ فنحن نفتي بما أفتى به ابن عمر وعائشة ومالك رضي الله عنهم، من أنّ المالَ غيرَ النامي بسببٍ خارجيّ عن إرادة صاحبِ المال؛ فإنّه لا يزكّى سوى مرّةٍ واحدةٍ عند إمكانية تصرّفه بماله وإنمائه، ولو ظلَّ كذلك سنواتٍ.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق