بَعيداً عن السياسةِ (30):
ذكرياتي مع الإخوانِ المسلمينَ في سوريّا (1)؟!
بسم اللهِ الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
في حوارٍ مع أحدِ الإخوةِ السوريين القدماءِ، ممن
تركوا الإخوان المسلمين، في حدود عام (1975) قبل اعتقال شيخنا الشهيد مروان حديد
بقليلٍ.
قال لي: «بالله عليك يا شيخ عداب، ما الذي فعله لك
الإخوان المسلمون من الخير، حتى تدافعَ عنهم، والعالم كلّه ضدَّهم، عدّد لي أشياءَ
انتفعتَ بها منهم، في دينك أو دنياك»!
أقول وبالله التوفيق:
تَحسنُ الإجابةُ على هذه الاستفهاماتِ الإنكاريّة،
من زميلي القديمِ في الإخوان المسلمين، في فقراتٍ متواليّة وجيزةٍ، توضح المرادَ
بأقلِّ الكلمات.
أوّلاً: ذكرتَ أكثر من عشرين مرّةً على فضاءِ الفيس
بوك هذا؛ أنني عرفتُ الإخوانَ المسلمين، في بداياتِ الشهر العاشرِ من عام (1962م)
وكنت يومها في الصفّ الأوّل المتوسّط «السابع» وكانت مدرستنا تدعى مدرسةَ أبي
الفداء.
كان الأخُ غسّان بن عبدالسلام حمدون الواعي [ثمّ
الدكتور غسان، فيما بعد] يقيم محاضراتٍ إرشاديّةٍ ودعويّة لطلّاب المدرسةِ، في
جامع «الحسنين» المجاور لمدرستنا.
دعاني بعضُ شبابِ الإخوان المسلمين، إلى حضور واحدٍ
من دروس الأخ غسّان، فلم أجد في ذلك أدنى حرج، إذ كانت نشأتي دينيّة، ولديَّ
ممارسةٌ طويلة في حضور دروس القرآن والعلم، ربما من سنّ الخامسة من عمري.
عندما حضرتُ مجلسه الأوّل؛ حدّثنا عن حياةِ الصحابيّ
مصعب بن عمير، الشابّ المترف المنعَم، الذي ترك النعيم كلّه، والدلال كلّه، وآثر
الفقر والإهانةَ مع الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، على ذلك النعيم
كلّه!
كنّا صغاراً في الثالثةَ عشرةَ من أعمارنا،
فتأثّرنا كثيراً بما سمعناه من الأخ غسّان حمدون!
لكنّ تأثّري كان أكثرَ من الجميعِ، إذ ظللت أبكي
بدموعٍ غزيرة طيلةَ المحاضرة التي زادت على الساعة!
بعدَ هذا التأثّر؛ واظبت على دروس الأخ غسّان في
مسجد الحسنين، أكثرَ من شهرين، حتى أرشدنا إلى حضور دروس شيخنا وشيخ حماةَ، من دون
منازعٍ، الشيخ محمّد بن محمود الحامد رضي الله عنه.
والشيخ محمّد الحامد هو جارنا في السكن، بين بيتنا
وبيته خطواتٌ قليلة، وبيتي أقرب بيتٍ من بيوت تلامذة الشيخ إلى بيته على الإطلاق،
وكان بيت الشيخ بشير سلامة على بعد خطواتٍ من بيتنا!
ووالدُة الشيخ بشير، رحمه الله تعالى، بنت عمّنا،
من آل مرعي الكنعان.
استأذنت والدي لحضور دروس الشيخ محمّد الحامد -
لأنها كانت في الليل، ومحرّمٌ على أولاد الحاج إبراهيم الحمش الخروجُ من المنزل
بعد مغيب الشمس - فلم يأذن لي، وقال: أنت تركت الحضورَ على شيخيك عارف ونايف
النوشي السبسبي، وهما مجاوران لنا، ويمكنك الحضور عليهما في كلّ يومٍ، عقب عودتك
من المدرسة، وتختار مكاناً بعيداً، وفي الليل؟!
ألححت عليه ليأذن، فأصرّ ورفض!
استعنت عليه بجدّي الذي أذن لي؛ فلم أفلح!
استعنت عليه بابن عمّه شيخ آل كنعان، لكن من دون
فائدة!
فصرتُ أخرج من المدرسةِ إلى جامع السلطان مباشرةً،
دون الذهاب إلى البيت، أكتب هنالك واجباتي المنزليّة، وأراجع محفوظاتي من القرآن
العظيم، إلى أن يبدأ درس الشيخ محمّد رحمه الله تعالى.
فأحضر درسَه، ثمّ أصاحِبُ ولدَه الشيخ محمد الأمين،
حتى نصل إلى حيّنا، فيدخل هو إلى بيتهم، وأذهب أنا إلى بيتنا.
كان اليومُ الأوّل مِن أصعب وأقسى الأيام التي مرّت
عليّ في حياتي!
- أين كنت؟
- في درس الشيخ محمد الحامد!
- ألم أمنعك من ذلك؟
- بلى، ولكنّ جدي أذن لي!
- وهل جدّك وليُّ أمرك أو أنا؟
- بل أنت وهو!
كان والدي في ذلك الزمان أطولَ رجلٍ في مدينة
حماةَ، على الإطلاق، وكان هو الرجل الوحيد، حسبَ علمنا، الذي يلامس بطنُ كفّه
ركبته وهو واقف، وكان عرض كفّه مثل كتف خروف صغير، بينما كان طول كفّه (27) سم.
صفعني من بعيدٍ صفعةً، لم أُفق منها إلّا في صباح
اليوم التالي، حيث أيقظني، وأخذني معه إلى جامع «المرابط» إذ كان يؤدي صلاة الفجر ثمّةَ،
عند شيخي نايف النوشي!
عندما رجعتُ معه إلى البيت؛ قال لوالدتي: ابنك ميّت
من الجوع، أطعميه جيّداً!
سألتني والدتي: أين تغدّيت أمسِ؟
قلت لها: لم أتغدّ أبداً، وأنا دايخ يا أمي!
وضعت لي الطعامَ، ورحتُ أتناول طعامَ فطوري، ولست
بوعيي الكامل، وهي تنصحني بأن أطيع والدي، وإلّا فإنه سيقتلني حتى الموت!
قلت لها: ولماذا يقتلني، ما دمت أنا أحضر دروس
جارنا الشيخ محمد الحامد، فليذهب وليسأله!
قالت: والدك هكذا يا ابني، الله يرضى عنك، لا
يتحمّل أن يخالفه أحد، ألا ترى كيف يبطش بي، إذا خالفته ولو بأمرٍ يسير «نطبخ شوربة،
ولا مجدّرة»؟
قلت لها: ما دام هو يعلم أنني في درس الشيخ محمد
الحامد، وهو جارنا المعروف بتقواه وورعه، وما دام جدي أذن لي؛ فأنا سأحضر،
وليقتلني إذا شاء، فأذهب شهيداً.
قالت: يا ابني نحن وظّفنا لك شيخين جليلين الشيخ
عارف والشيخ نايف، ما الذي وجدته لدى الشيخ الحامد، وليس لديهما؟!
قلت لها: كلّ يوم «شوربة» كلّ يوم «مجدّرة» ألا
تملّين من ذلك؟!
قبل قليلٍ كنت تقولين: إنك تختلفين مع الوالد حتى
في اختيار الطبخة، لماذا؟
أليس لأنك مللت من الطبخة ذاتها!
قالت: واليوم ستحضر عند الشيخ محمّد؟
قلت لها: وكلَّ يوم سأحضر، إلى أن يقتلني والدي،
ويقول الناس: قتل ولده لأنه يحضر دروسَ شيخ صالح!
لم تردّ والدتي عليَّ، وعملتُ في اليوم الثاني؛ ما
كان في اليوم الأوّل!
بيد أنني عندما دخلت بيتنا؛ أحسست بدوار شديد،
وتقيّأت مادة مخاطيّة، فيها شيءٌ من الدم!
حملني والدي إلى غرفتنا، وراح يلمس بطني، ثمّ صرخ
على والدتي: هاتي له عشاءً، الولد ميّت من الجوع!
قبل تناول العشاء؛ سقوني كأساً من اليانسون، فنمت
إلى الصباح!
قبيل أذان الفجر بقليلٍ؛ أيقظني والدي، فصحوت
مرعوباً!
قال: قم تناول عشاءك!
تناولت قليلاً من عشائي؛ لأنني غير متوازن، ثم قمت
فتوضّأت!
أُذّن لصلاة الفجر وأنا أتوضّأ، فقلت لوالدي: لست
قادراً على الذهاب إلى المسجد، سأصلي هنا.
قال: جامع المرابط خطوتان، لا تستطيع الذهاب إليه،
وجامع السلطان ألف خطوة، وتذهب إليه نكايةً بوالدك!
ثم صفعني على طرفي خدّيّ صفعتين، فصحوتُ بعد أذان
الظهر!
دامت حالنا على هذا المنوال، حتى صيفِ عام (1963)
وقد نجحت من الصفّ السابع إلى الصفّ الثامن، وفي كلّ يومٍ أتناول طعامَ العشاء،
الذي هو في حقيقته الغداءُ والعشاءُ جمعَ تأخير، ثم يضربني حتى أنام!
في فصل الصيفِ؛ غدوتُ أعمل خبّازاً في فرن الحاج
«خالد المولوي» ويقال له «خالد عفشة» والمولوي نسبة إلى قبيلة الموالي العباسية.
فكان عليّ إذا انتهيت من عملي في الفرن؛ أن أذهب
إلى مزرعتنا التي تبعد قرابة ميلين عن الفرن، وأبقى هناك إلى قُبيل أذان المغرب،
ثم أغادر إلى بيتنا في حماة؛ لأنام استعداداً للعمل!
لكنني كنت أسرع ماشياً من مزرعتنا حتى جامع
السلطان، حيث أحضر درسَ الشيخ محمد الحامد، ثم أذهب إلى بيتنا.
لم أكن أستطيعُ النومَ، خشيةَ أن لا أستيقظ على
موعد العمل، في الواحدة، بعد منتصف الليل!
فكنت أسهر حتى موعد العمل، ثم أذهب إلى الفرن،
وعندما أنتهي؛ أذهب إلى المزرعة، وهناك أنام ثلاثَ ساعاتٍ أو أربع، ثمّ أقوم
بواجباتي في المزرعة، ثمّ أنزل إلى درس الشيخ في جامع السلطان!
استمرّت الحالُ هكذا، حتى فتحت المدارسُ أبوابَها،
فذهبنا إلى مدرستنا جوارَ جامع الحسنين، فوجدناها قد نُقلت إلى حيّ باب النهر!
يعني زيادةَ ميلين تقريباً عن المدرسة الأولى، فغدت
المسافة بين بيتنا في حيّ الفرّاية إلى مدرستنا الجديدة تزيد على أربعة أميالٍ
تقديراً!
وإلى لقاءٍ جديدٍ، أتناول فيه ذكرياتي مع الإخوان
المسلمين في سوريّا، إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى اللهُ على
سيّدنا محمّد بن عبداللهِ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق