مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (2):
التطبيق المعاصر لمصارفِ الزكاة!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
سألني أحد الإخوة الموسرين الأكارم قال: «إنّ زكاةَ مالي
المودَع في المصرفِ «البنك» تتجاوز نصفَ مليون دولارٍ سنويّاً، فكيف يمكنني أنْ
أوظّف زكاةَ مالي في خدمة فقراء المسلمين، بأفضلَ من مجرّد إعطائهم شيئاً من هذه
الزكاة؟
وقد قيلَ لي: إنّه لا يجوزُ إخراج الزكاةِ من البلد الذي تعيش
فيه، ما دام في ذلك البلد محتاجون»!؟
أقول وبالله التوفيق:
كثيراً ما يتهاون الناسُ في تغطيةَ مصارفِ الزكاةِ الثمانية
الواردة في قول الله تبارك وتعالى:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَ
اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) [التوبة].
ولعلّ سبب ذاك التهاونِ؛ أنّ الفردَ المسلم يخرج زكاتَه بنفسه؛
لأنّ الدول المعاصرةَ، لا تهتمّ بفريضة الزكاة جبايةً وتوظيفاً!
ومعظم الذين يخرجون زكواتِ أموالهم؛ هم من الطبقة المتوسطة،
التي لا تتجاوز زكاةِ أحدهم (1000) دولارٍ في السنة!
وأكثرُ أصحاب رؤوس الأموال الضخمة؛ لا يخرجون زكواتِ أموالهم
وللأسف!
ولو أنهم أخرجوا زكواتِ أموالهم؛ لما بقي في الأمة فقراء ولا
محتاجون، وكان سيزداد النشاط العلميّ بفروعه كلّها، إذ يجد طالب العلم من يوفّر له
أقساط دراسته، ويمنحه من المال ما يعيش به حياةً متوسطة كريمة!
وحتى ندور مع الدليل حيث دار –
كما يقولون – علينا أن نفكّك
دلالاتِ هذه الآية العظيمة، المقصودةِ لله تبارك وتعالى، العليم الحكيم.
آية الصدقات هذه، لا خلاف بين علماء الأمة المجتهدين؛ أنها تعني
الزكاةَ المفروضة!
لقوله تعالى في ختامها (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ومصارف الزكاة
تغطّي:
(1)الفقراءَ (2) والمساكينَ (3) وجباةَ الزكاة «العاملين عليها»
(4) والمؤلفةَ قلوبُهم (5) وإعتاقَ العبيد «الرقاب» (6) الغارمينَ (7) الجهادَ
والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر (8) والمسافرَ بسبب مشروع «ابنَ السبيل».
وهذا التوزيع ليس اختياريّاً، ولكنّه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)
والفريضةُ هذه إنما شرعت لحِكَمٍ أثبتت نجاعتها في المجتمع
المسلم، على مدار تاريخنا (وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
(1)الفقراءَ: تشملُ شريحةً كبيرةً من المسلمين:
-1 النساءُ من الفقراء بنسبة (95%) لأنّ المرأة يُعيلُها في الإسلام
أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها، لكنْ من النادر أن يكون لها شيءٌ من المال
تتصرّف به لإسعادِ نفسها أو لتكفلَ به أحدَ قراباتها!
-2 الأطفالُ والشباب اليافعون، حتى الثامنةَ عشرةَ في الحدّ الأدنى،
إذا سلك أحدهم سبيل العمل وامتهان صنعةٍ.
أمّا إذا سلك سبيل العلم والمعرفة؛ فيبقى فقيراً حتى الرابعة
والعشرين، وربما بعدها!
3-كبار السنّ
والعجزة.
4- المرضى الذين لا يجدون نفقات الطبابة.
هؤلاء وغيرهم؛ يعطون من «ثُمُنِ الفقراء».
(2) والمساكينَ: تشملُ شريحةً كبيرةً من المسلمين أيضاً:
(1) أوساط الموظّفين، وصغارهم، الذين لا تكفي دخولهم الماليّةُ
لحياة كريمة لهم.
(2) جميع الذين يسكنون في بيوتِ الإيجار الشهريّ أو السنويّ.
(3) جميع العاجزين عن نفقات الزواج من الرجال والنساء.
(4) جميع العاجزين عن تعليم أبنائهم بما يزيل عنهم الأمية
والجهل.
هؤلاء وغيرهم ممن تشملهم كلمة «المسكنة» يعطون من «ثمن
المساكين».
(3) وجباةَ الزكاة «العاملين عليها»:
لا يخفى على أحدٍ أنّ مواردَ الزكاة كثيرة، منها الزروع
والثمار، ومنها المواشي والأنعام، ومنها أموال التجارات والصناعات، ومنها النقدُ
من الذهب والفضة أو ما ينوب منابهما من الأوراق النقديّة المعترف بقيمتها الثابتة
وشبه الثابتة في سوق المال والأعمال.
وهذه تحتاجُ إلى موظّفينَ يقومون على جمع الزكواتِ، ثم يقومون
على توظيفها، ثم يقومون على توزيعها.
وإذا افترضنا أنّ لدينا نصف مليون دولارٍ سنويّاً نريد أن
نوظّفها؛ فلا بدّ من أن نقوم بمشاريع تجاريةٍ وصناعية وزراعية وحيوانية، نوّظف
فيها المئات من العاملين.
هؤلاء سيعيشون من المرتبات التي نمنحهم إياها، والمال الناتج في
نهاية العام؛ نوزّع ثلثيه على المستحقين، ونوظّف ثلثه لإقامة مشروع جديد!
(4) والمؤلفةَ قلوبُهم: الأصل في مفهوم المؤلفة قلوبهم؛ أنهم
الذين دخلوا في الإسلام رَهباً أو رَغباً، ولم يدخلوا فيه عن قناعةٍ وإيمان.
فمساعدة هؤلاء وأمثالهم حتى من المسيحيين واليهود المواطنين في
بلادنا؛ يرغبهم في الإسلام، أو على الأقلّ يجعلهم محايدين، بدلَ العداوة، ومناصرين
بدلَ المحاربة!
ويعطى هؤلاء كفايَتهم الشهرية، مع اشتراط عدم إنفاق المال في
المحرمات.
(5) وإعتاقَ العبيد «الرقاب»: وتشمل شرائح واسعة أيضاً!
فجميع أسرى الحروب عند أعداء الأمة والوطن، يمكننا افتداؤهم
وفكاكهم من الأسر، من مال الزكوات والصدقات.
وجميع المساجين الذين سجنوا لعجزهم عن وفاء الديون التي خسروها
في تجاراتهم وصناعاتهم.
وحتى المساجين المجرمون، فنعطيهم نفقاتِ السجن، ونوظف لهم من يعلمهم
القرآن والعلم في السجن، حتى ننقذهم من أخلاقهم الرديئة، ومن سخط الله تعالى عليهم
وعلينا.
وإذا وُجد عبيدٌ في بلدٍ من البلدان الإسلامية حتى اليوم؛ فإننا
نساهم سنويّاً بإعتاق أعدادٍ منهم، وتأمين عمل لهم في بلادهم، حتى لا يكونوا عالة
على مجتمعهم.
هؤلاء وغيرهم ممن ينطبق عليهم وصف «الرقاب» يعطون من ثمن «وفي
الرقاب».
(6) الغارِمينَ: وتشمل شريحة واسعةً من المسلمين.
الأصلُ أنّ الإنسانَ الغارمَ؛ هو الإنسانُ المدين، بسبب مشروع.
سواء كان دَيْنُه بسبب خسارةِ تجارته، أو كان دينه بسبب خراب
مصنعه، أو كان دينه بسبب عدم وجود كفايته، أو بسبب دراسته، أو بسبب مرضه، أو بسبب
ضخامة عائلته وقلّة موارده.
بأيّ سببٍ غير محرّمٍ؛ فإنّ هذا المسلمَ تسدّد ديونه من «ثُمُن
الغارمين» بالغة ما بلغت، وَفقَ خطة المزكّي السنوية، حتى لو كان من بني هاشمٍ،
ومن آل البيت!
(7) الجهادَ والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر:
أنا الفقيرُ لا أؤمن بالثوراتِ على الحكّام، حتى لو كانوا
فاجرين، إلّا إذا وجدت مؤسسة علمية شرعيّة، مثل «هيئة كبار العلماء» مثلاً، وقرّرت
الثورةَ على أحد الظالمين بطريق «العصيان المدنيّ» وليس بطريق القتال والقتل،
فتعطى هذه الهيئة حقّها من الزكاة «ثمن في سبيل الله» وغيره مما يمكن أن يندرج تحت
عملها.
لكنْ لدينا مصرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أعمّ من
الجهادِ أصلاً!
ويمكن للمزكّي أن يساهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في
اتّجاهاتٍ كثيرة، منها:
(1) مَنح خطباء المساجد مكافأةً شهريّة، شريطةَ أن يفرّغوا
أنفسهم لتطوير مهاراتهم الخطابية، وتحريرهم المسائل التي يطرحونها، أو لالزامهم
بخطبة جمعة موحّدة نكتبها لهم في كلّ أسبوعٍ؛ ليسود فكرٌ واحدٌ في المجتمع.
(2) تدريس عددٌ من الطلاب أساليبَ الدعوة إلى الله علميّاً
وتربوياً، في كلّ عام.
(3) طباعةُ كُتبٍ علمية متقنة في الدعوة والإرشاد والتربية
الروحية، وتوزيعها مجانّاً.
(4) طباعة كتبٍ ودراساتٍ علمية في التفسير والفقه والحديث،
وتوزيعها على المسلمين مجاناً.
(5) إنشاء مجلّة علمية محكّمةٍ، تعرض في كلّ عامٍ (100) مسألة
علمية خلافية، ليكتب العلماء فيها (100) بحثٍ علميّ، وفق منهجية مخطّطٍ لها
مسبقاً.
(6) تسيير قافلة لأداء فريضة الحجّ والعمرة، ولتكن باصاً كاملاً
من خمسين حاجّاً في كلّ عام شريطةَ أن يكون ممن لم يسبق له الحجّ!
(7) مساعدة المحتاجين والفقراء والمظلومين في فلسطين وسوريا
وليبيا واليمن وميانمار والصين.
كل ذلك وفق خطة محكمة تكون بين يدي المزكّي، وعليه التوازن في
التصرفات، وتقديم الأولويّات.
جميع هذه الأمور وما يندرج تحت مسمى (في سبيل الله تعالى) يصرف
له من «ثمن في سبيل الله».
(8) و«ابنَ السبيل»: هو المسافرُ بسبب مشروع، كطلب العلم،
والبحث عن عمل، والطبابة، والتجارة، والسياحة في العبادة.
كلُّ مسافرٍ من بيته إلى قريةٍ أو مدينةٍ أو دولةٍ أخرى، فقدَ
القدرةَ على إعالة نفسه، يعطى من «ثمن ابن السبيل» حتى لو كان في الصين!
هذه إلماحةٌ يسيرةٌ يمكن أن تنير أمامَ المزكّي السبيلَ
المشروعةَ، التي يعود سلوكها عليه بالأجر العظيم، وعلى المسلمين بالخير العميم.
أيها المسلم المزكيّ: إنك لو لم تفعل شيئاً، سوى أن تمنح (500)
أسرة فقيرة ومسكينة (10000) دولار في كلّ سنة، تُعطاها موزعة على اثني عشر شهراً؛
لكان خيراً عظيماً!
أترى كفايةَ (500) أسرةٍ في بلد مثل تركيّاً أمراً يسيراً،
و(1000) أسرة في بلد مثل سوريا واليمن ولبنان، فسيكون لك الأجر الجليل العظيم،
وسيبارك الله تعالى لك في عمرك وصحتك وأولادك ومالك!
قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:
(مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا
بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ
تعالى) أخرجه مسلم (4689) والترمذيّ (2029) وقال: حديث حسن صحيح.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق