الجمعة، 10 يناير 2025

  مَسائل فكريّة:

المُحْكمُ والمتشابه في القرآن الكريم!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: (قرأتُ لك مرّةً كلاماً قلت فيه: «ليس في القرآن كلامٌ لا يُفهم، وما كان الله تعالى ليخاطِبَ عباده بكلام يتعبّدهم بتلاوته، وهم لا يفهمونه» مع أنّ  القرآن الكريم ذاته ينصّ على وجود المحكم والمتشابه فيه، حبّذا لو تشرح لنا هذا الكلام، خاصّةً وأنّ السلفيّة يعتقدون بظاهر الأحاديث المرويّة في الصفات، وفي ظواهر بعضها تجسيم محضٌ وتشبيه واضح) انتهى.

أقول وبالله التوفيق: تَبيّن لي بعد هذا العمر العلميِّ الطويلِ؛ أنّ الأمّةَ كلّها «سلفيّة» وليس الحنابلة وحدَهم سلفيين، فالجميعُ لهم أسلافٌ يعظّمونهم!

والكاتبُ إذا عبّر عن رأيِه بكلامٍ ينقلُه عن متقدّمٍ في الزمان؛ يتقبّله الناسُ أكثرَ ممّا لو صاغه هو بأسلوبه وبيانه.

وقد اطّلعتُ على أكثرِ التفاسير المطبوعةِ، وقرأتُ عدداً منها، فأعجبتُ منذ العام (1976) بكتابِ «مفاتيح الغيب» المشهور بتفسير الرازي، وهو أوّل تفسيرٍ قرأته كاملاً في ذلك العام والذي يليه، عندما كتبتُ كتابي «القرآن الكريم ودعاوى النسخ فيه».

وقد مضى قُرابةُ خمسينَ سنةً على هذا التاريخ، وما يزال هذا التفسيرُ ضمنَ التفاسير الخمسةِ الأوائلِ، اعتماداً مني!

عند تفسير قول الله تبارك وتعالى:

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ:

مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؛ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) [سورة آل عمران]. 

قال الإمام محمدُ بن عمر الرازي (ت: 606 هـ) رحمه الله تعالى في تفسيره مفاتيح الغيب (7: 137): « فَبَيَّنَ اللهُ تَعالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحْكَمٍ، وَعَلَى مُتَشَابِهٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْمُتَشَابِهَاتِ؛ غَيْرُ جَائِزٍ، فَهَذَا مَا يتعلق بكيفية النظم، وهو فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِاسْتِقَامَةِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ.

(1) أمّا ما دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ؛ فَهُوَ قَوْلُهُ تعالى:

(ألَرَ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يُونُسَ: 1] و(ألَرَ كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هُودٍ: 1]. فَذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ أَنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَوْنُهُ كَلَاماً حَقّاً، فَصِيحَ الْأَلْفَاظِ، صَحِيحَ الْمَعَانِي.

وَكُلُّ قَوْلٍ وَكَلَامٍ يُوجَدُ؛ كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِي فَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وَقُوَّةِ الْمَعْنَى.

وَلَا يَتْمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِتْيَانِ كَلَامٍ يُسَاوِي الْقُرْآنَ، فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْبِنَاءِ الْوَثِيقِ وَالْعَقْدِ الْوَثِيقِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ حَلُّهُ؛ مُحْكَمٌ.

فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِ جَمِيعِهِ بأنه محكم.

(2) وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ؛ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزُّمَرِ: 23].

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً فِي الْحُسْنِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ؛ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النِّسَاءِ: 82].

أَيْ: لَكَانَ بَعْضُهُ وَارِداً عَلَى نَقِيضِ الْآخَرِ، وَلَتَفَاوَتَ نَسَقُ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالرَّكَاكَةِ.

(3) وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ؛ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).

 وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا فِي عُرْفِ

الشَّرِيعَةِ:

أَمَّا الْمُحْكَمُ «في اللغة» فَالْعَرَبُ تَقُولُ:حَاكَمْتُ وَحَكَّمْتُ وَأَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ، وَمَنَعْتُ، وَالْحَاكِمُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ عَنِ الظُّلْمِ وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ الَّتِي هِيَ تَمْنَعُ الْفَرَسَ عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَبِنَاءٌ مُحْكَمٌ: أَيْ وَثِيقٌ يَمْنَعُ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ.

وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي.

وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ «في اللغة» فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُشَابِهًا لِلْآخَرِ، بِحَيْثُ يَعْجِزُ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ بَينَهما، قَالَ اللهُ تَعَالَى «حكايةَ قول بني إسرائيل لموسى»: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [الْبَقَرَةِ: 70] وَقَالَ فِي وَصْفِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [الْبَقَرَةِ: 25].

 أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ، مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [الْبَقَرَةِ: 118] وَمِنْهُ يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيهِ الْأَمْرَانِ، إِذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا».

ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ؛ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، سُمِّيَ كُلُّ مَا لَا يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ بِالْمُتَشَابِهِ، إِطْلَاقاً لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْكِلُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ، أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَهُ وَشَابَهَهُ.

مِن ثَمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مَا غَمُضَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُمُوضُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ - مُشْكِلٌ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْحَقَّ ثُبُوتُهُ أَوْ عَدَمُهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِعَدَمِهِ فِي الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ، وَمُشَابِهًا لَهُ، وَغَيْرَ مُتَمَيِّزٍ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَزِيدِ رُجْحَانٍ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ.

فَهَذَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ.

وقال أيضاً: «النَّاسُ قَدْ أَكْثَرُوا مِنَ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْوَجْهَ الْمُلَخَّصَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، ثُمَّ نَذْكُرُ عَقِيبَهُ أَقْوَالَ النَّاسِ، فِيهِ فَنَقُولُ:

اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُحتمِلاً.

فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعاً لِمَعْنىً، وَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلاً لِغَيْرِهِ؛ فَهَذَا هُوَ «النَّصُّ».

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ.

فَإِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحاً عَلَى الْآخَرِ؛ سُمِّيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِراً، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْجُوحِ مُؤَوَّلًا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ؛ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا مَعاً مُشْتَرِكاً.

وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ مُجْمَلاً

فَقَدْ خَرَجَ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصّاً، أَوْ ظَاهِراً، أَوْ مُؤَوَّلاً، أَوْ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلاً.

أَمَّا النَّصُّ وَالظَّاهِرُ؛ فَيَشْتَرِكَانِ فِي حُصُولِ التَّرْجِيحِ، إِلَّا أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ الْغَيْرِ، وَالظَّاهِرُ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْغَيْرِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ المسمى بالمحكم.

وَأَمَّا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ؛ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ رَاجِحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحاً؛ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْمُؤَوَّلُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاجِحٍ؛ فَهُوَ مَرْجُوحٌ، لَا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَرِدِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمُسَمَّى المتشابه؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي

الْقِسْمَيْنِ جَمِيعاً.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُتَشَابِهاً: إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ؛ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشَابِهاً لِلْإِثْبَاتِ فِي الذِّهْنِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشَابُهُ؛ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ.

فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إِطْلَاقُه لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ.

فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُحَصَّلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ» انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.

أنا أعلمُ أنّ المحكمَ والمتشابهَ من مباحثِ أصول الفقه، بيد أنني آثرت نقلَ كلام الرازيّ؛ لأنّه مفسّرٌ أصوليّ.

ومشكلةُ سلفيّةِ اليومِ؛ لا تكمنُ في جعل ما سبقَ إلى فهم العوامّ في اللغةِ نصّاً وظاهراً فحسب، إنّما هي متعدّدة الجوانبِ:

الجانبُ الأوّلُ: إنّ السلفَ الصالح - وحتى أحمدُ ابنُ حنبلٍ - لم يقولوا أبداً أبداً أبداً: إنّ الكلامَ الواردَ في الحديثِ؛ يُفهم على ظاهره المتبادَر للعوامِّ وغير العوامّ!

إنّما قالوا: «أمّرها كما جاءت» و«أمرّوها كما جاءت» و«قراءتها تفسيرها» وعن أحمدَ نفسه: «هي كما جاءت ولا كيف ولا معنى» كما في إبطال التأويلات، رقم (9)!

وهذا يعني أنّ مذهبَ السلفِ عدمُ تفسيرِ هذه الأحاديثِ، وعدُّها من المتشابه!

الجانبُ الثاني: أنّ سلفَ الحنابلة ضعفاءُ في الحديثِ، حتى أحمدُ نفسُه لم يكن في الطبقة الأولى من نقّاد الحديث، باعتراف نفسه!

فقد قال ابن حبّان في مقدمة المجروحين (1: 52) ونقله ابن رجبٍ في شرحه على علل الترمذيّ (1: 486): (130) سمعت علي بن أحمد الجرجاني بحلب يقول: سمعت حنبل بن إسحاق بن حنبل يقول: سمعت عمي أحمد بن حنبل يقول: أحفظنا للمطوّلات الشاذكوني، وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن المديني، وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقههم».

وقد صحّح الإمامُ أحمدُ أحاديثَ؛ لا تصحّ بحالٍ من الأحوال!

ويكفي أنّه يذهبُ إلى القولِ بأنّ الله تعالى يقعد نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلّم معه على العرش يوم القيامة!

وليس في هذا حديثٌ صحيح مرفوعٌ، ولا أثرٌ موقوفٌ، إنّما هو قولٌ يُنسب إلى مجاهد بن جبرٍ (انظر كتاب السنة لأبي بكر الخلّال (1: 211).

والناظرُ في كتابِ السنّة لعبدالله بن أحمدَ؛ يجد بلايا وطامّات، وأقبح منه كتاب «إبطال التأويلات» لأبي يعلى الفرّاء القاضي، فقد أورد فيه أحاديث منكرةً وموضوعة!

الجانب الثالث: أنّ أكثرَ الأحاديثِ الواردةِ في الصفاتِ، رُويت بالمعنى الذي فهمه الراوي، وما دامت الرواية بالمعنى كانت هي السائدةَ، حتى لدى أكثرِ الصحابة رضي الله عنهم، فكيف نعتقد بما نقلوه، وأكثرهم ليسوا بعلماءَ ولا فقهاء، وفي أمورِ الاعتقاد؛ يتعيّن أن يكون ناقلُها حافظاً وفقيهاً بآنٍ واحد؟

وإلّا فما معنى تأكيدِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم على ضرورةِ نقلِ كلامه بلفظه؟

حيث قال: (نَضَّرَ اللهُ امْرَأً، سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ، حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ، لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (21590) من حديث زيدِ بن ثابتٍ مرفوعاً، وإسناده صحيح، وشاهده عند أحمد أيضاً (4157) من حديثِ عبدالله بن مسعود، وينظر تخريجهما ثمّة.

الجانب الرابع: أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم أفصحُ العربِ، وهو قد استعمل المجازَ والكناية في كلامِه، من مثل قوله: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) أخرجه البخاريّ (2887).

لا يخفى على مسلمٍ أنّ المسلمَ لا يعبد الدينارَ ولا الدرهمَ ولا القطيفةَ، إنّما المعنى أنّ هؤلاء حريصون على متاع الدنيا وزينتها.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري (4510) ومسلم (1090) عن عديّ بن حاتم الطائيّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ، مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، أَهُمَا الْخَيْطَانِ؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ)!

 ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ).

ولفظ مسلم: (إنّ وِسادك لعريضٌ) وكلا اللفظين كنايةٌ عن الغفلةِ والغباوة وقلّةِ الفطنة، كما في فتح الباري (4: 133).

قال الحافظ ابن حبّان في خطبة المجروحين: «الجنس الرابع: الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه؛ لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأن الحفّاظ الذين رأيناهم أكثرُهم كانوا يَحفظون الطرقَ والأسانيدَ دون المتون، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها، وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة، حتى كان السنن كأنها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمة الله عليه فقط!

فإذا كان الثقة الحافظ، لم يكن بفقيهٍ، وحدث من حفظه؛ ربما قلب المتن وغير المعنى حتى، يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويُقلَب إلى شيء ليس منه وهو لا يعلم!

فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته إلا أن يحدث من كتاب أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار.

والجنس الخامس: الفقيهُ إذا حدّث من حفظه وهو ثقة في روايته، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره؛ لأنه إذا حدث من حفظه فالغالب عليه حفظ المتون دون الأسانيد، وهكذا رأينا أكثر من جالسناه من أهل الفقه كانوا إذا حفظوا الخبر لا يحفظون إلا متنه، وإذا ذكروا أوّل أسانيدهم؛ يكون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يذكرون بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا.

فإذا حدث الثقةُ الفيهُ من حفظه؛ ربما صَحّف الأسماءَ وأقلَبَ الإسناد، ورفع الموقوف وأوقف المرسل، وهو لا يعلم؛ لقلة عنايته به، وأتى بالمتن على وجهه.

فلا يجوز الاحتجاج بروايته إلَّا من كتابٍ، أو يُوافق الثقاتِ في الأسانيد.

وإنما احترزنا من هذين الجنسين؛ لأنّا نقبل الزيادةَ في الألفاظِ، إذا كانت من الثقات، وهذه مسألة طويلةٌ، غيرُ هذا الموضعِ بها أشْبَهُ» انتهى كلامه.

وإذْ إنّ الإدارةَ السياسيّةَ في بلدنا سوريّا، تنتهج المنهج السلفيَّ؛ فيتعيّن عليّ أن أوضحَ لهم ولكم أنّ مذهبَ الحنابلةِ في صفاتِ الله تعالى خاصّةً؛ ليس هو المنهجُ الأفضل، حتى لا يشدّوا على الناسِ في سوريّا؛ باعتقادهم أنّ هذا هو الحقُّ، الذي لا حقَّ سواه.

واللهُ تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

  مسائل حديثية:

مَنْ خلَقَ الله تَعالى؟!

بِسمِ الله الرَحمنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتب إليّ أحدُهم يَقول: يبدو أنك - شيخَنا - آثرت الكلامَ في السياسةِ، وأعرضتَ عن المنشوراتِ العلميّة عامّةً، والحديثيّة النقديّة الممتعةِ خاصّةً!؟

ولأنني أعرف أنّك تجيبُ السائلَ؛ أسألُ عن حديثين غريبين جدّاً:

الأوّل: حديثُ مَنْ خلَقَ الله تَعالى؟!

والثاني: حديثُ (الوسوسة من الإيمان)؟

فهل هما صحيحان، وإذا كانا كذلك، فما معناهما، وهل قول أحدنا: (آمنت بالله) وقوله (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) جوابٌ يدفعُ ما في النفس، وهل يقنع المبتَلَى؟

أقول وبالله التوفيق:

من آدابِ العلمِ أنْ تقدّمَ الموعظةَ والنصيحةَ والفقهَ الأقربَ إلى النازلةِ أو الحدَث، ويدعى هذا (أدب الوقت)!

وقد مضى علينا معشرَ السوريين إحدى وستّون سنةً، ونحن مبتلَوْن بهذا النظام البعثيّ القُرمطيِّ المجرم، أفسدَ فيها أخلاقَ الناسِ، وحاول إبعادَهم عن دينهم وقيمهم ومكارمهم، أمضيت أنا منها خمسين سنةً في الغربة، ومضى عليَّ اثنان وعشرون عاماً، لم أرَ بناتي ولا أولاهم، فطبيعيٌّ أن تتوجّه اهتماماتي إلى هذا الجانب الذي كان مظلماً في حياتنا، والذي فقدنا فيه أكثر من عشرين شابّاً من أسرتنا الصغيرةِ (آل الحمش) منهم أخواي: الشهيد غازي، والشهيد غسّان.

ومنهم ولدي الشهيد عليّ بن عداب!

فالذي يحسب الفقيرَ عداباً مرتاحاً، يعيشُ حياةً طبيعيّةً سعيدةً؛ فهو واهمٌ!

أنا أحمدُ الله تعالى وأشكره حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، قبل أن أقول:

إنني وأسرتي الخاصّة - آل عداب - نعيش حياةً قاسيةً صعبةً، من جهةِ التشرّد في بقاع الأرض، ومن جهةِ وجود الأعمالِ المناسبةِ لمعاشنا ونفقاتنا!

ومن لطفِ الله تعالى بي؛ أنني أنسى هذا كلَّه، عندما أتوجّه إلى الكتابة، لكنْ لا بدّ من ظهورِ أثر الحزن والحدّةِ على كتاباتي!

إنّ تخريج الحديثِ الذي أضعه أمامك - أيها الأخُ الكريم - هو ملخّصُ جهدٍ مضنٍ، قد يستغرق تخريجُه ونقده أيّاماً، وقد أكتب فيه عشر صفحاتٍ أو أكثر!

ولتصوّر ذلك لديك؛ أخبرك بأنّ بين يديّ أطروحةً علميّة (دكتوراه) صفحاتها (948) صفحةً، درسَ فيها الباحثُ خمسةً وسبعين حديثاً، استغرقت ثلاثَ سنواتٍ من حياته.

أمّا الكتابات التوجيهية والإرشادية والاجتماعية؛ فلا يستغرقُ كتابةُ المنشورِ منّي أكثرَ من ساعةٍ، في معظم الأحايين!

بعد هذا أخرّج لك الحديثين:

أوّلاً: بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الاعتصام بالسنّة، باب ما يُكرَه من كثرة السؤال (7296) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ الأنصاريِّ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ) ؟!

وأخرجه مسلم في كتاب الإيمانِ، باب الوسوسة من الإيمان (136) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَمِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:

(إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟ مَا كَذَا؟ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ) فجعله حديثاً قدسيّاً؟

وبإسنادي إلى الإمام البخاري في كتاب بَدْءِ الخلقِ، باب صفة إبليس (3276) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ).

ومن حديثِ عروةَ بن الزبير عن أبي هريرة مرفوعاً؛ أخرجه مسلم من طرق عديدة، وبألفاظ متعددة أيضاً، سأتكلم عنها في المنشور القادم، إن شاء الله تعالى.

وبإسنادي إلى الإمام مسلمٍ في كتاب الإيمان، باب الوسوسة من الإيمان (136) قال: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنا، مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ! قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟)

قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).

وفي الكتاب والباب نَفْسيهما أخرج مسلم حديثَ عبدالله بن مسعود قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَةِ؟

قَالَ: (تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ).

وأخرج ابن حبان في صحيحه (145، 136) حديثَ أبي هريرة، وحديثَ عبدالله بن مسعودٍ (149) وقال في شرحهما:

«إِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُ فِي قَلْبِهِ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهُ النُّطْقُ بِهَا، مِنْ كَيْفِيَّةِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا، أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؛ كَانَ رَدُّهُ إِيَّاهَا مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ، لَا أَنَّ خَطَرَاتٍ مِثْلَهَا مِنَ الْإِيمَانِ».

هذا التخريجُ هو الذي يقتصر عليه الذين يرون جميعَ ما في صحيحي البخاري ومسلم صحيحاً.

وسيكون التخريجُ العلميُّ في منشورٍ قادمٍ، متى أعانني الله تعالى على ذلك.

والله تعالى أعلم(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

السبت، 4 يناير 2025

  مسائلُ فقهيّةٌ:

إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام دين الله تبارك وتعالى، مَصْدَرُه الوحي الإلهيُّ المتمثّل بالقرآن الكريم.

والسنة النبويّة الشريفةُ تطبيقٌ نبويٌّ لدلالات القرآن العظيم.

والإجماع ليس بمصدرٍ تشريعيٍّ، إنّما هو كاشفٌ عن الدليل ومشير إليه، بوجه من وجوه الاستدلال.

والقياس والاستحسان؛ عَمَلُ العالم المجتهد، وما نتج عن فهم كتاب الله تعالى وسنّة رسولِه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو الفقه.

ولاختلافِ قدراتِ العلماءِ العلمية واللغوية والأصوليّة؛ كثر الاختلافُ في الفقه.

ومن وراء شيوع هذا الاختلاف الكثير في الاجتهاد؛ ظهرت لدينا موازينُ ترجيحيّة يَعتمدها العلماء وأتباعُهم، صيانةً لأنفسهم عن الانحراف في العبادة والسلوك والأخلاق!

من هذه الموازين: (قاعدة الاحتياط) و(قاعدة سدّ الذرائع) و(قاعدة الخروج من الخلاف) وجميعها - في نظري - تصبُّ في جانبِ براءةِ الذمّة!

ولنأخذ مسألةَ (مصافحةِ المرأة الأجنبية) التي غدت حديثَ الناس على وسائل التواصل الاجتماعيّ، في هذه الأيّام.

اختلف العلماء في مصافحة المرأة الأجنبيّة، بين مبيحٍ، وكارهٍ، ومحرّم، والأئمّة الأربعة

على تحريم مصافحة المرأة الشابّة!

ولم يقل أحدٌ من العلماءِ بأنّ مصافحة المرأة الأجنبيّة؛ مندوبٌ إليها، فضلاً عن كونها سنّةً، بلْهَ أن تكون واجبةً.

فالذين لم يروا مصافحةَ المرأة الأجنبيّة مشروعةً؛ احتجّوا بالقرآن الكريم، وبالأثر والقياس.

أمّا من القرآن الكريم:

قال الله تبارك وتعالى: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ!

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) [سورة الأحزاب].

وَجهُ الاستدلال: لمّا نهى الله تعالى نساءَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تلطيفِ الكلامِ وتنعيم الصوتِ؛ كان النَهيُ عن الملامسةِ والمصافحةِ من بابِ أولى!

وليس هذا الخطابُ خاصّاً بنساء الرسول، إنّما خاطبَهنّ نيابةً عن جميع نساء المسلمين، من بابةَ خطابِ الأعلى (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الذي يشملُ مَن هنّ دونهنّ منزلةً بأنفسهنّ، وبمنزلةِ رجالهنّ أيضاً.

بمعنىً أوضح: إنّ (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) يطمعُ بغير أزواج الرسولِ؛ أكثرَ بكثيرٍ من طمعه بهنّ رضي الله عنهنّ، واللمسُ أبلغُ من الكلام!

وقال الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ؛ فَادْخُلُوا، فَإِذَا طَعِمْتُمْ؛ فَانْتَشِرُوا، وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ؛ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ!

وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) [سورة الأحزاب].

    وَجْهُ الدليلِ أنَّ جميعَ الرجالِ المؤمنين ذووا غيرة ومروءة، فإذا كان مكوثُ الضيوف بعدَ تناول طعامهم، استئناساً بحديثٍ، يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهو يؤذي الرجالَ المؤمنين الغيورين أيضاً، والمصافحةُ أبلغ أثراً من مجرّد المجالسة!

وإذا كان الله تعالى أمرَ الصحابةَ رضي الله عنهم بقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) وهذا يعني الاستتار التامَّ عن أعينِ الرجالِ، ففيه دلالةٌ على النهي عن الملامسة من باب أولى أيضاً!

بل لا تُتَصوّرُ مصافحةٌ من دون مقابلة!

قال الإمام النوويّ في كتاب الأذكار (ص: 266): «كلّ مَن حَرُمَ النظرُ إليه؛ حَرُمَ مسُّه، بل المسُّ أشدُّ، فإنّه يحلّ النَظرُ إلى الأجنبيةِ، إذا أراد أن يَتزوّجها، ولا يجوز لهُ مَسُّها».

أمّا الأثر:

فقد أخرج البخاريّ في كيفيّة بيعة النساء (4891)  ومسلم في (1866) واللفظ له، من حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: (وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ، إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: (قَدْ بَايَعْتُكُنَّ) كَلَاماً».

وأخرج مالكٌ وأحمدُ وابن ماجه والنسائيّ والترمذيّ (1597) من حديث أميمةَ بنتِ رُقَيقَةَ؛ أنّها جاءت إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع نسوةٍ ليبايعنه، فقالت: بايعنا يا رسول الله «يعني: صافحنا»؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ؛ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [سورة الأحزاب].

وجه الدليلُ أنّه لا يجوز للمؤمن أن يحبّ ما يكرهه قدوته، وأن يستطيبَ ما أعرض عنه الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم طيلةَ حياته، ولم يثبت أنّه لمس يد امرأة أجنبيّة قطّ، وإلّا فكيف يكون الرسولُ أسوةً له وقدوة، ويتجرّأ على مخالفةِ هديه؟!

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ).

أخرجه الرويّانيّ في مسنده (1283) والطبرانيُّ في المعجم الكبير (20: (486، 487) من حديثِ شدّاد بن سعيدٍ الراسبيّ عن يزيدَ بن عبدالله بن الشخّير، عن معقلِ بن يسارٍ، مرفوعاً.

وأورده الهيثميُّ في مجمع الزوائد (4: 326) وقال: «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ».

 وأورده المنذريّ في الترغيب (3: 39) وقال: «رجال الطبراني ثقات، رجال الصحيح».

قال الفقير عداب: شدّاد بن سعيدٍ؛ وثّقه عددٌ من الحفاظ، منهم أحمدُ ابن حنبل ويحيى بن معين والبزّار والنسائيّ، وقال البخاريّ: صدوق، وضعّفه العقيليّ، وقال ابن عديّ: «ليس له كثيرُ حديثٍ، ولم أر له حديثاً منكراً، وأرجو أنّه لا بأس به».

أخرج له مسلمٌ حديثاً واحداً (2767) وأخرج له الترمذيّ حديثاً واحداً (2350) وقال: حديث حسن غريب، وهذا أنسبُ!

ذهبَ عددٌ من العلماء المصريين المعاصرين - والمصريّون مبتلون بالترخّص منذ قرون - إلى أنّ المصافحةَ جائزة «يعني مباحة» مع أنّ الأئمة الأربعةَ على حرمةِ مصافحةِ المرأة الأجنبيّة الشابّة!

أقول: إنّ المباح ليس من الأحكام التكليفيّة، بينما سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأحكام الشرعيّة، أفنترك سنّةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، التي نثابُ عليها، ونَشرَع للناس ما رغب عنه هو، نفسي له الفِداء، ولماذا؟

والأشدُّ من ذلك أنّ بعض الجاهلينَ؛ يستنكرُون على العالم وعلى المستمسك بدينه أنْ يرفضَ مصافحةَ النساء، ويرون ذلك تخلّفاً ورجعيّةً!

وأنا أخشى على من يغضب ممّن يرفضُ مصافحة المرأة الأجنبيّة؛ أن يدخل تحت قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتي؛ فليس مني) أخرجه البخاريّ (5063) ومسلم (1401).

أخرجَ ابن أبي الدنيا القرشيُّ في كتابه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (32).

مِنْ حديثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:

(كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا طَغَى نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَتَرَكْتُمْ جِهَادَكُمْ)؟

قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ).

قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)؟

قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ) قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً، وَرَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً)؟

قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُونُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:

(بِي حَلَفْتُ، لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً، يَصِيرُ الْحَلِيمُ فِيهِمْ حَيْرَانَ) في إسناد الحديث مقال.

إنّما أرى واقعنا يصدّقه بحذافيره، بل تجاوزت مجتمعاتنا هذه المنهيّات، واستعذبت المعاصي.

والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ) أخرجه أحمد في مسنده (1723) وابن خزيمة في صحيحه (1095) والترمذيّ (464) وقال: حديث حسن، وهو منقول عن عددٍ من الصحابةِ، وعددٍ أكبر من التابعين، رحمهم الله تعالى.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الجمعة، 3 يناير 2025

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ !؟

إلى الأمويينَ الجُدُدِ (1)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

انتشرَ في وسائلِ الإعلامِ، بعد تحرير سوريا الحبيبة؛ أقوالٌ متشنّجةٌ، كيداً بالرافضة والنصيريّة المجرمين، الذين أذاقوا أهلَ سوريّا سوءَ العذاب، بدعوى أنهم نواصبُ أعداءُ آل البيت، من مثل: «نحن أمويّون - سوريا أمويّة - نحن أتباع معاويةَ وعبدالملك - نحن لا نريد سوريا عبّاسية متعصّبة، نحن أمويّون - يريد أنّ بني أميّة متساهلون - وهذا صحيح!».

وهذا تفسيره مفهوم - كما قدّمتُ - لكنّ هذا الكلامَ غيرُ مسوَّغٍ من الناحيةِ الاعتقاديّة أبداً!

قال الله تبارك وتعالى:

(يَانِسَاءَ النَّبِيِّ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ!

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32).

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ، وَآتِينَ الزَّكَاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) [سورة الأحزاب].

قال الإمام أحمد في مسنده (25300): حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ ابنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِها، فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ بِبُرْمَةٍ فِيهَا خَزِيرَةٌ، فَدَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ لَهَا: ادْعِي زَوْجَكِ وَابْنَيْكِ!

قَالَتْ أمّ سلمةَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تِلْكَ الْخَزِيرَةِ، وَهُوَ عَلَى مَنَامَةٍ لَهُ - عَلَى دُكَّانٍ - تَحْتَهُ كِسَاءٌ لَهُ خَيْبَرِيٌّ.

قَالَتْ أمُّ سلمةَ: وَأَنَا أُصَلِّي فِي الْحُجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا).

قَالَتْ أمُّ سَلَمةَ: فَأَخَذَ فَضْلَ الْكِسَاءِ، فَغَشَّاهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ فَأَلْوَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ

ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ، وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً.

اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ، وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً).

قَالَتْ أمُّ سَلَمةَ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: وَأَنَا مَعَكُمْ يَا رَسُولَ الله؟

قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ( إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ).

قال الإمامُ أحمدُ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِثْلَ حَدِيثِ عَطَاءٍ سَوَاءً.

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَوْفٍ - أَبُو الْحَجَّافِ - عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً» وأخرجه الترمذيّ في جامعه (3871) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي الْبَاب عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي الْحَمْرَاءِ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَعَائِشَةَ» وعن سعدِ بن أبي وقّاص، عند مسلم (2404) وسيأتي، وواثلةَ بن الأسقع، عند أحمد (16374) وقد اختصره، وتمامه عند الطبريّ في تفسيره (19: 103) فهو حديثٌ مشهورٌ.

- أمّا فاطمةُ عليها السلام؛ فهي (سيّدة نساء أهل الجنة) أخرجه البخاريّ (3624) و(سيدة نساء هذه الأمة) أخرجه مسلم (2450).

- وأمّا الإمام عليٌّ عليه السلام؛ فقد طلب معاويةُ من سعدِ بن أبي وقّاص أن يسبَّ عليّاً عليه السلام، فقال له سعدٌ رضي الله عنه: «أَما مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثاً، قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي)؟

 وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ)

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَقُلْ: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي) أخرجه مسلمٌ (2404) وأصلُه عند البخاريّ (4416).

- وأمّا الحسن والحسين عليهما السلام؛ فهما (سيّدا شباب أهل الجنّة) أخرجه من طرقٍ أحمد في مسنده (10576) وابن ماجه (118) والترمذيّ (3781) و(2768) وقال ههنا: «حديث حسن صحيح».

هذا بعضُ ما قاله رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أهلِ الكساءِ (فاطمةَ وعليٍّ والحسن والحسين) عليهم السلام، أيّها الشوامُّ الغافلون!

بينما دعا على قريشٍ عامّة، وأبو سفيان الأمويّ من زعمائهم: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ).

 ثُمَّ سَمَّى رسولُ الله عتاتهم، فقال: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ) أخرجه البخاريّ في جامعه الصحيح (520) ومسلمٌ في مسنده الصحيح (1794).

وأخرج البخاريّ (7058) ومسلمٌ (2917)   من حديثِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ بنِ العاصِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ - وَمَعَنَا مَرْوَانُ بنُ الحكمِ الأمويُّ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: (هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، غِلْمَةً؟!

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ: بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ؛ لَفَعَلْتُ!

قال راوي الحديث عَمرو بن يحيى بن سعيدٍ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مَلَكُوا بِالشَّأْمِ، فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَاناً أَحْدَاثاً، قَالَ لَنَا: «عَسَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ».

قُلْنا: أَنْتَ أَعْلَمُ».

ولم يصحّ في فضائلِ سيّد بني أميّةَ معاويةَ بن أبي سفيانَ، سوى حديثِ (لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ) أخرجه مسلم (2604) قال ابن عبّاسٍ: «فما شبعَ معاويةُ بعدها» روى هذه الزيادةَ الطيالسيّ في مسنده (2746).

قال الحافظ ابن كثيرٍ في «البدايةِ والنهاية»: «قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لَا يَشْبَعُ بَعْدَهَا، وَوَافَقَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ.

فَيُقَالُ: «إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ طَعَاماً بِلَحْمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَشْبَعُ، وَإِنَّمَا أَعْيَى» أعيى: يتعب!

أمّا يزيد بن معاويةَ الذي يستهوي السفهاءَ منكم؛ فقد أورد الذهبيّ في ترجمته من تاريخ الإسلام (2: 731) عن نوفلِ بن أبي الفراتِ قال: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، فَذَكَرَ رَجُلٌ يَزِيدَ، فَقَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ!

فَقَالَ عمرُ بن عبدالعزيز: «تَقُولُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ»؟ وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ عِشْرِينَ سَوْطاً!

وأثنى عليه الذهبيّ ثناءً وَخْشاً، فقال: «كانَ نَاصِبِيّاً فَظّاً غَلِيْظاً جِلْفاً، يَتَنَاوَلُ المُسْكِرَ، وَيَفْعَلُ المُنْكَرَ، افْتَتَحَ دَوْلَتَهُ بِمَقْتَلِ الشَّهِيْدِ الحُسَيْنِ، وَاخْتَتَمَهَا بِوَاقِعَةِ الحَرَّةِ، فَمَقَتَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يُبَارَكْ فِي عُمُرِه» لا باركَ الله به ولا بأحبابه!

وما أجمل ما قاله الذهبيّ في النبلاء أيضاً (3: 39): « قُلْتُ: كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صِفِّيْنَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ السَّبِّ؛ السَّيْفُ، فَإِنْ صَحَّ شَيْءٌ؛ فَسَبِيْلُنَا الكَفُّ وَالاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلاَ نُحِبُّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُم، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْهُ، وَنَتَوَلَّى أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيّاً».

هكذا إذنْ نتولّى أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام.

وما أروع ما قاله الإمام فخر الدين الرازيّ، وهو يتحدّثُ عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبلَ الفاتحة، في تفسيره الماتع (1: 182): «الْجَهْرُ كَيْفِيَّةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، وَالْإِخْفَاءُ كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى مِنَ النَّافِيَةِ.

وإنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوَافِقَةٌ لَنَا، وَعَمَلُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَنا، وَمَنِ اتَّخَذَ عَلِيّاً إِمَاماً لِدِينِهِ؛ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ» عَلَيْهِ السَّلَامُ: من كلام الرازي!؟

إخواني أهلَ الشام: لا يستخفّن بكم الشيطان، فتكونون كبني إسرائيل، اختارَ اللهُ تعالى لهم المنّ والسلوى، فلم يعجبهم ذلك، وقالوا: (يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)!

فقال لهم موسى عليه السلام: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

ولعمري: إنّ خيارَ بني أميّة هذا مثلهم، ومثل آل بيت الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ مثلُ اختيار الله لهم «المَنَّ والسلوى».

فلا تَسْتَبْدِلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، واقتدوا بالإمامين الرازي والذهبيّ في تولّي أميرَ المؤمنين عليّاً، فـ(حبّ عليٍّ إيمانٌ وبغضه نفاق) وهو حديث صحيح مشهور.

والله تعالى يقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

ويقول: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فبنو هاشمٍ أوّل المكلّفين وأوّل المدعويين!

ويقول جلّ وعزّ: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون).

وسادةُ قومه ورؤوسهم؛ آل البيت (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ).

وليس لبني أميّة من هذه الفضائلِ كلّها نَقيرٌ ولا قِطْمير!

أيّها الشوام المحزونون: حبّ بني أميّة وولاؤهم؛ لا يُعطي أحدكم حسنةً واحدةً، وحبّ آل البيت؛ قد يكون سبباً في دخولك الجنّة!

فقد أخرج البخاري (6169) ومسلم (2641) من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟

 فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) فما الذي ترجوه من حبِّ بني أميّةَ وولائهم، وما هم سوى ملوكٍ، وأكثرُهم من شرار الملوك!

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

يا أهل الشامِ: (يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِين).

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 2 يناير 2025

  مسائلُ فكريّةٌ:

ارْحَموا العامّةَ أيّها العوامّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أشدَّ ما يحزنني أنْ يحاكمني عاميٌّ، لا يقبَل خلافاً لرأيه، ولا يَعذُر أهلَ العِلمِ باجتهادهم!

ليس في هذه الأمّة مجتهدون:

هذا صحيح تماماً، السنيُّ مقلّد، والشيعيُّ مقلّد، والإباضيّ مقلّد!

الحنفيّ مقلّد، والمالكيّ مقلّد، والشافعيّ مقلّد، والحنبليّ مقلّد!

الصوفي موغلٌ في التقليدِ، والسلفيُّ موغلٌ في التقليد، والمشايخيُّ موغل في التقليد!

وأتباع الأحزاب جميعُهم متعصّبون، يندُر أن تجدَ فيهم واحداً يعذُر مخالفَه!

وجمهورُ الأمّة جاهلٌ، لا يعرف ما معنى السنيّ، ومعنى الشيعيّ، ومعنى الناصبيّ، ومعنى الرافضيّ، وما الفوارق بين أفكارهم، ولا الأحكام الفقهيّة المترتبة على اعتقاداتهم ومواقفهم!

هؤلاء العامّةُ هم الذين يكوّنون العقلَ الجمعيَّ للمجتمعات المسلمة، وهم ليسوا مستعدّين أبداً لإعذار العالم، فضلاً عن أن يسيروا هم وراءه!

وجميعُهم تدفعهم طائفيّتهم ومذهبيّتهم وعنصريّتهم وعواطفهم وثاراتهم، والدين آخر مُؤثّرٍ في حياتهم!

يتجلّى الانقسامُ الطائفيُّ في العراق؛ أكثر منه في سوريّا بمرّاتٍ كثيرة!

تجد بطوناً من بني تميمٍ من أهل السنة، وبطوناً منهم من الشيعة!

تجد بطوناً من الدُليم من أهل السنّة، وبطوناً منهم من الشيعة، وهم أبناءُ جدٍّ واحدٍ!

ثمّ هم يُبغضُ بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضُهم أبناء عمومته!

وكأنْ كان للشيعيّ خيارٌ في أن يكون شيعيّاً، وكأنْ كان للسنيّ أن يكون حنفيّاً أو شافعيّا!

وكلُّ واحدٍ منَ الفرقاء يظنُّ أنّه على الحقّ، وأنّ مخالفَه على الباطل، ويقفُ كلّ فريق من الفرقاء مواقفه، بناءً على ما سمعه من أبيه وأمّه ووعّاظ المسجد الذي يصلي فيه، وليس أثراً من آثار بحوثِه ودراساتِه العلميّة!

إنّ هذا العاميَّ لا يحترمُ العالمَ الذي لا يغذّي طائفيّته، وينصر مذهبَه، ويؤيّد تصرفاتِ قادتِه الموثوقين لديه.

جميع الشيعة الإمامية تقريباً؛ يعتقدون بأنّ (المراجع العظامَ!!) مجتهدون!

وكثيرٌ من أبناء أهل السنّة؛ يعتقدون بأنّ الوعّاظ والمتحدّثين على القنواتِ والتلفاز علماء، وليس في هؤلاء وهؤلاء عالمٌ واحدٌ، إذا كان العالمُ عندنا هو المجتهد!

فلا السيد السيستاني مجتهد، ولا السيّد محمد سعيد الحكيم مجتهد، ولا السيّد كمال الحيدريّ مجتهد!

ولا الدكتور أحمد الحسن الددّوا مجتهد، ولا الدكتور عدنان إبراهيم مجتهد، ولا الدكتور محمد راتب النابلسيّ مجتهد!

جميع مَن ذكرتهم لا يجيدون علم نقدِ الحديثِ، الذي لا يكون ثمّ اجتهادٌ من دون إتقانه!

أنا الفقيرُ أعذرُ جميعَ شيوخي، وأعذر أتباعَهم وتلامذتهم، إذْ ليس فيهم مجتهدٌ بيقين!

وأعذرُ مشايخَ الشيعةِ، وأعذر أتباعهم وتلامذتهم، إذْ ليس فيهم مجتهدٌ بيقين!

وأنا لا أجدُ فرقاً أبداً بين (السيّد حسن نصر الله) الأمين العام لحزبِ الله اللبنانيّ.

وبين «أبو بكر البغدادي» إمامِ دولةِ العراق والشام الإسلاميّة «داعش»!

قولوا لي: ما الفرق بين هذا وذاك؟

هذا قائد فصيلٍ دمويٍّ يستحلّ قتل مخالفيه، وهذا مثلُه، وقِسْ على ذلك.

طبعاً قد يقول لي قائل: إنّ أهل السنّة على الحقّ، وإنّ مخالفيهم على الباطل، وأنا أسلّم بها وبنقيضه إذا كان قائل ذلك مجتهداً، أمَا والجميعُ مقلّدةٌ عوامٌّ، لا يحسنون التمييز بين صحيح مذهبهم وخطئه؛ فلا فرق عندي البتّة!

عند جميع الطائفيين - والجميع طائفيّون - لا يَصحّ أنت تعذُرَ مخالفاً، إنما يجب أن تنتصرَ لطائفتك المحقّة، وأن تحاربَ في سبيلِ نصرتها على خصومها المارقين الضالّين!

هذا الكلام واقعٌ تماماً، لكن عند مَنْ؟

عند الساسةِ الذين يطوّعون الدينَ والأخلاقَ لتحقيق مآربهم، واستقرار مجتمعهم!

وعند الحزبيّين الذين أكبرُ همومهم أن يصلوا إلى السلطةِ السياسيّةِ، إمّا تحقُّقاً بشهوة الحكم والسلطان، أو لتحقيق برنامج فكريٍّ وسلوكيٍّ يرونه الحقَّ الذي لا حقّ سواه!

أمّا موقفُ العلماءِ؛ فيجب أن يكون مختلفاً تماماً!

ما الفرقُ بين أن أعذرَ سنيّاً حزبيّاً بقتلِه العشراتِ والمئاتِ من أهل السنّة؛ لأنهم خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع لسلطانه؟!

وبين شيعيٍّ قتلَ العشراتِ والمئاتِ من أهلِ السنة؛ لأنهم خالفوه في منهجه، أو خالفوه في رؤيته، أو رفضوا الانضمامَ إلى فصيلِه، والخضوع لسلطانه؟!   

إذا كان الثاني مُجرماً؛ فإنّ الأوّلَ مجرم أيضاً!

وإذا كان الأوّلُ متأوّلاً ، يرى المقاصدَ الشرعيّة لا تتحقّق إلّا بالقتالِ والقتلِ؛ فإنّ الثاني متأوّلٌ أيضاً، فما الفرق؟

الفارق الوحيدُ هو أنّ قتلَ السنيِّ للسنيّ ضرورة، في نظر من يجوّزه!

بينما قتلُ الشيعيّ للسنيِّ، أو قتل السنيِّ للشيعيِّ؛ اعتداءٌ صارخٌ مرفوض على مقام الطائفةِ المقدّس!

أنتَ ترى - أخي القارئ الكريم - أنّ العلماءَ معذورون، عندما لا يكتبونَ ولا ينشرون آراءهم على الملأ، خوفاً من أن يغضبَ من كلامهم عاميٌّ ويثور، فيتقرّب إلى الله تعالى بقتلِ أحدهم، أو إهانته!

بحث علماؤنا السابقون مسألةَ (كفّار التأويلِ) وَاخْتُلفوا في مَن هم على أَرْبَعَة أَقوال:

الأول: أَنّهم مِن أهل الْقبْلَةِ، ولا يكفرون بتأوّلهم غيرَ الحقِّ، لأنّ التَّكْفِير والتفسيق بالتأويل؛ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّنَّ !

الثَّانِي: مَن ذهب إِلَى مَذْهَبٍ، وَهُوَ فِيهِ مُخطئٌ، بِشُبْهَةٍ يُعلَم بُطْلَانهَا بدلَالَةٍ صريحةٍ من الدّين.

الثَّالِث: مَن ذهب إِلَى الْخَطَأ بِشُبْهَةٍ، وصريح القرآنِ بِخِلَافِهِ.

الرَّابِع: مَن ورد فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وسلّم أَنّه كَافِرٌ، وصريحُ القرآن بِخِلَافِهِ!

ولماذا سمّي هؤلاء جميعاً كفّارَ التأويل؟

لأَنّ أصلَ الْكفْر؛ هُوَ التَّكْذِيبُ الْمُتَعَمّدُ لشَيْءٍ من كتب الله تَعَالَى الْمَعْلُومَةِ، أَو لأحدٍ مِن رسله عَلَيْهِم السَّلَام، أَو لشَيْء مِمَّا جاؤوا بِهِ، إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمرُ المُكذَّب بِهِ مَعْلُوماً بِالضَرورَةِ مِن الدّين.

وَلَا خلافَ في أَنّ هَذا القَدْرَ كُفْرٌ، وَمَن صدر عَنهُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ، إِذا كَانَ مُكَلّفاً مُخْتاراً، غيرَ مُختَلِّ الْعَقلِ وَلَا مُكْرَهٍ!

وكفّار التأويل: لا يسمّون بهذا الاسم إذا كانوا متعمّدين، إنّما يكونون كفّارَ تأويلٍ باجتهادهم، لقيامِ شبهاتٍ منعتهم من الوصول إلى الحقّ اليقين.

ولذلك قال علماؤنا: القَتلُ جريمةٌ عظمى، لكنّ القاتلَ لا يكون كافراً، إلّا باستحلالِ القتلِ، والخمرة حرام، لكنّ متعاطيها لا يكفر إلّا باستحلالها.

بقيت مسألةٌ أخيرةٌ: هل قتالُ المبتدعة وكفّار التأويلِ يدخلُ ضمن قتال (الفتن) أو إنّ قتال الفتنة يكون بين أصحاب المذهب الواحد؟

بمعنىً آخر: إذا قاتل الدواعشَ أحرار الشامِ، وذبح بعضهم بعضاً، فهذا قتال فتنةٌ، إذا تصالحوا فيما بينهم تساقطت الدماء؛ لأنهم جميعاً من أهلِ السنّة.

وهذا الذي أفتى به وطبّقه عمليّاً أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام، في وقائع الجمل وحطّين والنهروان.

فماذا عن قتالِ أهلِ السنّة للشيعةِ، وعن قتالِ الشيعة لأهل السنّةِ، هل تتكافأُ دماؤهم، ويُعَدُّ اقتتالُهم قتالَ فتنة، فتتساقط الدماء عند انتصارِ أحدِ الفريقين على الآخر، أو لا بدّ للمنتصرِ أن يقتصَّ من المنهزم؟

يُترَك هذا إلى المبتلى به، فهو لن يستمع إلى كلامنا، وسيحاسبه الله تعالى على قدر فهمه واجتهاده.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.