الأحد، 29 أغسطس 2021

 مسائل فكريّة (17):

هل يجوز التَقليدُ المذهبيّ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحد الإخوة الكرام: هل يجوز التديّن والتعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة؟!

أقول وبالله التوفيق:

في مجتمعاتٍ جاهلةٍ، تنتسب إلى الإسلام انتساباً وراثيّاً قبليّاً؛ من المستحيلِ لديها قَبولُ قول كثيرٍ من أهل العلم: «لا يجوز التقليد في العقائد» إذ إنّ الواقع المُشاهَدَ أنّ الذين يزعمون الإمامةَ في العقائد؛ أكثرهم، إن لم نقل: جميعهم مقلّدة!

فالذي يتبع المذهب الأشعريّ، وينافح عنه؛ مقلّد!

والذي يتبع المذهب الإماميّ في العقائد السياسيّة مقلّد، ولا تكاد تجد واحداً من هؤلاء وأولئك مؤهّلاً للاقتداء به؛ لفواتِ كثيرٍ من أدواتِ الاجتهاد عليه!

وكي أختصر عليك الكلامَ أخي القارئ الكريم أقول:

إنّ لدينا مدرستين فكريّتين، تتداخلان في كثيرٍ من أصولهما وفروعهما، وتختلفان في كثيرٍ أيضاً، والمذاهبُ داخل هاتين المدرستين مختلفة أيضاً:

(1) مدرسة أهل البيت:

وينبثق عنها: الإمامية، والإسماعيليّة، والزيدية، والمعتزلة، والإباضيّة.

لكنّ المذاهب الثلاثةَ الأولى؛ ألصق بمدرسة أهل البيت من المعتزلة والإباضيّة!

ومذهب أهل البيت؛ هو اتّفاقُ مذاهب الشيعة الثلاثة على عقيدةٍ، أو حكم فقهيّ سواءٌ وافقهم المعتزلة والخوارج، أم خالفوهم.

ويجوز للشيعيّ من أيّ مذهب كان أن يتعبّد الله تعالى بما أجمعتْ عليه مذاهبُ الشيعة الثلاثةُ، سواء كان عاميّاً، أم كان مثقفاً، أم كان مميّزاً، دون درجة الاجتهاد.

أمّا في العقائدِ والأحكامِ التي اختلف فيها علماءُ مذاهب الشيعة الثلاثةِ؛ فإنّ الصواب منثورٌ بين هذه المذاهب، وليس منحصراً في مذهب الزيديّة، أو الإمامية، أو الإسماعيّلية.

وعندي لا يجوز للعاميِّ تقليدُ جميعِ ما في واحدٍ من هذه المذاهب؛ لأنّ في كلّ منها حقّاً كثيراً، وباطلاً متفاوتاً.

ففي مسائل الخلاف هذه؛ لا يجوز للعاميّ والمثقف أن يذهب إلى الكتبِ، ليستخلص منها الفتوى أو الحكم؛ لأنّه لا يدري صوابَ ذلك من خطئه!

إنّما عليه أن يقصِدَ عالماً مجتهداً يثق بدينِه، فيسأله عن العقيدةِ، أو الحكم الفروعيّ الذي يريد معرفةَ الصواب فيه.

فإذا كان العالمُ مؤهّلاً للاجتهاد، وأفتى؛ فهو معذورٌ، والمستفتي بريء الذمة!

أمّا إن كان يُدعى «آيةَ الله» أو «حجة الإسلام» وهو يعتقد بالنصّ والتعيين والعصمة وانحصار الإمامة في ذريّة الحسين، ويعتقد بالبَداءِ والرجعة والمهديّ، وانقطاع إمامة آل البيت منذ العام (260 هـ) فلا يجوز استفتاءُ مثل هذا «الآية» في أمور الاعتقاد؛ لأنّ هذه العقائد باطلةٌ كلّها، لا يستطيع هو ولا جميعُ آياتِ الشيعةِ أن يُقدّموا دليلاً آحاديّاً واحداً صحيحاً على أيّةِ عقيدةٍ منها.

أمّا في الفروع؛ فمتى كان هذا «الآية» يفتي اللّصوص بنهب بيت مال المسلمين «ميزانيّة الأمّة، ورصيدها الماليّ» فهو فاسق، ساقط العدالة عندي، فلا يجوز أن يُستفتى في أحكام الفقه الإسلاميّ أيضاً؛ لأنه غير مؤتمنٍ على الدين!

(2) مدرسة الخلفاء: وهي مدرسةُ أهل السنّة والجماعة.

وهي المدرسةُ التي ترى عدالةَ الصحابةِ أجمعين، بمن فيهم الطلقاءُ والمنافقون المجهولون، والمجهولون، ومجهولوا الصحبة، والوحدان، والمبهمون، والمهملون من النسب، والأعراب!

وعلماءُ هذه المدرسةِ يحبّذون أن يكون الحاكمُ مستقيماً، لكنهم يطيعونه حتى لو كان فاسقاً ظالماً قاتلاً في سبيلِ الملك!

وأسميتها مدرسة الخلفاءِ؛ لأنّ درجةَ عالم أهل البيت «الإمام عليّ عليه السلام» عندهم في المرتبة الرابعة في العلم والفضل وكلّ خير.

بمعنى آخر، لا يجعلون لعلماءِ آل البيت أيَّ امتيازٍ خاصٍّ، وليس من اهتماماتهم قديماً وحديثاً؛ تقديم آل البيت، أو إعطاؤهم حقوقَهم التي فرضها الشارع لهم.

والمذاهب العقدية لمدرسة السنّة هذه؛ أربعةٌ، هي:

(1) المذهب الإشعريّ: نسبةً إلى إمام الأشاعرة أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر واسمه إسحاق بن سالم الأشعريّ صليبةً، أو ولاءً على خلافٍ (ت: 324 هـ) مختفياً في بيت أحدِ الحنابلة ببغدادَ، من صلَفِ الحنابلة.

ويغلبُ المذهبُ الأشعريّ على علماءِ المالكية والشافعيّة، وبعضِ الحنابلةِ، في بلاد الإسلام.

(2) المذهب الماتريديّ: نسبةً إلى الإمام المتكلّم أبي منصورٍ محمّد بن محمّد بن محمود السمرقنديّ الماتريديّ (ت: 333 هـ) ويغلب مذهبُه على أتباع المذهب الحنفيّ، في تركيّا وباكستان والهند والأفغان، وغيرها من المسلمين غير العرب.

والأشاعرة والماتريديّة معاً؛ يكوّنون نسبةَ (90%) من أهل السنّة والجماعة.

فانْظُر إلى حَمَقِ وجَهْلِ مَن يَجعل (90%) من الأمّة أهلَ بدعٍ وضلالٍ!

(3) المذهب الحنبليّ: نسبةً إلى المحدّث الناقد الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت: 241 هـ).

ولم يكن الحنابلةُ في الاعتقاد يُكوّنون أدنى نسبةٍ مئويّة في أهل السنّة، قبل قيام دولة آل سعود التي تبنّت المذهبَ الحنبليّ، وأقامت دولتَها على أشدّ ما في هذا المذهب من رواياتٍ.

والحنابلة «السلفيّة» اليوم، يكوّنون (10 15%) من عدد أهل السنة اليوم.

(4) المذهب الظاهريّ: نسبةً إلى الإمام أبي سليمان دَاوُدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ البَغْدَادِيُّ الظَّاهِرِيُّ الأصبهانيّ (ت: 270 هـ).

والذي قام بالمذهب الظاهريّ، وتكلّم على عقائده وفروعه الفقهيّة؛ الإمام أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدٍ القُرْطُبِيُّ، المعروف بابن حزمٍ الظاهريّ (ت: 456 هـ).

وقد تكلّم على العقائدِ الإسلاميةِ أصولاً وفروعاً، في عدد من كتبه ورسائلته، وأكثر ذلك كان في مقدمة المحلّى، المسائل (1- 91 ) وفي تضاعيف الكتاب مسائل أخرى، وثمّةَ مواضعُ عديدة مِن كتابِ «الفِصَل».

وإذْ إنّ كثيراً مِنْ عُلماء أهل السنّة، يخرجون ابنَ حزمٍ من دائرة الاعتدادِ به في الإجماع؛ فأقول:

متى اتّفق الأشاعرة والماتريدية والحنابلة على حكمِ مسألةٍ؛ فهو مذهب أهل السنّة، الذي يجوز للمقلّد اتّباعه في الأصولِ والفروع، أمّا ما اختلفوا فيه؛ فإنّ الصوابَ منثورٌ فيما بينهم.

وفي مسائل الخلاف هذه؛ لا يجوز للعاميّ والمثقف أن يذهب إلى الكتبِ، ليستخلص منها الفتوى أو الحكم؛ لأنّه لا يَدري صوابَ ذلك من خطئه، ولا معتمَد المذاهب، من الأقوال والوجوه فيها!

إنّما عليه أن يقصد عالماً مجتهداً يثق بدينِه، فيسأله عن العقيدةِ، أو الحكم الفروعيّ الذي يريد معرفة الصواب فيه.

فإذا كان العالم مؤهّلاً للاجتهادِ، وأفتى؛ فهو معذورٌ، والمستفتي بريء الذمة!

أمّا إذا كان مُتشبّثاً بمذهبه، مقلّداً تقليداً أعمى؛ فهو جاهلٌ، غير مؤهّل علميّاً حتى وإن أذن له علماءُ مذهبه بالفتوى!

ختاماً: أنا الفقير أؤمن بالعمل المؤسسيّ، ولا أؤمن بالتقليد المذهبيّ، وأعتقدُ جازماً أنّ الحديثَ الذي أخرّجه أنا، وأعرضه على تلامذتي المختصّين؛ يكون أقربَ إلى طمأنينة قلبي، من حديثٍ أستقلّ بتخريجه وحدي، ومسائل الفقه مثل ذلك.

فعلى أهل السنّة بمذاهبهم أن يؤسسوا مؤسّساتٍ جامعةً لأبرز علماء العربية والبيان والأصول والفقه والحديث والتفسير؛ ليدلي كلّ واحدٍ منهم بدلوه في كلّ مسألة خلافيّة بين مذاهب أهل السنّة، عساهم أن ينهوا لنا هذا التناقض والتضارب بين معتمدِ المذاهب العقدية والفقهيّة، ولست أدري متى سيفعلون ذلك؟

إنني أجزم بأنهم جميعاً آثمون، حتى يقوموا بذلك، حسبةً لله تعالى، بعيداً عن التعصّب والمحسوبيّات والمصالح الدنيويّة.

وعلى علماءِ مذاهب مدرسة أهل البيتِ؛ أن يقوموا بالأمر المؤسسيّ ذاته.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق