الأربعاء، 12 يوليو 2023

  اجتماعيات (72):

مَدينة حماةَ أجملُ أم دمشقَ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال لي صاحبي: بصفتِك حمويّاً بَدويّاً، عشتَ في حماة سنينَ طويلةً، وفي دمشق بضعَ سنين...!

فأيُّ المدينتين في عينيك أجمل؟

أقول وبالله التوفيق:

(اللهُ جميلٌ يحبُّ الجمالَ) وكلّ جمال في هذا الكون؛ نعمةٌ من نعم الله تعالى، تذكّر بالجمال الإلهيّ الكامل!

ثمّ أمّا بعد:

أوّلاً: أنا الفقير لستُ بدويّاً، ولست فلّاحاً، ولم يكن أهلي بَدواً ولا فلّاحين قطُّ!

عندما انتقل جدّنا السيّد كنعان بن محمّد الأمين، من مدينة الموصلِ إلى مدينة حماة، في بدايات القرن الحادي عشرَ الهجريّ؛ كان ذا وظيفةٍ حكوميّة عثمانيّة، في غالب الظنّ!

يُرجّح هذا المعنى أنّ السلطان العثمانيّ، في ذلك الوقت؛ أقطعه قريةَ «نُقيرين» المعروفة اليوم باسم (النقارنة) ومساحتها عشرة آلاف دونم، في مقابل أداء «العُشْر» للدولة العثمانية.

وظلّت قرية نقيرين في ملكنا حتى عام (1925) عندما ثارَ أجدادي مع الثوّار ضدّ المستعمر الفرنسيّ، ولم تنجح ثورتهم!

اختفى جدّي الحمش وأولادُه عن الأنظار عدّة سنواتٍ، إذ حُكم عليهم بالإعدام، فصادرت فرنسا هذه القريةَ، وأصدرت قوانين بتوزيعها وغيرِها، على العاملين فيها، وعلى عملائها أيضاً.

وعندما صدر العفو عن «المجاهدين» الثائرين، ورجع أهلنا؛ وجدوا عمّالهم وغيرَ عمّالهم قد تملّكوا القريةَ، وحصلوا على وثائق عقاريّة بذلك!

بيد أنني أقول: أنا بدويّ لأنّ لديّ شدّةً وحِدّةً!

وأقول: أنا فلّاح، تطييباً لخواطر الفلّاحين الذين كانوا الحمويّون يعاملونهم باحتقارٍ شديد!

كنّا مجتمعين في منزلي، بمكّة المكرّمة، في مجلسٍ من مجالس الحمويّين، فقلت: أنا بدويّ ابن بدويّ، فلّاح ابن فلّاح!

فقال لي أحد الحاضرين: «مَحشوم» يا شيخ عداب!

ومعنى «محشوم» يعني تتنزّه عن هذا المقام، أو أنت أكرمُ من أن تكون بدويّاً أو فلّاحاً!

ثانياً: لم أكنْ أنا الفقير، من هواةِ الرحلاتِ والسفر، ربما لقسوة تربيتنا (آل الحمش)!

فيمنع منعاً باتّاً أن يكون الشابُّ خارج منزله، بعد صلاة المغرب، ولهذا كنّا نصلي العشاءَ دائماً مع جدّي السيد إبراهيم في منزلنا الواسع!

ثالثاً: المرّة الأولى التي غادرت فيها حماة مضطرّاً، كانت عام (1968) عندما حصلت مشاجرةٌ عنيفة بيني وبين عددٍ من الأوباش، فطعنوني وطعنتُهم، وطلبتني أجهزة الأمن، فاستصدر لي أصدقائي هويّة باسم ابن خالتي (عبدالرزاق بن محمد كُريج) رحمه الله تعالى، وعليها صورتي، وانتقلتُ إلى دمشق، وبقيت فيها إلى أنّ حُلّت القضيّة، وصدر في حقّي براءةٌ من المحكمة!

في ذلك العام؛ كانت تقامُ في المسجد الأمويِّ أربعُ جماعاتٍ: للحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وكان عددُ المالكيّة قليلاً جدّاً، وكذلك الحنابلة!

أمّا أنا فكنت أصلي الظهر والعصر، مع الجماعات الأربع (!!!) وأنوي النافلة!

كان أولاد عمّتي عائشة (محمّد وفائز ومختار) يقيمون في دمشق، وكان ابن خالتي (عبدالرحمن بن محمد كريج) ضامناً لفندق الحرمين، بساروجة!

فكنت أرتّب له أسرّةَ النزلاء، وأمسح الدرج وساحةَ الفندق، في مقابل مبيتي على سطح الفندق، إذ كان الوقتُ صيفاً.

وكنتُ أشتغل من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، حتى التاسعة صباحاً، مع أبناء عمتي في المخبز (الفرن).

كان أولاد عمّتي من الملتزمين، وكان ابن خالتي من المصلّين أيضاً.

مساء كلّ يومِ جمعةٍ؛ كان أولاد عمّتي يخرجون بنا نزهةً إلى منطقةٍ من مناطق غوطة دمشقَ الغنّاء!

وكنتُ عقبَ كلّ نزهةٍ؛ أكتب قصيدةً في وصفِ جمال المنطقة التي كنّا فيها!

وإذْ أنا لم أكنْ أعرفُ حماةَ أصلاً، بسبب ما سبق؛ فقد عشقتُ جمال مدينة دمشق، وكنت أستعذب ماءها «الفيجة» وأشرب أكثر من خمس ليتراتٍ منه يوميّاً قطعاً!

عقب عودتي إلى حماةَ مع بداية العام (1969) غدوتُ أحتاج روحيّاً ونفسيّاً إلى المتنزّهات!

في ذلك العام؛ عرفتُ قريةَ (سريحين) وقريةَ (الجاجيّة) وقريةَ  (كازو) وكنت أعرف قرية «عين قصّارين» إذ كنّا نخيّم بها في الصيفِ، مع شيخنا الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى.

حماةُ جميلة، ودمشق جميلة، وقرية شمس الدين التي غمرها سدّ الفرات وأزالها جميلة، وقرية السبخة جميلة، وأجمل ما فيها السبخة، التي كنّا نصطاد منها السمك بسلّة القصب!

كنت أخرج بعد صلاة الفجر إلى شاطئ الفراتِ فيها، أراجع محفوظاتي من القرآن الكريم يوميّاً، فكنت أرى السمك غافياً على الشاطئ، والله!

غدوت كلّما اشتهيت السمكَ؛ أحمل معي سلّة القصب، فأملؤها سمكاً، أعود به إلى المنزل!

حلفايا جميلة، ووادي العيون جميلةٌ، بل رائعة الجمال، كان السحاب المحمّل بالخير، يمرّ من تحت شرفةِ منزلي فيها!

سوريّا جميلة، والأردنّ جميلة، ولبنان جميلة، ويقولون: فلسطين جميلة، ومصر جميلة، والحجاز جميل، والعراق جميل، وتركيا جميلة!

وصور ومقاطع الفيديو التي غدونا نشاهدها، تنقل إلينا جمال أوربا وأمريكا وأستراليا.

هذا الكون كلّه جميل، أبدعه ربّنا الحكيم العليم القادر الجميل!

في حماة جمالُ النواعير، ليس له مثيلٌ في الدنيا.

وفي وادي العيون جمال الجبال والوديان والغيوم والسحاب والخضرة، مضافةً إلى (360) نبعاً وعيناً، من عيون زينابيعِ الماء، قالوا لي: إنّ لكلّ عينٍ مزاياها وخصائصها، ومذاقها، واستعمالاتها الطبيّة!

أمّا أنا فلم أشاهد أكثرَ من خمسةِ عيونٍ أو ستّاً، من بينها نبعان متجاوران بينهما أقلّ من (20) سنتيمتر، أحد النبعين تقترب حرارتُه من درجة الغليان، والآخر باردٌ شديد البرودةِ، يقترب من درجة «الصفر» ويصبّان في ساقية واحدة، تمرّ نهاياتها من تحت منزلي؛ لتصبّ في وادي العيونِ السحيق!

وفي الغوطة الشرقيّة والغربيّة جمالٌ أخّاذ، كان يتخلّلها سواقي من نهر بردى الجميل الحبيب!

ختاماً: إنّ قارّات الدنيا كلّها جميلةٌ، وفي كلّ قطعة منها جمال خاصّ!

 

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون).

 يجب - أجل يجب - أن تقودنا إلى تأمّل عظمة خالقها وجماله، وتقودنا إلى مزيدٍ من الحمدِ والشكر، وإلى مزيدٍ من الأعمالِ الصالحة؛ لنحظى بجمال جنان الآخرة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!

(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* 

وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق