بسم الله الرحمن الرحيم
مِن أوجاعِ كربلاء!؟
قبل
أنْ تقرأَ المنشور: لا يمثّلُ عداباً غيرُ عدابٍ، وهو لا يُمثّلُ غير نفسه!
إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ؛ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وصَفيُّه من
خَلْقِهِ وخَليلُهُ.
صلّى اللهُ تعالى عَلَيهِ، وعلى آلِه
الأطهارِ، وصحابتِه الأخيارِ، وزوجاتِه المنزّهاتِ عن الأغيارِ، وعلى ذرّيتِه
الصالحينَ الأبرار، الصائمينَ في النهار، القائمينَ بكتابِ اللهِ تعالى في الليل
والأَسْحارِ.
اللهمّ أحسن إلى مَن أحسنَ إلينا، وسامِحنا
وسامِحْ من أساء إلينا من المسلمين.
أما بعد:
يحسن أن ننقلَ وَصفَ الإمامِ الحسينِ بن
عليّ عليهما السلام، عن رجلٍ لا يُتّهم في ولائه لبني أمية!
قال الإمام الذهبي في النبلاء (3: 280):
(الحُسَيْنُ الشَّهِيْدُ أَبُو عَبْدِاللهِ
بنُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، الإِمَامُ، الشَّرِيْفُ،
الكَامِلُ، سِبْطُ رَسُوْلِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ،
وَرَيْحَانتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَحبُوْبُهُ) ولم يصف الذهبي أيّ متَرجَم بمثلِ
هذه الأوصافِ، سوى الحُسينِ عليه السلام؟!!
لم تكن نَهضةُ الحسين بن عليّ عليهما
السلام؛ نزوةً في نفس الحسين، ولم تكن شهوةَ حكم وسلطان، إنما كانت واجباً
شرعيّاً، وتكليفاً دينيّاً، كما كان يفهمه هو حينئذٍ، وكما يفهمه آل البيت
وأحبابُهم قديماً وحديثاً.
وحتى نصل إلى هذا الحكم؛ فلا بدّ من استعراض
سريع لحياة الإمام الحسين في ظلّ الأحداث المتباينة التي عَصفَت بالأمّة، منذ لحظة
وفاة الرسول صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَِ.
وسأشير إلى المحطّات الرئيسةِ إشاراتٍ
عَجلى، تفصيلُها في موضع آخر يحتملها، في معالم رئيسة:
المَعْلَم الأوّل: لمحة تاريخية حتى وقت
خروجه إلى العراق.
حين انتقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم
إلى جنان ربه تعالى في بداية عام (11 هـ) كان عمر الحسين (6- 7) سنوات، وهي سنّ
يحفظ مثلُ الحسين فيها أشياءَ كثيرة،
وكلّنا يتذكر في هذه السنّ وما قبلها عَشراتِ الحوادثِ، وخصوصاً الحوادثَ الحزينة.
عاصر الإمامُ الحسينُ وفاة جدّه المصطفى
صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَ، وافتقد حنانه ودلاله ورعايته المتميزة.
عاصر الإمام الحسينُ بكاء ونَدَبةَ والدته
سيدة نساء العالمين والدَها الرسولَ الأعظم، وقد أثّر في نفسه ذاك البكاءُ والحزنُ
العميق.
عاصر الإمام الحسينُ انزعاج والديه من
التصرفات الاضطرارية التي حصلت في سقيفة بني ساعدة، ما أدى إلى حدوث خلافٍ بين مَن
بايعَ أبا بكرٍ، وبين الإمامِ عليّ.
عاصر الإمام الحسين هجومَ عمر وبعض من معه
على بيت فاطمة، وتهديد عليّ والزبير ومن معهما بالقتلِ وإحراقِ البيتِ «وهذا أمر ثابتٌ من طرق عديدة» أمّا ضربُ فاطمةَ وإسقاطَ جنينها؛ فغير
ثابتٍ البتّة.
عاصر الإمام الحسينُ صرف أمّه فاطمة عن
حقوقها في ميراث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ووالداه يعتقدان أنّها حقوق
مشروعة لهم، مُنعوا منها باجتهادٍ خطأ.
عاصر الإمام الحسين وفاةَ والدته، التي أوصت
ألا يحضر دفنها أبو بكر ولا عمر، فدُفنَتْ ليلاً، ولم يخبرهما الإمامُ بوفاتها.
عاصر الإمام الحسين الفَلتةَ التي حَصلت في
سقيفة بني ساعدة، ما أدّى إلى صرفِ الخلافة عن والده، ووالداه وسائر بني هاشم في
ذلك التاريخ؛ يعتقدون أنهم أحقّ الناس بها.
عاصر الإمامُ حروب الردّة، وشاهدَ إحجام
والده عن المشاركة في أيّ معركة خارج المدينة فيها.
ولا ريب في أنه سأل والده: لماذا لمْ تُشارك
يا أبتاه؟ فعلم جواب والده المكتوم؟!
عاصر الإمام الحسينُ انتقالَ السلطة من أبي
بكر إلى عمر بولاية العهد، وعلم رأيَ والده بهذه المسألة.
في عهد عمر، وربما بعدَ العاشرةِ من عُمر
الحُسين؛ حضر مع والده إلى صلاة الجمعة في المسجد، فرأى عمر يخطب، فصعد إليه على
المنبر، وقال له: انزل عن مِنبر أبي، واذهبْ إلى منبر أبيك!
فأخذه عمر معه إلى بيته، وقرّره إن كان أبوه
علّمه أن يقول هذا؟
فلما حلف له الحسين أنْ لم يعلّمه أحد؛ علم
عمر أنّ بني هاشم يرون أنفسهم الأحق في قيادة الأمة، فاجتهدَ في صرفها عنهم، حتى
لا يكون الحكم في الإسلامِ وراثيّاً، أو ينحصر في أسرةٍ واحدةٍ، لكنه مهّد لقريشٍ
عامّةً ولبني أميّة خاصّةً، فجعل منهم ولاةً على الأقاليم المهمة.
وعمرُ يعلم علم اليقين أنّ الخلافةَ إن وصلت
إلى قريشٍ برضا الناس؛ فلن يتنازلوا عنها برضاهم، وجميعهم من الطلقاء الذين لا
يعلم إلا الله وحده مدى استقرار الإيمان في قلوبهم، وقناعتهم بهذا الدين!
وعاصر الحسين هذه المرة وهو شاب جلْدٌ، حين
فُتحت المدائن، وجاءت أحمال الذهب والفضة إلى المدينة (عام: 18 هـ) كيف أرسل عمر
لعليّ حذوةً من المال قائلاً له: واسِ به فقراء بني هاشم، فجاء إليه عليّ يحمل
المالَ، فقال: أهذا حَقّنا يا أميرَ المؤمنين؟
قال: هذه مواساةٌ يا أبا الحسن!
قال عليّ: إن لم يكن حقَّنا يا أمير
المؤمنين؛ فلا حاجة بنا إليه!
فأخذه منه عمر، ورماه في بيت المال.
قال عليّ: ثم لم يراجعني في الخُمس، هو ولا
مَن جاء بعده!
قال عداب: مَذهب أبي بكر وعمر وعثمان أنّ
الخمس للخليفة بعد الرسول وليس لآل البيت «طعمة للقائم بالأمر من بعد الرسول صلّى
اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَ،
يتصرّف به حسبَ اجتهادِه»!
وقد قال عمر قولته التي غدت قاعدة اقتصادية
كبرى: «أحقّ الناس بهذا المال أحوجهم
إليه، وأكثرهم عدداً».
ومن فَضل الله تعالى أنّ المذاهب الأربعة
السنيّة على خلاف أبي بكر وعمر وعثمان في هذه المسألة، وإن اختلفوا في التفاصيل،
بيد أنّ الواقعَ التطبيقيَّ ماضٍ على مذهبِ الخلفاء، فآل البيت على مدار تاريخنا
الإسلاميّ؛ يم يعطَوا حقّهم من الخمس قطّ، إنما كان بعض الملوكِ والسلاطين يخصّهم
ببعضِ حقوقهم!
وعاصر الإمامُ الحسين مسألةَ ترتيب عمرَ للشورى
بحيث يؤول الأمر إلى عثمان، ويُصرف عن أبيه عليّ.
وعاصر الإمام الحسين ظهور نجم الطلقاء،
واستيلاءهم على الأقطار، وشاهدَ جميعَ أعمال عثمان التي أنكرها عليه المسلمون،
والتي أودت بحياته غفر الله له.
غير أنه كوالده؛ كان يعرف قدرَ عثمان ومنزلتَه
في بني عبد مناف، وأنه قد كبر وضَعُف «جاوز
الثمانين» لذلك كان من أشدّ المدافعين عنه
في وجه المتمردين عليه، فالاجتهاد الخطأ؛ لا يبيحُ عند أهل البيت سفكَ دم المخطئ.
وعاصر الإمام الحسين استشهادَ سيدنا عثمان،
وإصرارَ المسلمين على بيعة والده، وتردُّدَ والده الإمام في ذلك طويلاً.
وعاصر نُكثَ الزُبيرِ بن العوامِ وطلحةَ بن
خُويلد؛ لأنّ عليّاً رفض توليتهما البصرة والكوفة، بعد وعدِهِ إيّاهما بذلك، وليس
لشيء آخر كما تذكر بعضُ كتبنا.
عقب إلحاحهما الشديد على إنفاذِ وعدِه؛ قال
لهما: «إني والله أجدُ من حرصكما على
الإمارةِ ما يمنعني من تأميركما، غفرَ الله لهما.
فاستأذناه من الغد في العمرة؛ فأذن لهما،
وقال: ما العمرةَ تريدان يا زبير!
وعاصر الإمام الحسين حروبَ والده منذ توليه
الإمامةَ وإلى لحظة استشهاده.
وعاصر الإمام الحسين انتقال السلطةِ إلى
أخيه الحسنِ، وبايعه، وأخلص له، وكان في جيشه الخارجِ إلى قتال معاوية وعمرو، وكان
متشوّقاً إلى قتال البغاةِ الظالمين.
ولم يكن راضياً قطّ عن الصلح الذي أبرمه
الحسن مع معاوية، وقال في هذا ما هو معروف: «إني لأرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه
الكفّ، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهادَ الظالمين».
ولم يكن الحسينُ يَعلم بهذا الحديث الذي
نقله أبو بكرةَ الثقفيّ بشأن الإمامِ الحسنِ بن عليٍّ عليهما السلام: (إنّ ابني
هذا سيّد، ولعلَّ الله تعالى أن يُصلح به بين طائفتين من المسلمين) أخرجه البخاريّ
والترمذيّ وقال: حسن صحيح.
ولم يكنْ هذا الحديثُ معروفاً بين أهل
البيت، وإلا لما أنكر الحسينَ على أخيه الحسنِ تنازلَه عن السلطة لمعاوية الباغي.
كان الحسينُ بن عليّ بعد استشهاد الحسن؛
يتوقع منزلته عند الله، ويحسن الظنّ به تعالى، ويَعرفُ مَنزلته عند المسلمين، وعند
البغاةِ الظالمين أيضاً.
أخرج الإمام عبدالله بن المباركِ في كتاب
الزهد له (1446) وابن أبي شيبة في مصنّفه (6: 200) والرامهرمزيّ في المحدّث الفاصل
(ص: 348) عن عمرو بن العاصِ قال عن الحسين: «هَذَا
أَحَبُّ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى
أَهْلِ السَّمَاءِ»
وأخرج ابن الأعرابيّ في معجمه (2205)
والطبرانيّ في الأوسط (3917) والبزار في مسنده (2632- كشف) وأورده الهيثميّ في
مجمع الزوائد (9: 177) وقال: «رَوَاهُ
الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، غَيْرَ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ،
وَهُوَ ثِقَةٌ» بإسانيدهم إلى
إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في
حلقة فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو، فمَرّ بنا حُسين بن عليٍّ، فسلّم،
فرد القوم السلامَ.
فسكت عبد الله بنُ عمرٍو حتى فرغوا؛ رفع
صوته وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته!
ثم أقبل على القوم فقال: ألا أخبركم بأحب
أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى!
قال: هو هذا الماشي، ما كلمني كلمةً منذ
ليالي صِفّين، ولأَنْ يَرضى عني؛ أحبُّ إلي من أن يكون لي حُمْرُ النَعَم .
فقال أبو سعيد: ألا تعتذرُ إليه؟ قال: بلى!
قال رجاء: فتواعَدا أن يَغْدُوَا إليه،
فغدوت معهما، فاستأذن أبو سعيد: فأُذِن له فدخل إلى منزل الحسين.
ثم استأذن عبدُاللهِ بنُ عمرو، فلم يزل أبو
سعيدٍ بالحسين حتى أذِن له.
فلما دخل؛ قال أبو سعيد: يا ابنَ رسول الله
إنّك لما مررت بنا أمسِ؛ قال عبدالله بن عمرو: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل
السماء؟
فقال حسين: أعلمتَ يا عبدَالله أني أحبُّ
أهل الأرض إلى أهل السماء؟
قال: إي وربِّ الكعبة!
قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي يومَ
صفين؟ فوالله لأَبي كان خيراً مني؟
قال: أجل! ولكنّ عَمْراً ـ يريد أباه ـ
شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن عبدَالله يقوم
الليل، ويصوم النهار!
فقال الرسول صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ
وسلَّمَ: (أطع أباك يا عبدَالله!).
قال عداب: فهم عبدُالله بنُ عمرٍو طاعةَ
أباه مطلقةً حتى في الظلمِ والبغي!
سبحان الله على عظمة هذا الفهم الراقي لابن
عَمرو؟!
وعاصر الإمام الحسين تعقّب معاويةَ لأنصار
عليّ، وقتلَ أشرافهم، من أمثال حجر بن عدي الكندي وأصحابه.
وعاصر الحسين حرمانَ بني هاشمٍ من حقوقهم
المشروعة، المالية وغيرها.
وعاصر تهديدَ معاوية له، إن هو فكّر بنقض بيعتِه
إيّاه، فكتب إليه الحسين:
«أتاني كتابك، وأنا بغير الذي بلغك عني جديرٌ، والحسناتُ لا
يَهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربةً، ولا عليك خلافاً.
وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك،
وما أعلم فتنةً أعظمَ من ولايتِكَ أمرَ هذه الأمّةَ».
فالحسين يرى ولايةَ معاويةَ فتنة كبرى، ويرى
جهاده واجباً شرعياً، سواء وافقه ابن عَمْرِو بن العاص، أم خالفه عبدُالله بن
عُمر.
وعاصر الإمام الحسين معركة أخذ البيعة ليزيد
بالترغيب والترهيب، ثم أخذها تحت شفار السيوف، وبالتالي لم يرَ بيعتَه ملزمةً
لأحد!
إنّ الحسينَ، شأنه شأن عليّ؛ لم يكن راضياً
تمام الرضا عن عصور الراشدين الثلاثةِ، على فضلِهم وصلاحِهم واجتهادهم في مصالح
الأمة...
فكيف يرضى عن معاويةَ الطليقِ ابن الطليقِ
الذي ساهم في مقتل عشرات الألوف من المسلمين؛ ليكون ملكاً عليهم؟
لكنّ مثل الحسين، بل مَن هو دون الحسين في
الدين والفضل والعلم؛ لا يمكن أنْ يَنكُثَ بعهدٍ قطعه على نفسه، كما لم يكن ليهيئ
نفسه لما سيحدث بعد وفاة معاويةَ؛ لأنه كان يرى ذلك نقضاً للعهدِ والبيعةِ!
لمات مات معاوية، وطُلب لمبايعة يزيدَ
الفاسقِ الفاجر، صاحب الأخبار الساقطة المشهورة؛ رأى أنه لا يحلّ له شرعاً مبايعةُ
هذا الفاجر الفاسق!
وغدا تكليفُه الشرعيّ أن يقوم بواجب
الإصلاح، وإعادةِ الأمور إلى مسارها الشرعيّ الصحيح.
في مكّة المكّرمة، قبل مغادرة الحسين إلى
العراق؛ كان الوضعُ العامّ على النحو الآتي:
أوّلاً: لم يكن لدى الحسينِ في مكّة قوّةٌ
تحميه، وكان والي مكة يلحّ عليه بالبيعة أو اتّخاذِ إجراءاتٍ في حقِّه «البيعةَ أو القتلَ»!
ثانياً: لم يكن الحسينُ يجوّز لمن كان في
موقعه الدينيّ والاحتماعيّ أن يبايع فاسقاً فاجراً جاهلاً، خليفةً على أمة
الإسلام.
ثالثاً: لم يكن الحسين واثقاً تماماً من أهل
الكوفةِ، في تلك الأيّام، ولم يكن مَخدوعاً بهم قط، لكنه كان في موقف لا يحسد
عليه:
فهو لن يبايع ليزيدَ؛ لأنه لا يجوز له ذلك
في اجتهاده.
وهو يرفض الإلحادَ في الحرم، كما فعل ابن
الزبير فيما بعد.
وهو لا يقوى على مُقاتَلةِ جَيشِ والي مكة،
إذا هو خرج إلى الحِلّ!
فلم يكن أمامه سبيلٌ سوى الخروجِ إلى
العراق، فلربما صدق أهل الكوفةِ معه، بعد أن تيقنوا بفساد يزيدَ؟!
فإنْ تحقّق له ما أرادَ، وإلا فهو لا
يستبعِدُ الشهادةَ ولا يأباها أبداً!؟
مَن كان يظنّ الحسينَ ساذجاً، لا يَعرف
جميعَ ما يعرفه عبدُالله بن عباس وعبدُالله بن عُمَر، وعبدُالله بن الزبير، ومن
معهم من صغار الصحابة وكبار التابعين؛ فهو لا يعرف الحسينَ «الشريفَ الكامل»!! كما وصفه الذهبيّ.
وقد كُنتُ إلى فترةٍ قريبة أقول: إذا كنتَ
خارجاً إلى مصرعك في العراق، فلم تُعرّضُ أهلَ بيتك وصغارَك إلى تلك الفاجعة
المحزنة، بل المرعبة؟
لماذا لا تَخرجُ وحدَك، بعد أن تحقّق لديك
أنْ لا مناص من الخروج؟
أقول: كأنّ الحسينَ كان يتصوّر أنه سيصل إلى
الموضع المناسب لسكنى أهله وأمنِهم في العراقِ، ولم يكن يتصور لدى أهل الكوفة كلَّ
تلك الحقارة والسقاطة.
إنّ الحسينَ؛ لم يُمكّن من دخولِ الكوفة،
وإنما فوجئ بجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص يَقطع عليه الطريق في أربعة آلاف فارس!
وحتى في تلك الحال؛ كان الحسين يَفهم أنه
مطلوبٌ ليزيدَ الأعرابيّ الفاسق، ولابن مَرجانَةَ الوَغْد.
لكنْ لا أظنّ فارساً في مثل موقع الحسين؛
يتبادر إلى ذهنه أن هؤلاء الفجرة قد مرقوا من الدين مُروقاً تامّاً، أو ربما لم
يكن لهم دين أصلاً!
وهبْ أنهم كذلك، لكنّ مِن أدنى أخلاقِ
الفروسية وقيمها؛ ألا يتطاول الفارس على النساء والأطفال الصغار.
وكوكبة يسيرة العدد لا تصل إلى (100) إنسان،
ليس من أخلاق الفروسية أن تُحرم حتى من ماءٍ للشرب، ومن ماءٍ للوضوء.
جيش عمر بن سعد النواصب؛ شراذم من المتوحشين
الأنذال، ابتُلي بهم الحسينُ وأهلُ بيته عليهم السلامُ، فكانت فاجعةُ كربلاء.
أجلْ كانت فاجعةُ كربلاءَ مصيبةً من أعظمِ
مصائبِ أهل الإسلام، ونحن عندما نحيي ذكراها الحزينة؛ إنّما نفعل ذلك لتذكير بعضنا
بعضاً بأنّ الحقَّ يحتاجٍ إلى قوّةٍ مؤمنة به، ويحتاجُ إلى قدراتٍ تستطيعُ أن
تطيحَ بالظالمين ذوي الأهواء، وتستطيعُ أن تمكّن لدين الله تعالى بين المسلمين.
ختاماً: ليس تَجديدُ اﻷحزانِ من معالم
اﻹسلام، وﻻ من شريعة سيد اﻷنام، وﻻ كان مما يفعلُه اﻹمامُ عليُّ بن أبي طالب
والإمام الحسين، عليهما أزكى السلام.
ليست هذه المواكب (الحسينية) تدل على شيء
سوى الفوضى والتخلف العقلي والسلوكي.
ليس هذا التطبيرُ المجنون، سوى ظلم للنفس،
وتحميلها من العذابات واﻵﻻم ما ﻻ تطيقه، وإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ﻻ
يرضى بهذا، وقد بيّن لنا أوضحَ بيانٍ أنّ تعذيبَ النفسِ منهيّ عنه.
فقد أخرج البخاريّ (1865) ومسلم (1642) أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ
ابْنَيْهِ، قَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ!
قَالَ الرسولe: (إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ
لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).
ربما كانت هذه المظاهر توظف توظيفاً سياسيّاً؛
لتتماسك الطائفة، وتظهر قدرتَها على الدفاع عن نفسها، ولم يعد لها اليوم من حاجة
البتة.
لو أنّ المسلمين صاموا «تاسوعاء وعاشوراء» وتذكروا عطشَ الحسين، وظلمَ الظالمين
السفلة الذين حكموا اﻷمة قروناً، فكانت تلك الذكرى تصميماً وعهداً منهم ومنّا أنْ ﻻ
نركن إلى الظالمين، أليس هو اﻷولى واﻷكرم؟
لو جلسنا في يوم عاشوراء وقرأ كلُّ واحد منّا
(100) آيةٍ، وأهدى ثوابها إلى الرسول وأهل بيته عليهم السلام والبركات، أليس ذاكَ
هو الدينَ والعقلَ والحكمة؟
أرجو أن تُعرضوا عن هذه الظواهر والمظاهر،
وأن تستبدلوها بخير منها.
كما أرجو أن تتفهّموا أسبابَ نهضة الحسين،
وأن تكون نبراساً للنهضة ضد الظلم، سواء كان سنيّاً، أم كان شيعيّا، أم كان
علمانيا وضيعاً.
والله يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين، وعظّم
الله أجورَكم بكلِّ مصابٍ أصيبَتْ أو تُصابُ به الأمةُ.
والحمد لله على كل حال.