الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

 اجتماعيات (23):

الهجر الجميل !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

في حوار مع أحدِ الإخوة الكرام؛ قال لي: سمعتك مرّةً تقول: هناك الحبّ في الله، وهناك البغضُ في الله، وهناك الهجر الجميل في الله!

فما مفهوم الهجر الجميل لديك، وكيف يمكن تطبيقُه، وما حكمه الفقهيّ؟

أهو واجبٌ، أم جائزٌ، أم مكروهٌ، أم محرّم؟!

أقول وبالله التوفيق:

تصوير المسألة بالأمثلةِ أجودُ!

قال الله تعالى:

(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) [المزّمّل].

قال الراغب في مفرداته (ص: 833):

الهجر والهُجران: مُفارقةُ الإنسانِ غيرَه: إمّا بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب...

وقوله تعالى: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) يحتملُ الثلاثةَ، وعلى المرء أن يتحرّى أيَّ الثلاثة يختار، مع تحرّي المجاملة، إن أمكنه» انتهى بتصرّف يسير.

وقال الإمام الرازي في تفسيره (30: 689):

«ثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مُخَالَطَةَ الْخَلْقِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ الْكَثِيرِ!

فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ؛ فَذَاكَ هُوَ الْهَجْرُ الْجَمِيلُ!

فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ!

وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ ؛أَنْ يُجَانِبَهُمْ بِقَلْبِهِ وَهَوَاهُ، وَيُخَالِفَهُمْ فِي الْأَفْعَالِ، مَعَ الْمُدَارَاةِ وَالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ».

المقصود بالمكافأة هنا: ترك ردِّ الإساءةِ بمثلها.

اتّصلت بصديق قديم لي، في يوم عيدٍ، وباركتُ له بالعيد، ودعوت له بما فتح الله على لساني من خير.

ردّ على التحيّة، ثمّ قال: أبا محمود، أنت لم تزرني منذ سنة تامّة، من مثل هذا العيد!؟

قلت له: صدقتَ، وها أنذا قد وصلتُك!؟

قال: هذا لا يكفي، فنحن ننتظر منك زيارة؟

قلت له: أنا في الحقيقةِ لا أزورك، حفاظاً على أُخوّتك؟!

قال: كيف هذا؟

قلت له: لا يخفى على مثلك شرحُها، أستودعك الله تعالى، والسلام عليكم.

فَهْمُ ذلك؛ أنّ الأخَ إذا كان:

(1) يعطي لنفسه من الحقِّ أن يتعالى عليك!

(2) أو يجادلُ لمجرد الجدال، حتى يخطّئ جميعَ الحاضرين، ثم لا يَطرحَ الصوابَ!

(3) أو يكابر، ويتظاهر بأنه لم يفهم ما تقول؛ ليعكّر المجلس، إذ يستهويه أن يلفت الأنظار نحوه.

(4) أو يكثر منه إهمالِك، وعدم الاكتراث بك!

(5) أو يتخلّف عن مواعيده، ولا يكاد يلتزم بشيءٍ منها!

(6) أو يستأذنك على الهاتف دقيقةً أو دقيقتين، فيغيب عنك نصفَ ساعةٍ أو أكثر!

(7) أو يستأذنك ويقول لك: سأعود بعد ربع ساعة، ثم يذهب فينساك، ويعبث على الإنترنيت ساعتين أو ثلاثَ ساعاتٍ، وأنت تنتظر عودته احتراماً لموعده معك!

(8) أو يقول لك: أستأذنك، وقد أتأخّر، ثم يغيب ساعة أو أكثر، فإذا رجع؛ استأذنك بالانصراف نهائيّاً!

(9) أو يقول لك: أريد التواصل معك بعد نصف ساعة، ثم يغيب ساعةً أو ساعتين، فإذا عاد؛ قال لك: ذهبت إلى الحلاق، أو إلى الخيّاط، فاستغرق ذلك وقتي.

ثمّ هو يكرّر هذه المنغّصاتِ، أو بعضها على الدوام، جملةً، أو على التتابع!

ففي بعض هذه الحالاتِ؛ من الأفضل أن تهجره هجراً جميلاً، فتبتعد عن طريقه، وتقطع علاقتَك معه، مع بقاء احترام الأخوّةِ، وتذكّره وذكره بالخير، والدعاء له.

هذا هو الهجر الجميلُ، الذي يضمن لك الاحتفاظَ بكرامتك، والإبقاء على صداقة أو مودة ذاك الأخر، بمفارقته من دون خصومةٍ ولا مضاربةٍ ولا شتائم!

بحيث إذا التقيتما في الطريق، أو في مناسبةٍ؛ تكون قادراً على إلقاء التحيّة عليه، أو ردّ تحيّته.

كان لي صديقٌ يكبرني بخمس سنواتٍ تقريباً، وبحكم تقدّمه بالسنّ عليّ؛ كان يتواقحُ عليّ، ويحاول تجهيلي وتخطئتي بالباطل، أو يقول لي: أنت صغير السنّ، لا يجوز أن تتكلّم إذا كان الكبار حاضرين!

نصحتُه وحذّرتُه أكثر من عشر مرّات، بأن يتركَ هذا السلوك السمجَ معي، لكن من دون جدوى!

زُرنا معاً قبرَ أحدِ مشايخنا رحمهم الله تعالى، وبدأت بقراءة شيءٍ من سور القرآن الكريم، وإذا به يرفع يديه إلى السماء، ويقول: الله ببركة هذا الشيخ يعني شيخنا المتوفى أصلح هذا الشيخ، وألهمه رشده، فهو جاهلٌ، ولا يعرف أنه جاهل، مغرور، وليس لديه شيءٌ يجلب له الغرور، مغفّل ويظنّ نفسه ذكيّاً، ودعواتٍ أخرى، لا أتذكّرها.

أراد مني أن أغادر معه، لكنني رفضتُ، حتى أنجز ما كنت قرّرت قراءته، وهبةَ ثوابه للشيخ الجليل المتوفى.

تركني وذهب، وحمدت الله تعالى على انصرافه؛ لأنّ نفسي ألحّت عليّ بضربه!

وأنا حين أنهيتُ تلاوةَ ما أردتُ تلاوتَه؛ انصرفت راجعاً إلى بيتنا.

ظهر أنّه انتظرني على الشارع العامّ، وأنا ظننته انصرف، فصرخ عليّ: «ولك وين رايح، العمى في قلبك، شو ما تفهم، وما عندك ذوق ولا تقدير»!    

لم أتحرّك من مكاني، حتى وصل قريباً مني؛ هجمت عليه، وصفعته عدداً من الصفعات على وجهه، ثم رفعته عالياً، وضربت به الأرض!

وقلت له: الآن لن أزيد على ذلك، لكنْ إن رجعتَ إلى سفهك القديم؛ فسأوجعك ضرباً، ليس في المقبرة، وإنما على باب المسجد!؟

إيّاك، ثمّ إيّاك أن تتطاول عليّ بحرف واحدٍ، فأنا لا أحترم إنساناً يتطاول عليّ حتى لو كان الشيخَ الذي كنّا نتقرّب إلى الله بزيارته!

ثمّ تركته وانصرفت، وغبتُ عن المسجد ثلاثةَ أيّام، حتى لا يعاتبني أحدٌ على ما جرى!

هل وصول الإنسانِ المسلم إلى أن يضربَ أخاه أفضل، أو الهجر الجميلُ أفضل؟

حدّثني أحدُ إخواني الشباب، قال: إنّ زوجتي كثيرة الضجر والشكوى، ولم يمض على زواجنا أكثر من سنة، وفي هذه السنة طلبت مني الطلاق أكثرَ من عشر مرّات!

قلت له: هل أنت كريم تنفق عليها بالمعروف؟

قال: إي والله!

قلت له: هل أنت رجل تراعي حقّها في المتاع؟

أخبرني بما يُوضح ذلك، وهو عندي صادق!

قلت له: كن حازماً معها، وقل لها من دون قسم: إن طلبت الطلاق مني مرّةً قادمةً؛ سأطلّقك فوراً!

لكنْ لو فعلت؛ فلا تطلّقها!

اختلفَتْ معه؛ فقالت له: كذا وكذا من هذه العيشة معك؛ طلّقني إذا أنت رجل!

راجَعَني في المسألة؛ فقلت له: هل هي في الدورة؟

قال: أجل !

قلت له: ليس لك سوى الصبر الجميل!

قال: هذا شيءٌ صعب، لم أعد أستطيع الصبر عليه، وهو يوفّزني !

قلت له: لم أقصد هذا !

اصبر عليها ما دامت في الدورة، فلا تقترب منها، ثم لا تقترب منها أسبوعاً كاملاً، حتى لو شتمتك وضربتك.

فإذا سألتك: لم تفعل بي هذا؟

فقل لها: الله تعالى أذن لي بهجرك، وأنا أمارس حقّي، ثمّ لا تكلّمها، ولا تأكل في البيت، ولا تشرب الشايَ في البيت، طيلةَ ذاك الأسبوع، وإذا طلبت منك زيارةَ أهلها؛ فلا تأذن لها!

قال: أليس هذا قاسياً زيادةً عن اللزوم؟

قلت له: هذا هو الصبر الجميل، فإمّا أن تصبر صبراً جميلاً، وإمّا أن تضرب زوجتك، والضرب لا ينفع مع كثيرٍ من الزوجاتِ، وإما أن تجد نفسك وقد طلّقت زوجتك الحمقاء، وهي لا تر غب بأكثر من إغاظتك؛ ليزداد اهتمامك بها !

صبر الرجل عليها حتى انتهت من دورتها، فتزيّنت، وتعطّرت، وأوت إلى فراشه، ولكنه صبرَ وصابر حتى انقضت ثلاث ليالٍ، وهي تصرخ وتبكي وتتجاهل سبب هجره لها، حتى قالت له: إذا كنت ستعاملني هكذا؛ فطلقني!

قال لها: سأظلُّ أهجركُ حتى تلغي هذه الكلمةَ من لسانك، مدى الحياة!

قال لي: مضى الأسبوع وهي متعجّبة من صبري، وبعد الأسبوع؛ قلت لها: لا تكلّميني أبداً، سأعاقبك مقابلَ كلّ مرّةٍ قلت فيها: طلّقني؛ أسبوعاً كاملاً من الهجران!

وإذا شئت الطلاقَ حقيقةً، أذهب معك إلى المحكمة الآن، حتى أطلّقك!

هيّا البسي ثيابك، حتى أطلّقكَ وأرتاح من عشرة امرأة تكرهني، وتكره الحياة معي!

رفضت الذهاب إلى المحكمةِ، فأصرّ عليها، فرفضت، فأصرّ عليها، حتى صارت تتوسّل إليه، وتعتذر، وعاهدته أنها لن تنطق تلك الكلمة بتاتاً!

عندها قال لها: لماذا كنت تكرّرين كلمة: طلّقني، وأنت الآن ترفضين الذهابَ إلى المحكمة؟

قالت: كنت أريد أن أعرف مكانتي عندك!

اتّصل بي، وقصّ عليّ ما سبق، وسألني ماذا يفعل الآن؟

قلت له: اهجرها ثلاثةَ أيّام أخرى، فإذا اقتربت منك، وألحّت؛ فاضربها على كتفها، أو على ساعدها، واجتب وجهها وبطنها وظهرها، وانظر ردة فعلها!

فعل الرجل ذلك، فبكت قليلاً، ثم جاءت تعتذر إليه، وتعاهده بأنها لن تتلفظ بتلك الكلمة أبداً، وقبّلت يديه ورجليه، بعدما كان هو يقبّل يديها!

هاتان صورتان من الهجر الجميل، وصورة من الهجر القبيح، فأيّ الصورتين تختار؟

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق