مَسائلُ حَديثيّةٌ (67):
قيمةُ صحيحِ البخاريِّ العلميّةُ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عقب قراءته منشورَ اليوم «أفراد البخاري
(1)» كتب إليّ أحد
الأصدقاء يقول:
ما قيمةُ صحيحِ البخاريِّ العلميّةُ، في نظرك»!؟
أجبتُه قائلاً: صحيح البخاريِّ أفضل كتابٍ بشريٍّ
على وجه الأرض!
قال: «حبّذا لو كتبت
لنا منشوراً، توضح لنا فيه هذه الدعوى، فليس من اليسير على عقولنا تصوّرها، قبلَ
التصديق بها»!!
أقول وبالله التوفيق:
إنّ القرآن العظيم كتاب إلهيٌّ، ليس لأحدٍ من
البشرِ تصرّفٌ بجملة منه، فهو فوق مقاصدِ كلامي السابق.
ولتتوضح لنا قيمةُ صحيح الإمام البخاريّ العلمية؛
علينا أن نسير بخطواتٍ تصاعديّة، في بيان ذلك!
أوّلاً: إنّ الدين هو أعظمُ منهاجٍ وبرنامجٍ في
حياة جميع البشر، حتى المشركون والوثنيون؛ فإنّ لهم مبادئَ ومعالمَ وقيماً
يقدّسونها، ويعدّونها نبراسهم في الحياة الدنيا، وسبيل سعادتهم، في الحياةِ
الأخرى، بعد الموت!
وبذلك تكون العلوم الدينيّة؛ هي العلوم الأرقى
والأعلى والأهمّ، من جميع ما يبتكره العقل الإنسانيّ، أو يكتشفه من علوم!
وإذا كان القرآن العظيم؛ هو الإطار العامُّ الشاملُ
لهذا الدين؛ فإنّ آياتِه معدودةٌ، وإنّ دلالاتها على المقاصد الدينيّة متفاوتةُ الغموضِ
والظهور.
ولذلك كانت سنّةُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله
وسلّم؛ هي البيان والتفصيل والشرح التطبيقيّ لهذه الآيات القرآنية الحكيمة، في
سائر شؤون الحياة الدينيّة، وما يتصل بها، من نظم فكريّة وفقهية وأخلاقيّة وسلوكيّة
وسلميّةٍ وحربيّة...إلخ!
ثانياً: لأسباب عديدةٍ، بعضها مقنعٌ، وبعضها ليس
كذلك؛ أعرض الصحابةُ بعد وفاة الرسول، عن تدوين سنّتِه وسيرتِه صلّى الله عليه
وآله وسلّم.
وحتى الإمامُ عليٌّ عليه السلام، الذي كان يؤمن
بضرورة كتابةِ العلم، ويأمر أولاده وتلامذته بالكتابةِ؛ إلّا أنّه لم يتمكّن من اتّخاذ
قرارٍ بتدوين السنة والسيرة النبويّة؛ لأسبابٍ عديدة، منها:
(1) عدم
وجودِ إجماعٍ من الصحابةِ على خلافتِه، بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه.
(2) وبسبب تعظيم الناس لسنّة عمر، الذي فتح
نصف العالم القديم، وملأ ديارَ الإسلامِ بالأموال والعبيدِ والجواري، وهذه مطامحُ
أكثر العرب في ذلك الزمان، وربما في كلّ زمان!
ومخالفةُ خليفةٍ حقّق كلِّ هذه المكاسب؛ ليس
أمراً يسيراً على سياسيٍّ يأتي بعده!
(3) وبسبب انشغالِه بتوحيد أقطار الدولة،
وإخضاع الخارجين على سلطانه من البغاةِ والمحاربين والمارقين!
(4) وربما لأنّه وجدَ قطارَ التدوين
الضروريّ والمفيد قد فات، إذ كان قد مات كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً من علماء الصحابة
وكبارهم قبل العام (35 هـ).
ثالثاً: بدايةُ التدوين على رأس المائةِ؛
ليست زماناً متأخّراً جدّاً، إذ كان المحدّثون الذين قاموا بالتدوين بتوجيه
الخليفة الأمويّ عمر بن عبدالعزيز، أو قبلَ توجيهه؛ هم من جيل التابعين الذين
عاصروا الصحابة وتلّقوا عنهم.
منهم مَن عاصرَ مائة صحابيّ، ومنهم من عاصر
خمسين، ومنهم من عاصر عشرة من الصحابة، ومنهم مَن لم يعاصر سوى صحابيّ واحد.
ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك:
عروة بن الزبير (ت: 93 هـ) له عددٌ من
الكتبِ، منها مغازي عروة.
روى عروة بن الزبير عن عدد كبير من
الصحابةِ، رضوان الله عليهم، منهم:
أسامة بن زيد بن حارثة.
وأبوه الزبير بن العوام
وأخوه عبدالله بن الزبير
وأمّه أسماء بنت أبي بكر
وخالته عائشة بنت أبي بكر
وجابر بن عبدالله الأنصاري
وغيرهم كثيرون.
ومنهم محمد بن مسلم ابن شهاب الزهريّ (ت:
124) له كتب عديدةٌ، منها مغازي ابن شهاب الزهريّ.
وقد روى ابن شهابٍ عن عددٍ من الصحابة،
منهم:
أبو أمامة أسعد بن سهل الأنصاريّ.
وأسماء بنت أبي بكر.
وأنس بن مالك بن النضر.
وجابر بن عبدالله الأنصاريّ، وغيرهم.
الذين يقعقعون ويجعجعون بأنّ تأخّر التدوين
مصيبة؛ هم لا يريدون أن يتعرّفوا إلى الحقيقةِ، إنما يريدون أن يشوّشوا عليها
لأمراضٍ في نفوسهم.
رابعاً: كان القرن الهجريّ الثاني كلّه
مرحلة جمعٍ وتقميشٍ فرديّ، قائماً على الاجتهاد الشخصيّ في تقويمِ الرواة، وقَبول
المحدّث رواياتهم.
وقد صنّف في القرن الثاني كثيرون، وكثيرون
جدّاً، منهم:
عبدالملك بن عبدالعزيز ابن جريج (ت: 150).
شعبة بن الحجاج (ت: 160).
سفيان بن سعيد الثوري (ت: 161 هـ).
مالك بن أنس (ت: 179 هـ).
وكيع بن الجراح (ت: 196 هـ).
سفيان بن عيينة (ت: 198 هـ).
وفي بداية القرن الثالث الهجريّ؛ كانت ثمّة
مصنّفاتٌ كثيرةٌ، لها مناهج في التصنيف متباينة، لكنّ أكثرها يُعنَى بالجانب
الحديثيّ من جهة، وبكثرة المجموع من جهة أخرى.
خامساً: كان أهمَّ ما تميّز به كتاب الإمام
البخاريّ:
(1) اقتصاره على الرواياتِ الصحيحةِ،
والصحيح في أنظار المتقدّمين يشمل الصحيح والحسن والجيّد، وواقعُ صحيح البخاريّ هو
كذلك!
ومَن يقول: ليس في البخاريّ سوى الصحيح
لذاته والصحيح لغيره؛ فهو لا يعرف صحيح البخاريّ، ولم يخرّج (100) حديثٍ من
أحاديثه جزماً!
(2) اختياره أفضلَ ما في الروايات المقبولةِ،
وتوزيعها في كتابه.
(3) إفادتُه من متونِ الأحاديثِ، بما لم
يُسبقْ إليه قطّ، ولا تبعه عليه أحد!
وفي منشور سابقٍ أوضحتُ أنّ البخاريّ قد لا
يخرّج الحديثَ إلّا في مكانٍ واحدٍ من صحيحه، وقد يخرّجه في موضعين، وقد يخرجه في
(3، 4، 5 - حتى 27 مرّة)!
فماذا يَصنع في هذا التكرار لحديثٍ واحد؟
الجواب: أنّه في كلّ موضع من المواضع؛ قد
يوضح شيئاً من علل ذلك الحديث، لكنه لا يكرّره إلّا من أجل توظيفه في أبواب الفقه،
إلى أقصى قدر ممكن!
سادساً: إذا قيل: إنّ في صحيح البخاريّ
أحاديثُ معلّة؛ قلنا: نعم، لكن كم هو عدد هذه الأحاديث المعلّة؟
وإذا قيل: أنت تقول: إنّ في أحاديث البخاريّ
الكثيرَ مما لا يبلغ درجة الصحيح؛ قلت: نعم، لكنّ أكثره يبلغ درجة الحسن لذاته،
والحسن لذاته يعمل به في الأحكام.
ولا تجد في صحاح أهل السنّة الأخرى (م، جا،
خز، حب، كم) كتاباً أكثرَ حديثاً صحيحاً، وأقلَّ حديثاً ضعيفاً، من صحيح الإمام
البخاريّ بتاتاً!
أمّا الكتب المعتبرة عند غير أهل السنّة، من
مثل «الكافي»
للكليني، و«من لا يحضره الفقيه» للصدوق، و«التهذيب» للطوسيّ، وكتب الزيدية، ومسند
الربيع الإباضي؛ فليس بينها وبين صحيح الإمام البخاريّ، في الصحّةِ نسبة ولا تناسب
أصلاً!
ويكفي أن تعلم بأنّ الشيعةَ الإمامية أنفسهم
يضعّفون أكثر من (70%) من ورايات أفضل كتاب روائيّ عندهم، وهو الكافي!
أمّا مسند الربيع؛ فهو تجميع رواياتٍ من
إنسانٍ جاهلٍ بعلم الحديثِ أصلاً!
وأمّا مسند الإمام زيدٍ عليه السلام؛ فلا
تثبت نسبته إليه، وإنّ راويَه الوحيد متّهم بالكذب ووضع الحديث!
ختاماً: أنا أنصح العلماءَ من فرقِ الإسلامِ
كلَّها، نصيحةً أبتغي بها وجهَ الله تعالى وخيرَهم، فأقول:
اجمعوا كتبكم الروائيّة كلّها في المكتبات
العامّة للاطلاع وأخذ العبرة، واعتبروها نماذجَ تعبّر عن ضعف مصنّفيها في علم
الحديثِ، وكرّسوا جهودكم لدراسةِ ونقدِ وتقويم أحاديث أحاديثِ صحيح البخاريّ، ثمّ
ما زاده مسلمٌ على البخاريّ، ثمّ ما زاده ابن خزيمة على البخاريّ ومسلمٍ، ثمّ ما
زاده ابن حبّان عليهم.
وقفوا هاهنا، ولا تتخطّوا صحيح ابن حبّان
إلى غيره أبداً.
ثمّ راجعوا كتبكم الفكريّة والفقهيةَ، في
ضوء ما صحّ لديكم من تلك الأحاديث!
ولا تلتفتوا إلى زيادات (حم، مي، جه، د، ت،
قط، هق) ولا إلى غيرها!
فضلاً عن تلك الكتبِ الروائيّة، لدى غير أهل
غير أهل السنّة، فهي لا تساوي الورقَ الذي طُبعت وتطبع عليه!
واللهُ تَعالى أعلمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق