تقويمُ الكتب الإسلامية (4):
نُزْهَةُ المُشتاقِ في عُلَماءِ العراق!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
«نُزْهَةُ المُشتاقِ في
عُلَماءِ العراق» كتابٌ متنوّع المضمونِ
الثقافيّ، صنّفه العلاّمةُ الشريفُ أبو البركاتِ محمّدُ بنُ عبدالغَفورِ الشاميُّ
الرَحَبيُّ، ثمّ البغداديُّ.
تُوفي بعد عام (1175 هـ) الموافق (1761م) رحمه الله
تعالى، ورضي عنه.
يقع الكتابُ في مجلّدين ضَخمينِ، تبلغ صفحاتهما (1474)
صفحةً من القطع الطباعي (17× 24).
قام بتحقيقه الباحثُ العراقيّ الدكتور مهديُّ بنُ
عبدالرزّاق «رزّاك» بن شاهدين الجُميليّ الأنباريّ، ونشرته مؤسسة
الفرقان للتراث الإسلاميّ عام (1443 هـ).
جُملةُ الكتابِ؛ ترجمةٌ أدبيّةٌ متميّزة
لثلاثةٍ وثلاثين عالماً ومفكّراً وأديباً، من علماءِ العراق، في مرحلةٍ مهمّةٍ من
مراحلِ الحياةِ السياسيّة في العراق، هي مرحلة حكم الوزير حسن باشا، الذي تولّى
حكمَ بغداد، عام (1116 - 1136هـ) وقد «عَمِد إلى ترسيخ سلطةِ الدولة، والنهوضِ
بالحكم، بعد حالةِ الضعفِ التي مرّ بها العراق عامّةً، ومرّت بها بغداد خاصّة.
وقد استمرّ ابنه أحمدُ باشا (1136 - 1160) على
نهج والده في إدارة البلاد، وسار على طريقته في الحكمِ والإمساك بزمام الأمور
هناك.
وكان ممّا تميّزت به إدارةُ حسن باشا، وابنه
أحمد باشا من بعده؛ اهتمامه وعنايته بالمساجد والزوايا والمدارس الدينية، إضافةً
إلى تقريبه العلماءَ وتقديرهم والاستعانة بهم في إدارة شؤون البلاد.
لذلك نشطت الحركة العلميةُ، وازدهرت مجالسُ
العلم والأدب في العراق عامّةً، وفي بغداد خاصّة، ونشطت حركة التأليف والتصنيف في
العلوم العربية الإسلامية.
وقد سار الولاةُ بعد أحمد باشا؛ على نحو سيرته
وسيرة والده في حسن إدارة البلاد وتقريب العلماء.
في هذه الأثناء؛ كتب الشريف الرحَبيّ كتابه نزهةُ
المشتاق هذا!
«كانت للمصنّف الرحَبيِّ طريقةٌ مبتكرةٌ في
تأليف كتابه النزهة هذا، إذ كان يجمع مع كلّ ترجمةٍ باباً ومَقامةً، وبثّ في
بواطنِه مادّةً أدبيّة كبيرةً، نثرها في التراجم والأبواب والمقامات.
وربما جعل الباب الواحدَ فصولاً مرتّبةً، وساقَ
في أثناء الترجمةِكتاباً، أو رسالةً، أو أشعاراً للمترجم أو لغيره، وربما راق له
أن يباريَه ويعارضَ شعرَه أو أبياته.
في ترجمة حسين أفندي زادهْ (ص: 1203) ابتدأ
ترجمتَه بأبياتٍ من شعره، يمدحه بها، ومطلعها:
مولىً له طبعُ نسيم الشمالْ // ولفظُه الدرُّ،
وسِحرُ الحلالْ
حوى النُهى والفضلَ والمجدَ والتقوى وحسن الظنّ
في كلّ حال.
إلى تمام خمسةِ أبيات.
ثم شرع في ترجمته النثريّة، فقال:
«هذا المولى؛ نسيجُ وحده في الفضائل، وعليه من
الثناءِ برودٌ من رقيق الغلائل!
تردّى السكينةَ والوَقارَ، وتأسّى بهداة
الأبرار...» إلى أن ختم ترجمته ببيتين من الشعر:
هو المطمح المأمولُ عندَ ابتهاجه
فطلعتُه يُمنٌ وغُرّتُه نَجحُ
لقد خامرت نفسي مُدامةَ حبّه
فعقليَ من سكرِ المُدامة لا يصحو!
ثمّ انتقل بعد الترجمة إلى الباب، فترجمَ:
الباب الثلاثون في الغنى والفقر!
وابتدأ هذا البابَ بسردِ حديثين عن النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم
أنّه كان يدعو، فيقول: (اللهم إني أسألك الهدى
والتقى والعفّةَ والغنى).
وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (نعم
العونُ على تقوى الله؛ المال).
ثمّ نقل نصوصاً من الحِكَم المأثورة في الباب
نفسه.
ثمّ عقد فصلاً بعنوان: صعوبةُ الفقرِ على ذي
همّةٍ وجود (ص: 1208)!
ثمّ عقد فصلاً آخر في مدح الفقر وذمّ الغنى (ص:
1210)!
ثمّ انتقل (ص: 1213) إلى «المقامَةُ الثلاثون»
وتُعرَفُ بالحُلوانية!
ومن المعلوم لدى أهل الأدبِ؛ أنّ المقامةَ تحكي
قصّة واقعيّةً أو متخيّلةً، يكون غرضُ ناسجها إظهارَ مقدرته الأدبيّة؛ أكثرَ من
محاكاةِ السَرْدِ للواقعِ، ومطابقته لحقيقة أحداث القصة أو الحدث!
قال الشريفُ الرحبيُّ:
«حدّثني الوالهُ الأبيّ، أبو البركات الحنفيّ،
فقال: هجرتُ الأوطان، وظَعنتُ إلى حُلوانَ، لدهرٍ نابني، وبسهم المصائب رماني،
فأصابني، فدخلتها وأنا مذعور، فألفيتها البيتَ المعمورَ، فأمنتُ فيها بوائق
الزمان، وطوارق الحدثان» وأجرى هذه المَقامةَ على لسان الغِنى والفقر، بأسلوبٍ
أدبيّ من السَجعِ، المعروف في المحسّناتِ اللفظية، من علم البديع البلاغيّ.
وكان عملُ المحقّق هادئاً رزيناً مقتصداً، غيرَ
مسرفٍ في التعليق، ولا مخلٍّ بحاجات التحقيق.
فعندما أورد الشريف الرحبيّ حديثَ (اللهم إني
أسألك الهدى والتقى والعفّةَ والغنى) كتب المحقّق الدكتور مهدي الجميليّ - وهو من
أهلِ الحديث - تخريجه بقوله:
أخرجه أحمد في مسنده (3692) وذكر مواضع أخرى،
والبخاريّ في الأدب المفرد (674) ومسلم في صحيحه (7003، 7004) وابن ماجهْ (3832)
والترمذيّ (3489) من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، مرفوعاً، والمؤلّفُ
الرحبيُّ إنما اقتبس الحديثَ من محاضرات الأدباء للراغب الأصبهانيّ (1: 582).
قال عداب: ولو كان المحقّق نقل حكمَ الإمامِ
الترمذيّ على الحديثِ؛ لكان أجودَ، بل هو الصواب!
ختاماً: الكتاب روضةٌ غنّاء، ولا يزال القارئ
فيه، ينعم بنزهةٍ رائقةٍ، مادام يتمشّى في ظلال أشجارها، وتداعبُ أجفانَه رقصاتُ
أفنانها.
وجهدُ المحقّق الفاضلِ؛ كبيرٌ كبير، فقد خدم
الكتابَ خدمةً تليق به، وأحسنَ أيّما إحسانٍ في تخريج أحاديثِه وتوثيق نصوصه
وأشعاره.
جزى الله مصنّفَ الكتابِ الشريفَ الرحبيّ خيرَ
الجزاء، وأجزل له وللعلماءِ والمفكرين والأدباء الذين ترجمهم في هذا الكتاب المثوبةَ
والأجرَ العميم.
وجزى الله محقّق هذا الكتاب، أخي وتلميذي
الدكتور مهدي شاهين الجزاء الأوفى.
والشكرُ الجزيلُ موصولٌ إلى دار الفرقان للتراث
الإسلاميّ، كفاءَ عنايتها واهتمامها بتحقيق وطباعة ونشر مثل هذا الأثرِ العلميّ
المفيدِ الماتعِ، في حُلّةٍ لافتةٍ قشيبةٍ، وتوزيع للنصّ بديع، وطباعة متقنةٍ لائقة!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق