الاثنين، 24 يوليو 2023

مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (7):

ليسوا على مذهب السَلف !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لا يخفى على قرّائي الكرام؛ أنني عشت في السعودية ثلاثةَ عشر عاماً متواليةً!

كما لا يخفى عليهم أنّ الصوتَ المسموعَ الوحيد في زماننا ثمّةَ؛ هو صوتُ الوهّابيةِ، الزاعمين أنهم على مذهب السلف في الاعتقاد.

فطبيعيٌّ أن يكون لي (100) صديقٍ حجازيٍّ وهابيّ، على أقلّ تقدير!

منذ بضعةِ أيّام تواصل معي أحد هؤلاء الأصدقاء، وطلب زيارتي، فرحّبت به أجمل ترحيبٍ أقدر عليه.

وفي أثناء الترحيب قال لي: أنت عالم كبير، خليقٌ بك أن تكون على مذهب السلف الصالح، رضي الله عنهم، أسأل الله تعالى أن يهديك يا شيخ عداب!

قلت له: من هم السلف الصالح الذين تريدني أن أكون على مذهبهم؟

قال: الله يهداك يا شيخ عداب، أو مثلك لا يعرف من هم السلف الصالح؟

قلت له: بلى أنا لا أعرف من هم السلف الصالح، الذين تقلدونهم أنتم في مسائل الاعتقاد؟

قال: هم الصحابة والتابعون وأتباعهم، الذين جاء مديحهم في الحديث الصحيح:

(خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم) هؤلاء سلفنا الصالح!

أقول وبالله التوفيق:

أخرج البخاري (2651) ومسلم (2535) هذا الحديثَ من حديث عمران بن الحصين مرفوعاً.

وأخرج البخاريّ (2652) ومسلم (2533) هذا الحديثَ من حديث عبدالله بن مسعودٍ مرفوعاً، ولفظه عند مسلم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.

ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ).

وأخرج مسلم هذا الحديث نفسه (2534) من حديث أبي هريرة مرفوعاً أيضاً.

فالحديث صحيح الإسنادِ بلا ريب!

لكنّ هذا لا يعني أنّ كلَّ فردٍ في هذه القرون؛ هو خَيّرٌ وفاضلٌ، وأفضل ممّن جاء بعده في طبقات الناس!

إذ لا يخفى على أحدٍ أنّ بعضَ الصحابةِ بغى على بعضٍ، وبعضهم قتل بعضاً!

ومن البدهيّ أن يقالَ: هناك ظالمٌ ومظلوم، والظالم ليس خيّراً بضرورة العقل والشرع!

لكنْ لنتنزّل مع هذا الأخ الوهّابي، فنقول له: لا يستطيع طالبُ علمٍ ولا عالمٌ سنيٌّ أو شيعيٌّ أو خارجيٌّ أن يثبتَ بأنّ أحداً من الصحابةِ أو التابعين؛ نُقلت عنه عقيدةٌ واضحةُ المعالم، مكتوبةً رواها عنه الثقات، أو حتى الضعفاء!

ولا أبالغَ إذا قلت: إنّ الوهابيّة يقدّمون كلامَ ابن تيمية على كلام كثيرٍ من الصحابة، إن لم أقل: على جميعهم!

قال الشيخ أحمد ابن تيمية، رحمه الله تعالى، وغفر له، في كتابه «دَرْءُ تعارضِ العقلِ والنقل» (1: 94) ما نصّه: «ومَن جَعل العِلمَ بالصانع نَظرياً؛ يعترف أكثرُهم بأنّ مِن الطرق النَظرية التي بها يُعلَم صِدقُ الرسول؛ ما لا يُناقضُ شيئاً من السمعيات.

والرازيُّ (ت: 606 هـ) ممن يعترف بهذا، فإنّه قال في كتابه «نهاية العقول» في مسألة التكفير، في:

المسألة الثالثة: في أنّ مُخالفَ الحّقِّ مِن أهل الصلاةِ، هل يُكَفَّرُ أم لا؟

قال الشيخ أبو الحسن الأشعري (ت: 324 هـ) في أول كتاب «مقالات الإسلاميين»: اختلف المسلمون بعد نبيّهم في أشياءَ، ضَلّل فيها بعضُهم بَعضاً، وتَبّرأ بعضُهم مِن بعض، فصاروا فرقاً متباينين، إلا أنّ الإسلامَ يَجمعُهم، فيعُمّهُم، فهذا مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب مَن كَفّر المخالفين» إلى أنْ قال الرازيُّ: «كان الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني (ت: 418 هـ) يقول: «أُكفّر مَن يُكفّرني! وكلُّ مُخالفٍ؛ يُكفّرنا، فنَحنُ نُكفّره، وإلّا فلا !

والذي نَختاره أنْ لا نُكفّر أحداً مِن أهلِ القِبلةِ، والدَليلُ عليه أنْ نقول:

المسائلُ التي اختلف أهلُ القبلة فيها، مثل:

- أنّ الله تعالى، هل هو عالم بالعِلمِ، أو عالمٌ بالذات؟

- وأنه تعالى، هل هو مُوجدٌ لأفعالِ العِبادِ، أم لا؟

- وأنه تعالى، هل هو مُتحيّزٌ، وهل هو في مكانٍ وجِهةٍ، أم لا؟

- وهل هو مرئي أم لا؟

لا يخلو: إما أنْ تَتوقّفَ صِحةُ الدّين على مَعرفة الحقّ فيها، أو لا تتوقف!

والأوّل باطلٌ، إذْ لو كانت مَعرفةُ هذه الأصولِ مِن الدين؛ لكان الواجبُ على النَبيِّ صلي الله عليه وسلم أنْ يُطالبَهم بهذه المسائل، ويَبحثَ عن كيفيّةِ اعتقادِهم فيها!

فلمّا لمْ يُطالبْهُم بهذه المسائلِ، بل ما جرى حديثٌ في هذه المسائلِ، في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة، ولا في زمان التابعين، رضي الله عنهم؛ علمنا أنّه لا تَتوقّفُ صِحّةُ الإسلامِ على مَعرفةِ هذه الأصولِ.

وإذا كانَ كذلك؛ لم يكن الخَطأُ في هذه المسائلِ قَدحاً في حقيقة الإسلام، وذلك يَقتضي الامتناعَ مِن تَكفيرِ أهلِ القِبلةِ».

والشيخ ابن تيميّة ساقَ هذا الكلامَ، سياقَ الاحتجاجِ، أو الاستشهاد به، بدليل قوله في مجموع الفتاوى (7: 671): «وَلِهَذَا يَقُولُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ: لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَقَدْ ثَبَتَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ عَلَى أُنَاسٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِمْ حُكْمَ مَنْ كَفَرَ، وَلَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ جَلَدَ هَذَا، وَقَطَعَ هَذَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَقُولُ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) أخرجه جمع من المصنفين، منهمالبخاريّ في الحدود (6781) وهذا لفظه.

وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ».

وجملة (لا نكفّر أحداً من أهلِ القبلة) ذكرها ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3: 162) وفي التسعينية (3: 1017) وفي الفتاوى الكبرى (6: 657) وفي بيان تلبيس الجهمية (1: 112) و(2: 491، 595) و(3: 318) ممّا يؤكّد تبنّيه كلامَ الإمام الرازي في هذه المسألة.

غدا من الواضحِ الصريحِ أنّ ما تسمّونه «عقائد السلف» لم يكن يعرفه السلف، فلا بحثه الصحابةُ ولا التابعون ولا أتباعهم، من الأساس!

وأنتم إنّما تتبعون أناساً من أهل الحديثِ، لا شأنَ لهم بأساليب البيان العاليةِ، ولا بالمعقولات إنّما همّتهم: (حدّثنا وأخبرنا وسمعت) وما أكثرَ الروايات المكذوبة والموضوعةِ، التي يروونها بهذه الصيغ العالية!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق