مِنْ عِبَرِ التاريخِ:
ما قِصةُ صَبيغٍ ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا:
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين)
([1]).
سألني أحد
الإخوة قال: «قرأت في طبقات الشافعيين لابن كثير ما نصّه:
« قال أبو نعيم
بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي؛ أنّه سمع الشافعيَّ، يقول:
حُكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ» قال السائل:
مَن صبيغٌ هذا،
وما قصّته، وما علاقتُه بعلم الكلام،وما حُكمُ عمرَ فيه»؟
أقول وبالله
التوفيق:
بإسنادي إلى
الإمام مالك في الموطّأ - كتاب الجهاد (991) قال رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنِي ابْنُ
شِهَابٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا
يَسْأَلُ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَنْفَالِ؟
فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفَلِ، قَالَ القاسم:
ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً!
ثُمَّ قَالَ
الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟
قَالَ
الْقَاسِمُ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَتَدْرُونَ
مَا مَثَلُ هَذَا الرجلِ؟ مَثَلُ صَبِيغٍ الذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».
وهذا إسنادٌ
صحيح على شرط الشيخين.
فقصّة صبيغٍ
إذنْ صحيحة، فمن هو صبيغ؟
ترجمه
الحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 370) فقال: «صبيغ - بوزن عظيم - وآخره غينٌ معجمة،
ابن عِسْلٍ، ويقال بالتصغير «عُسَيلٍ» الحنظليّ له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة».
وأمّا
قصّته، فقد وردت من طرقٍ عديدة، صحيحةٍ وضعيفةٍ، ولنقتصر على بعض الروايات
الصحيحة.
قال الإمام
أحمد في فضائل الصحابة (717): حدثنا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ قال: أَتَى إِلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قومٌ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا
لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ؟
فَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ.
قَالَ:
فَبَيْنَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ يُغَدِّي النَّاسَ، إِذْ جَاءَهُ
وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَغَدَّاهُ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً،
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟
قَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟
فَمَالَ
إِلَيْهِ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ
عِمَامَتُهُ.
ثُمَّ قَالَ:
احْمِلُوهُ حَتَّى تُقْدِمُوهُ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ
لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغاً ابْتَغَى الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعاً
فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ» قال عداب:
إسناده صحيح.
وقال الدارميّ
في سننه (148): أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ - مَوْلَى عَبْدِاللهِ بنِ عمرِ؛ أَنَّ
صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي
أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ
فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ!
قَالَ عُمَرُ:
أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ، فَتُصِيبَكَ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ،
فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:
تَسْأَلُ
مُحْدَثَةً؟ وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا
حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً!
ثُمَّ تَرَكَهُ
حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ
لِيَعُودَ لَهُ!
فَقَالَ
صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلاً، وَإِنْ
كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي؛ فَقَدْ وَاللهِ بَرَأْتُ!
فَأَذِنَ لَهُ
إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا
يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ،
فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ!
فَكَتَبَ
عُمَرُ: «أَنْ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ»!
هذه خلاصةُ
قصّة صَبيغِ بن عسل!
وأمّا
تفسير صنيع عمر، رضي الله عنه؛ فقد قال أبو بكر الآجريُّ في كتاب الشريعة (1:
211): «فإن قال قائل: فمَن سأل عن تفسير (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ
وِقْراً) استحقّ الضربَ والتنكيل به والهجرة؟!
قيل له: لم يكن
ضرب عمر له، بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمرَ ما كان يَسألُ عنه مِن
متشابه القرآن، من قبل أن يراه؛ علم أنّه مَفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نَفْعًه،
وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجباتِ مِن علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم
سنن رسول الله أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه؛ سأل عمر اللهَ تعالى
أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يَحذَر غيرُه؛ لأنه راعٍ يجب عليه تَفقُّد رعيته
في هذا، وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه».
وقال
ابن بطّة الحنبليُّ في كتابه الإبانة الكبرى (1: 415):
«عسى
الضعيفُ القلب، القليل العلم من الناسِ، إذا سمع هذا الخبر، وما فيه من صنيع عمر، رضي
الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك، ما لا يَعرفُ وجهَ المَخرجِ عنه، فيُكْثِر هذا من فِعل
الإمام الهادي العاقل، رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاءُ مَن سأل عن معاني آيات من
كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحبَّ أن يعلم تأويلها؛ أن يُوجَعَ ضربًا، ويُنفَى،
ويُهْجَرَ ويُشْهَّرَ؟
وليس الأمر كما
يظنُّ مَن لا عِلم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس
كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويَفِدُونَ إلى خلفائه
بعد وفاته -رحمة الله عليهم- ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرةً في إيمانهم،
ويتعلَّموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم؛ فلما بلغ عمر-رَحِمَهُ الله- قدوم
هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا
يضره جهله، ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل
بعلم الفرائض والواجبات، والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر
-رَحِمَهُ اللهُ- أن مسائله غير هذا؛ علم من قبل أن يلقاه أنه رجلٌ بطَّال القلب،
خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه
أن يشتغل بمتشابه القرآن، والتنفيرِ عما لا يهتدي عقله إلى فهمه، فيزيغ قلبه،
فيهلك، فأراد عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن يكسره عن ذلك، ويذلَّه، ويشغلَه عن المعاودة
إلى مثل ذلك».
ختاماً: هذه
القصّة، كما وردت لدى أحباب عمر رضي الله عنه، ولكلِّ قارئٍ أن يفهمها كما يرى،
مراعياً في ذلك أنّ من مذهب عمر؛ الاقتصارُ على ما يترتّب عليه عمل، وعدم الخوضِ
فيما ليس تحته عمل!
وكان عمر لا
يسمح لكلّ أحدٍ أن يعظَ الناس في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا لمن
يأذن له هو.
والله تعالى
أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله
وصحبه وسلّم تسليماً.