الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

  مسائلُ فكريّةٌ:

لماذا لا تَكتبُ عن الإباضيّة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عَقب ردِّ لجنة المناقشةِ الأنباريّة أطروحتي للدكتوراه في جامعة بغداد؛ أشاع بعض العراقيين النواصبِ - وما أكثرهم في العراق - أنني تشيّعتُ!

- وأنني أطعن في الصحابةِ، ويقصدون معاوية وحزبَه الفئةَ الباغيةَ، وهو عندهم مقدّسٌ، مثلَ عجل بني إسرائيل!

- وأنني أطعن بأمّ المؤمنين عائشة - غفر الله لها - واستغلّوا كلمة (باغية) فجعلوهاً (بغيّاً) عامدين، عاملهم الله تعالى بعدله، وقد فعل!

وأنني أطعن في الصحيحين، الذين لا يعرفون عنهما شيئاً يومئذٍ، وقد اعترف الدكتور حارث الضاري بأنه لم يقرأ صحيح البخاري ولا صحيح مسلم!

صارت سمعتي في العراق أسودَ من «السخامِ» بالباطل، وقد ظللت أدعو على هؤلاء العراقيين أكثر من سنتين، حتى إذا كنت في سجودِ قيامِ إحدى الليالي؛ قرعَ سمعي بعنفٍ قول الله تعالى:

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).

ثمّ جاءني واردٌ قلبيّ يقول: «ادع بهذا الدعاء: اللهم أحسن إلى مَن أحسن إليّ، وسامحني وسامح من أساء إليّ من المسلمين».

فاتّخذت هذا الدعاء وِرداً لي أدعو به في كلّ صلاةِ فريضةٍ أو نافلةٍ، منذ ذلك اليوم!

في عام (2002م) غادرتُ العراق، باحثاً عن عملٍ، بعدما أيقنتُ أنْ لا عملَ لي في العراقِ بتاتاً!

وحين كتبتُ إلى الرئيس صدّام حسين: «أنني انتظرت سنواتٍ لتضعني في الموقع المناسبِ، لكنني لم يصلني منك أيّ جوابٍ بهذا الخصوص، لذا أستأذنك في مغادرة العراق، بحثاً عن عمل».

وخشيةَ أن يظنَّ بي سوءاً؛ كتبتُ إليه: «وقد تركت أولادي تحتَ رعايتك، وفي ظلّ حمايتكَ، فهم هاهنا آمنون» وتركتهم فعلاً، وغادرتُ إلى الأردن!

وكان مِن عاقبةِ هذا التصرّف المَخوف؛ أنني لم أر بناتي منذ عام (2002) حتى هذا اليوم!

في الأردنّ الهاشميّ، الذي يرتع فيه النواصب؛ قَبلتُ أن أعملَ في مدرسةٍ ابتدائيّة معلمّاً للغة العربية والدين، بيد أنّ المخابرات الأردنيّة (السامية) رفضت مزاولتي أيَّ عملٍ في الأردنّ، حتى أتعاونَ معهم، ورفضت ذلك بالتأكيد!

بقيتُ في الأردنّ منذ العام (2002) حتى العام (2014م) ولم يُسمح لي بالعمل بتاتاً!

راسلت كثيراً من الجامعاتِ العربية والإسلاميةِ، من دون جدوى، لأنّ الحقدَ السنّي الطائفيّ على رائحةِ التشيّع؛ أشدُّ بكثيرٍ من الحقد السنيّ على الكفّار الأصليين!

يُضاف إلى هذا حقدُ الإخوان المسلمين الحزبيّ، الذي يزلزل الجبال السوداء!

في عام (2003) كتبتُ إلى سماحةِ الشيخ أحمد بن حمد الخليليّ كتاباً، أوضحت له فيه حاجتي الماسّة إلى العمل - وليس إلى مساعدة! - فعمل شهوراً طوالاً، حتى حصل لي على إذنٍ بالعملِ في (سلطنة عُمان) في المعهد الشرعيّ، الذي يشرف هو عليه مباشرة!

عَملتُ في المعهد الدينيّ من اليومِ الأوّلِ لافتتاح الدراسةِ، إلى نهايةِ الفصل الأوّل، يعني أكثرَ من أربعة شهورٍ!

فكنتُ أقترض مصروفي الشخصيّ ومصروفَ أسرتين إحداهما في بغداد، والأخرى في عمّان الأردنّ، من خارجِ (سلطنة عمان) وأنا أنتظر مرتّبات أربعة شهورٍ أو خمسة، من دون فائدة!

تقدمت باستقالتي إلى إدارةِ المعهدِ، فغضبت الإدارةُ منّي، لكنني أصررت على الاستقالة، لاعتقادي أنّني سأتعب معهم كثيراً، وأنا أستحيي جدّاً من الخصومة الماليّة!

بعدَ التفاهمِ على إنهاء عقدي؛ وقّعوني على وثيقةٍ بأنهم هم أنهوا عقدي، مستغنين عن خدماتي زوراً وكذباً، ورفضوا إعطائي استحقاقاتي الماليّة، وقالوا لي: أعطنا عنوانك وحسابك، ونحن نودع فيه استحقاقاتك المالية، عندما تُقَرّ ميزانيّة المعهد، أو كلاماً كهذا.

عندها لجأتُ إلى سماحةِ شيخي الجليلِ، فشكوتهم إليه، فتدخّل حتى صرفوا إليّ مرتّباتي الأصليّة، بعدما ألزموني بالتنازل عن أجور الساعات الإضافيّة التي تقربُ من المرتّبات الأصليّة ذاتها، فلا سامح الله إدارةَ المعهد على هذا الفعل الشائن!

وحسب معتقداتِ الإباضيّة؛ أكلُ أموال الناس بالباطل من الكبائر التي تودي بصاحبها إلى الخلودِ في النار، فأزفّ إلى مدير المعهد هذه البشرى؛ لأنني لن أسامحهم أبداً!

كانت حياتي في (سلطنة عُمان) جميلةً جدّاً، تتناسب مع طبيعتي الصوفيّة، ورغبتي الأكيدةِ في اقتناص الحسناتِ، ومباعدةِ السيئات!

وعندما وصلتُ إلى عمّان الأردنّ؛ سألوني عن حياتي في سلطنة عمان؛ فقلت لهم: «أظنني لم أرتكب في مَسقط سيئةً واحدةً، ولو أنني متُّ هناك؛ فسأكون من أهل الجنّة يقيناً، بفضل الله تعالى ورحمته».

قرأت في مسقط عشراتِ المجلّدات عن الفكر الإباضيّ، والعقيدة الإباضيّة، وأصول الفقه والفقه، وقرأت عدداً من كتب شيخي المفتي أحمد الخليليّ حفظه الله تعالى، واستمعتُ بحياةٍ هادئةٍ صالحةٍ، لم أتناول فيها دواءً للسكّريّ، ولا لغير السكريّ أبداً!

من أجل ذلك كلّه؛ تجنّبتُ نشرَ شيءٍ مما كتبتُ عن (الإباضيّةِ) وفاءً وعرفاناً.

منذ العام (1999) كتبتُ بحثاً مطوّلاً عن الإباضيّة ومسند الربيعِ، أعطيت نسخاً منه لبعضِ طلابي العُمانيين الأحبّة، لكنني لم أنشره حتى هذا اليوم؛ لئلّا أُدخلَ الحزنَ عن قلبِ شيخي الفاضلِ المفتي «أحمد الخليلي» الرجل الصالح الشجاع، صاحب المواقف النبيلة تجاه قضايا الأمّة الكبرى، ولئلّا يتبادر إلى قلبه الطيّب أنني ممن ينكر الجميل!

ربما لا يَفهم كثيرون موقففي هذا، وكثيرون سيرونه خطأً، لكنني مقتنع قناعةً تامّةً أنْ لا ضرورةَ إلى نشر ما كتبته عن «الإباضيّة» وعن «مسند الربيع» وسينشره أولادي بعد وفاتي بكلّ تأكيد!

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

   مسائلُ فكريّةٌ:

احترامُ رأيِ المخالفِ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال لي صديقي: (إلى أيِّ مدىً يجوزُ احترامُ رأيِ المحاورِ المخالفِ؟

ولو صحّ ما تكتبونه دائماً: لا بدّ من احترام الرأي المخالفِ؛ فلماذا لم يحترم الصحابةُ آراءَ بعضهم بعضاً، وذهبوا بأجمعهم إلى قتالِ ما نعي الزكاة، حتى عدّوهم مرتدّين، أو على الأقلّ: أباحوا دماءَهم، وقتلوهم، وسبوا نساءهم، ولم يحترموا اجتهادهم؟

هل الدين الحاضر غير الدين الماضي)؟

أقول وبالله التوفيق: لم يرد في القرآن الكريم، ولا في الروايات الحديثيّة ألفاظ (محترم - احترام) ولم تكن هذه الكلماتُ متداولَةً قديماً لدى العرب.

وقد اشتقّ لفظ (الاحترام) من الحُرْمةِ: التي تعني التقدير والتوقير.

قال الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ولم يقلْ: (وتحترموه).

والاختلافُ في الأهواء «المذاهب والاتّجاهات» سنّةٌ من سنن الله تعالى في المكلّفين من الإنس والجنّ!

قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

وفي سورة الجنّ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15).

والذي يتبيّن لي من فهمي لهذا الدينِ العزيزِ العظيم؛ أنّ الاختلافَ يكون بين مسلمٍ ومشرك، وبين مسلمٍ ووثنيّ، وبين مسلمٍ وملحِدٍ، وبين مسلمٍ ومسلم:

والاختلاف بين المسلمين؛ على أنواعٍ أيضاً!

فقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وشيعيّ اثني عشريّ.

وقد يكون بين سنيّ وشيعيٍّ زيديٍّ.

وقد يكون بين سنيٍّ وإسماعيليّ.

وقد يكون بين سنيٍّ وما انفصل عن مذاهب الشيعة هذه كالبابيّة والبهائيّة والقاديانية والبُهرةِ، وغيرهنّ من فروع المذاهب الشيعيّة.

وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وشيعيٍّ حُرٍّ غير منتمٍ لأيّ مذهبٍ من مذاهب الشيعةِ المتقدّم ذكرُها (من أمثال الفقير عداب) وجمهورِ تلامذته.

وقد يكون الاختلاف بين سنيٍّ وإباضيّ.

وقد يكون الاختلافُ بين سنيٍّ وسنيٍّ:

اختلافٌ بين أشعريٍّ وماتريديٍّ.

اختلافٌ بين أشعريٍ مثبتٍ، وأشعريٍّ مفوّضٍ، وأشعريّ مؤوّل!

اختلافٌ بين أشعريٍّ ومعتزليّ!

اختلافٌ بين ماتريديٍّ ومعتزليّ.

اختلاف بين أشعريٍّ وحنبليٍّ.

اختلافٌ بين حنبليٍّ وتيميٍّ!

اختلافٌ بين تيميٍّ ووهّابي!

اختلافٌ بين سلفيٍّ وصوفيّ!

اختلافٌ بين إخوانيٍّ وتحريريّ.

اختلافٌ بين وهّابي وسروريّ.

وقد أدخلَتْ بعضُ فرق المسلمين الاختلافَ في المعتقداتِ أو في الفروعِ؛ إلى ساحة (الولاءِ والبراء) وأهل السنّةِ يعدّونَ كلَّ مخالفٍ لهم مبتدعاً، ويتفاوتون في درجة (البراءة) منه اختلافاً كبيراً.

والفقيرُ عدابٌ لا يرى في المسلمين اليومَ (مجتهداً) وجميعهم مقلّدةُ المذهبِ السائد في مواطنهم، عقيدةً وفروعاً، وبعضهم أقربُ إلى الترجيح من بعضٍ، وبعضهم أفحشُ في التعصّب والتقليد من بعضٍ!

لأجل ذلك فهو يمنح (الولاء) لكلّ أبناءِ أمّةِ الإسلام:

إذا كانوا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسلِه واليوم الآخر.

وكانوا يدينون اللهَ تعالى بوجوب الطهارةِ والصلاة والزكاة والصيام والحجّ.

ويرون وجوبَ الأمر بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر، ويرون وجوبَ جهادِ الصائل الأجنبيّ على ديار الإسلام.

ولا يُنكرونَ معلوماً من الدين بالضرورة قولاً أو فعلاً.

فمن كان من المسلمين كذلك؛ فهو أخي ووليّي، سنيّاً كان أم شيعيّاً أم إباضيّاً، حتى لو كانَ هو يفتي بكفري أو بقتلي!

أمّا مَقولةُ (مَن كفّرنا؛ كفّرناه، ومَن فسّقنا؛ فسقناه) فمقولةٌ مرفوضةٌ عند الفقير عداب تماماً!

وأمّا فِقرةُ هذه المقولةِ الأخيرةِ (ومَن قاتلنا؛ قاتلناه) فهي مقولة صحيحةٌ؛ لقيامِ الأدلة الوافرة على مشروعيةِ حفظِ النفس المسلمة، ودفع الصائل.

أمّا ما جرى من القتال والقتلِ بين الصحابةِ - رضي الله عن أهلِ الحقّ منهم - فغدوتُ أميلُ إلى تجاوزِ هذه المسألةِ الشاذّة القبيحة جدّاً؛ لأنّ الأمّةَ درجتْ على تقديسِ الصحابةِ وتعظيمهم، بل غدا هذا التقديس معيارَ السنيِّ من البدعيِّ.

بيد أنّني أقول كلاماً وجيزاً: لا يختلفُ المسلمون سنّةً وشيعةً وخوارجَ؛ أنّ الإمامَ عليّاً كان على الحقِّ في حربِ الجملِ وصفّين.

وكان مقاتلوه أجمعونَ مخطئين، بغاةً عليه، ظالمين له، بهذا الخروجِ الدامي.

واتّفق السنة والشيعةُ على أنّه كان على الحقِّ في قتاله الخارجين عن سلطانه من أهل النهروان.

أمّا ما وراءَ ذلك من الحُكمِ على مخالفيه بالكفر أو الفسق؛ فلا نخوضُ فيه، مراعاةً لعقولِ العامّةِ، التي تظنّ الصحابة كالملائكةِ، وربما أعلى رتبةً من الملائكة، وهم لم يكونوا كذلك على أيّ حال.

بقيت مسألة احترامِ رأيِ المخالفِ؛ وللفقير عداب فيها كلامٌ يسير واضح:

الفقيرُ عدابٌ يفرّق بين المخالفِ المسلم، والمخالفِ الكافر!

فلا احترامَ عندي للكافرِ المخالفِ، ولا لرأيِه، إنّما المطلوب مني أن أعدلَ معه، وأن أنصفه، وأن أجتنب إثارته كي لا يتجاوز على مقدّساتي المشروعة!

إذ كيف أحترمُ الشركَ بالله تعالى أو الكفرَ به، أو كيف أحترم شرب الخمرةِ والربا والزنا، وسائر المناهي في دين الإسلام؟

-أمّا المخالفُ المسلمُ، الذي تحقّق بالصفاتِ السابقةِ، فأحترمه هو، وأقدّره هو، أمّا رأيه المخالفُ ؛ فله حالان:

الحالُ الأولى: أن يكون رأيُه ممّا يسوغُ فيه الاجتهاد عندي، وفي هذه الحال أحترمُه وأحترمُ اجتهادَه.

مثال ذلك: جَهْرُ الإمامِ بالبسملةِ في صلاةِ الجماعةِ!

فأنا أذهبُ إلى الجهرِ بالبسملةِ للإمامِ والمنفرد، في الصلواتِ الجهريّة الثلاثِ!

لكنني أحترمُ الذي يُسرّ بالبسملةِ، وأحترم رأيَه؛ لورود الأدلّةِ المحتملة لديه في ذلك.

والحال الثانية: أن يكون رأيُه مما لا يسوغ فيه الاجتهاد عندي، ففي هذه الحال؛ أحترمُه هو - بمعنى أوقّره وأكرمه وأبتعد عن تنقيصه - إنّما لا أحترم رأيَه، بل أحتقر ذاك الرأيَ الباطل!

مثال ذلك: القولُ بتحريف القرآن الكريم:

نفيتُ في منشورٍ سابقٍ؛ أن يكون القولُ بتحريفِ القرآن الكريم؛ مذهباً للشيعةِ الإماميّةِ، وأنّ المعتمد في المذهبِ عندهم؛ هو أنّ القرآن الكريمَ كلامُ الله تعالى، المجموع في المصحفِ الشريفِ، المتداول بين المسلمين اليوم.

لكنْ لو وُجدَ بعدَ ذلك مَن يقول بنوعٍ ما من أنواعِ ما يسمّى تحريفاً للقرآن الكريم؛ فأنا أحترمُه هو بصفته مسلماً لديه شبهاتُه، بل وأدلّته أحياناً، لكنني لا أحترم القول بتحريف القرآن الكريم بتاتاً.

ثبتَ في الصحيحين وغيرهما من دواوينِ الإسلام؛ أنّ الصحابيّ الفقيه عبدالله بن مسعودٍ كان يُنكرُ أنّ سورة (قل أعوذ بربّ الفلق) وسورةَ (قل أعوذُ بربّ الناسِ) ليستا من القرآن الكريم، وقد خطّأه الصحابةُ بذلك، ولم يلتفتوا إلى خلافِه باحترام!

بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم يضلّلوه!

وفي كتب أهل السنّة المعتمدة عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيِّنْ تَعُدُّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً!

فَقَالَ: قَطُّ! لَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللهِ، واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ولم يلتفتْ أحدٌ إلى قولِ أبيِّ بن كعبٍ سيّدِ القرّاء، وعدّوا سورةَ الأحزابِ ثلاثاً وسبعين آيةً فحسب، بيدَ أنهم لم يكفّروه ولم يفسّقوه ولم يضلّلوه!

فابنُ مسعودٍ وأبيٌّ محترمان موقّران عند المسلمين، أمّا قولُهما هذا؛ فباطلٌ غير محترم!

والفقير عدابٌ يعُدُّ القولَ بنسخِ التلاوةِ تحريفاً، ويعدُّ القولَ بالنسخِ كلّه تحريفاً للقرآن الكريم!

فأنا أحترم العلماءَ المتقدّمين والمتأخّرين القائلين بالنسخِ؛ لأنهم مسلمون لهم شبهاتُهم.

بيد أنني لا أحترم القولَ بوجود منسوخٍ في القرآن الكريم البتّةّ، وأراه تحريفاً للقرآن الكريم.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الأربعاء، 2 أكتوبر 2024

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ:

هلْ سبُّ اللهِ طلاق؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

وصلَ إليّ السؤال الآتي:

(إذا سبّ أحدُ الزوجينِ (الله) تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أو أحدَ الأنبياءِ، أو سبّ الدين، كأن يقول: (يلعَن دينه) أو يقول: (دينك صرماية) أو أيَّ لفظةٍ أخرى يراد منها (تحقيرُ الدين) هل يُعدّ طلاقاً)؟ وشكرا لكم.

أقول وبالله التوفيق:

لا يختلف علماءُ الإسلامِ المتقدّمون؛ أنّ سبّ (اللهِ) تعالى، من أشدّ أنواع الكفر، وبعده في المرتبة سبّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فمن سبّ الله تعالى، بلعنٍ، أو بتنقيصٍ، أو بشتمٍ، أو سبَّ الرسولَ، بلعنٍ أو بتنقيصٍ أو بشتمٍ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام؟

وقد اختلفُ العلماء في آثار هذا السبُّ على الزوجيّة:

(1) فالذين قالوا: من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم؛ يُقتَلُ فوراً من دون استتابة، فتكون زوجته بائنةٍ منه، ولا توارثَ بينهما.

والحكم ذاته، لو أنّ المرأة هي من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم.

(2) والذين قالوا: يُستتابُ الزوج أو الزوجة المرتدّ بلفظة الكفر؛ قالوا: بعد تلفظ أحد الزوجين بالكفر؛ لا يحلّ لأحدهما من الآخر؛ ما كان يحلّ له في أثناء قيام الحياة الزوجية بينهما، ويفرّق بينهما من دون احتسابِ تلفّظه بالكفر طلاقاً، إنّما هو فرقة.

فإن تاب وجدّد إسلامَه؛ يمكنه مراجعةِ زوجته، ولا تحنسب عليه طلقةً.

وإنْ لم يتب بعد تلفّظه بالكفر حتى انتهت العدّة؛ فيمكنه أن يخطب زوجته السابقة، ويتزوّجها شأنه شأنُ أحد الخاطبين، ولا يحقّ له إجبارُها على الرجعة إليه، بدعوى أنّها زوجته.

أمّا من سبّ (الدينَ) فليس حكمه واحداً:

فمن سبّ (دينَ الإسلام) بهذا القيدِ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومن سبّ (صلاةَ المسلمين) أو أيّ فريضةٍ من فرائضِ الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومَن قال (ألعن دينك، أو شريعتك، أو مذهبك، أو ملّتك) فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم.

إلّا إنْ كان من أهلِ العلم، فيوقَفُ ويُحَلّفُ أنّه لم يُرد في قوله واحدةً من تلك الكلمات الإسلام، وإنما أرادَ من(دينها) تعاملها السيّء معه، وأراد من (شريعتها) ما تتبناه من آراء باطلة، وكذلك بقية الكلمات المماثلة.

فإنْ حلفَ أنّه لم يقصد الكفرَ أبداً، ولا تحقير أو تصغير (الدين الإسلاميّ) فتبقى زوجته على حالِها ظاهراً، أمّا في الباطن؛ فبينه وبين الله تعالى.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 26 سبتمبر 2024

مسائل من الفقه والأصول:
أبو حنيفة يبيح زنا المحارم؟!
سألني سائلٌ قال: هل صحيح أنّ أبا حنيفةَ يُبيح نكاح المحارم، وإذا زنى أحدهم بمحرمه أمّا أو أختاً أو بنتاً؛ لا يُقامُ عليه الحدّ؟
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: استمعتُ إلى أحدِ خطباءِ الرافضة منذ برهةٍ يقول: (أنا لا أعترف بالمذاهب كلّها، سوى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، تَدْزون ليش؟ لأنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم!
فقلت في نفسي: ابتُلينا بالإماميّة الاثني عشريّة، مثلما ابتلينا بالحنابلة، الذين يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية!
الجعفريّة يقولون: مذهبنا مذهب الأئمة المعصومين من آل البيت، ولا يجوز الخروج عن مذهبهم بحال؛ لأنّ الله تعالى على لسان رسوله، جعلهم قُرناءَ القرآن الكريم.
والسلفيّة يقولون: مذهبنا الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة!
والحقيقة أنّ مذهبهم هو فتاوى المعاصرين من شيوخهم (ابن باز - وابن عثيمين - والفوزان) وضربائهم.
وسواء اعترف هذا الرافضي بمذاهب أهل السنّة أم لم يعترف؛ فهو من ؟!
إذ الواقع يقول: إنّ ملياراً ونصفَ مليار مسلم، يدينون الله تعالى بمذاهب أهل السنة، منهم مليار مسلمٍ - في الحدّ الأدنى - هم أتباع الإمام أبي حنيفة!
ثانياً: أمّا قوله الذي نقله إليّ السائلُ، وسمعت أنا مثلَه: (إنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم) فنبرأ إلى الله تعالى من أيّ إنسانٍ يفتي بهذه الفتوى، أو يذهب هذا المذهب الكفريّ!
أجل هو مذهب كفريّ؛ لأنّ الله تعالى يقول:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ.
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ؛ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً).
فأيّ إنسانٍ أفتى بجواز نكاح واحدةٍ من هذه المحارم؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن ملّة الإسلام!
فكيف يفتي أبو حنيفةَ بزنا المحارم؟
نعوذ بالله من الهوى الطائفيّ والمذهبيّ، الذي يعمي بصيرة المقلّد، فلا يعود يعقل!
ثالثاً: ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهم قالوا ما معناه: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والمرفوع ضعيف لا يحتج به!
فإذا عقدَ رجل على إحدى محارمه عقداً شهدَ عليه شاهدان؛ فهذا العقدُ يحول دون إقامةِ حدِّ الزنا عن العاقدَيْن كليهما، بسبب شبهة العقد.
قسم الحنفية الشبهاتِ إلى ثلاثة أنواع: (شبهةُ في الفعل، وشبهة في المحلِّ، وشبهةٌ في العقد).
قال الحنفيّة: (يَثْبُتُ دَرْء الحدِّ بِشُبهَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحِ الْمَحَارِمِ) النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ؟!
فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحدَى مَحَارِمِهِ بَعدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ! وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً، لاَ حَدًّا، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بالتحريم؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ.
فَوُجُودُ الْعَقْدِ؛ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) الموسوعة الفقهية الكويتية.
رابعاً: لا ريبَ عندي في أنّ هذه المسألةَ من أشنعِ المسائلِ الفقهيّة، المنقولةِ عن أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
بيدَ أنّ أبا حنيفة يقول: بحرمة نكاح المحارم قطعاً، كغيره من فقهاء الإسلام.
وأبو حنيفةَ يحرّم وَطء الرجل إحدى محارمه بعقدٍ أم بدون عقدٍ، وحاشاه أن يفتي بجواز نكاح المحارم بعقد، فضلا عن إباحةِ الزنا بهن، والعياذ بالله تعالى.
بل إن أبا حنيفة يقول: إذا كان المسلم الذي نكح إحدى محارمه عالماً بالتحريم؛ (يُعَاقَبُ عُقُوبَةً، هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعزِيرِ، سِيَاسَةً، لا حدّاً).
فالقولُ بأنّ أبا حنيفة يجيز زنا المحارم، أو حتى نكاح المحارم؛ كذب وافتراءٌ عليه وعلى الحنفية، رحمهم الله تعالى.
خِتاماً: مسألة (العقد) عند أبي حنيفة مسألة معقّدة جدّاً، ولها مصاديق كثيرةٌ صحيحة عند الحنفيّة؛ باطلة عند غيرهم من علماء الإسلام، وأئمة المسلمين، من مثل:
جواز أن يبيع صاحبُ الكرم عِنبَه لمن يعلم أنّه سيجعله خمراً.
جواز أن يؤجّر الإنسان منزله ليجعله المستأجرُ بيت نارٍ، أو كنيسةً، أو دار بغاء!
وأمثال هذه المسائل المستشنعةِ، التي نبرأ إلى الله تعالى من الفتوى بها، أو استحلال العمل بها.
بيد أنّ على المسلم، شيعيّاً كان، أم سنيّاً، أم إباضيّاً، أم غير مذهبيٍّ؛ أن يكون صادقاً أميناً فيما ينقله عن مذهبه وغير مذهبه، وإلّا كان كذّاباً ساقطَ العدالةِ عند المسلمين.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 19 سبتمبر 2024

  اجتماعيات:

قصيدةُ المولد النبويّ الشريف!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة].

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ: إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ؛ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) [الأنبياء].

بمناسة عيدِ المولدِ النبويّ لعام (1446) الموافق (20/ 9/ 2024) جاشتْ هاته المعاني بخاطري، فنطق بها لساني شعراً، قال:

(1) رسولَ اللهِ حارَ بي المآلُ

وزاد الخوفُ، وارْتَجفَ المقالُ

(2) وما عُمري - وطاعاتي نُزورٌ -

سينفعني، إذا كثرتْ نَصالُ

(3) وما أدري إلى  عَفوٍ وصَفحٍ

عن الزلّاتِ، أم حَجَرٌ يُشالُ؟

(4) ذنوبيَ يا رسولَ اللهِ شَتّى

فُتورٌ، وانفعالٌ، وانتِقالُ

(5) وما بي يا رسولَ الله شِرْكٌ

ولا شَكٌّ يُوالِسُ، أو يُدالُ

(6) ولا أغشَى الفواحشَ قاطباتٍ

ولا أغفو، فيسرِقُني الضلالُ

(7) ولكنّي - رسولَ اللهِ - قِرْمٌ

منَ الأشرافِ، يُحزُنه الثِقالُ

(8) يَرى الأشرافَ ساداتِ البرايا

وقد ظُلِموا، وحَطَّ بهم نَكالُ

(9) ولم يُنصِفْهمُ أبداً غَشومٌ

ولا عَدْلٌ يُظنُّ، ولا ثِمالُ

(10) إذا ما الرافضيُّ قلاهُ خُلْفاً

وناصبه النواصبُ، واستطالوا

(11) فكيف يَعيشُ في دُنياه حرّاً

وكيفُ يَعولُ، حينَ هو المُعالُ؟

(12) هو المهضومُ بين الناس طرّاً

لمَنْ يَشكو، وما ثمَّ احتفالُ؟

(13) إليكَ لجأتُ يا جدّاهُ، عَلّي

من الرحمنِ، يُسعفني نَوالُ

(14) فقد ضاقَت بي الدنيا، وضَنّتْ

وأعمامي جَفَوني والخَوالُ

(15) رسولَ اللهِ، والآلام شتّى

على آلِ الرسول، وهم شِبالُ

(16) شِبالٌ يرفضونَ الذلَّ طبعاً

ولو خضع الأنام له، ومالوا

(17) رسولَ اللهِ لا نبغي علوّاً

بأرضِ الناسِ، لو كانوا استطالوا

(18) وما نبغي سوى حقٍّ قديمٍ

به القرآنُ جاءَ، وإنْ أطالوا

(19) رسولَ اللهِ يا هادي البرايا

ويا نوراً تَضيء به الجِبالُ

(20) توسّلنا إلى الرحمن، نرجو

بكم رِزْقاً، تَتيهُ به الغِلالُ

(21) ونرجو من شفاعتكم بدنيا

سلامتنا، فيجفونا الوَبالُ

(22) فنحيا في ظلالِ الحقّ دوماً.

وإنْ متنا؛ فأنت لنا المآلُ

(23) وما في يوم القيامة من شفيعٍ

سواكَ لنا، إذا فَهِهَ المقالُ

(24) إذا أعطاكَ ربّك ما تمنّى

سترضَى إنْ عَفا عنّا الجلالُ

(25) وإنّا يا حَبيبَ اللهِ نَسمو

نُفاخرُ مَن أدالوا أو أمالوا

(26) فإنْ تَبعوا؛ اهتدوا رِفقاً، وإنْ هم

جَفَوا نصباً، وطاحَ بهم خَبالُ

(27) تردّوا في جحيم النار صرعى

فلا فَزَعٌ يفيدُ، ولا نِضالُ

(28) حبيبَ اللهِ، محبوبُ البرايا

ومحبوبُ الوجودِ، وما تزالُ

(29) صلاةُ اللهِ والتسليمُ قِرنٌ

عليكَ وآلِ صِدْق، لم يُطالُوا

(30) إلى حِينِ اللقاءِ بيومِ حَشْرٍ

على حَوْضٍ تُلاطِفُه الظلال.

 والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 8 أغسطس 2024

     مِنْ عِبَرِ التاريخِ:

ما قِصةُ صَبيغٍ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) ([1]).

سألني أحد الإخوة قال: «قرأت في طبقات الشافعيين لابن كثير ما نصّه:

« قال أبو نعيم بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي؛ أنّه سمع الشافعيَّ، يقول: حُكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ» قال السائل:

مَن صبيغٌ هذا، وما قصّته، وما علاقتُه بعلم الكلام،وما حُكمُ عمرَ فيه»؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام مالك في الموطّأ - كتاب الجهاد (991) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَنْفَالِ؟

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفَلِ، قَالَ القاسم: ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً!

ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟

قَالَ الْقَاسِمُ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذَا الرجلِ؟ مَثَلُ صَبِيغٍ الذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».

وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين.

فقصّة صبيغٍ إذنْ صحيحة، فمن هو صبيغ؟

ترجمه الحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 370) فقال: «صبيغ - بوزن عظيم - وآخره غينٌ معجمة، ابن عِسْلٍ، ويقال بالتصغير «عُسَيلٍ» الحنظليّ له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة».

وأمّا قصّته، فقد وردت من طرقٍ عديدة، صحيحةٍ وضعيفةٍ، ولنقتصر على بعض الروايات الصحيحة.

قال الإمام أحمد في فضائل الصحابة (717): حدثنا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:  حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ قال: أَتَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قومٌ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ؟

فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ.

قَالَ: فَبَيْنَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ يُغَدِّي النَّاسَ، إِذْ جَاءَهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَغَدَّاهُ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟

 قَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟

فَمَالَ إِلَيْهِ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ.

ثُمَّ قَالَ: احْمِلُوهُ حَتَّى تُقْدِمُوهُ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغاً ابْتَغَى الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعاً فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ» قال عداب: إسناده صحيح.

وقال الدارميّ في سننه (148): أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ - مَوْلَى عَبْدِاللهِ بنِ عمرِ؛ أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ!

قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ، فَتُصِيبَكَ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:

تَسْأَلُ مُحْدَثَةً؟ وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً!

ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ!

فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي؛ فَقَدْ وَاللهِ بَرَأْتُ!

فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ!

فَكَتَبَ عُمَرُ: «أَنْ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ»!

هذه خلاصةُ قصّة صَبيغِ بن عسل!

وأمّا تفسير صنيع عمر، رضي الله عنه؛ فقد قال أبو بكر الآجريُّ في كتاب الشريعة (1: 211): «فإن قال قائل: فمَن سأل عن تفسير (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً) استحقّ الضربَ والتنكيل به والهجرة؟!

قيل له: لم يكن ضرب عمر له، بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمرَ ما كان يَسألُ عنه مِن متشابه القرآن، من قبل أن يراه؛ علم أنّه مَفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نَفْعًه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجباتِ مِن علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم سنن رسول الله أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه؛ سأل عمر اللهَ تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يَحذَر غيرُه؛ لأنه راعٍ يجب عليه تَفقُّد رعيته في هذا، وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه».

وقال ابن بطّة الحنبليُّ في كتابه الإبانة الكبرى (1: 415):

«عسى الضعيفُ القلب، القليل العلم من الناسِ، إذا سمع هذا الخبر، وما فيه من صنيع عمر، رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك، ما لا يَعرفُ وجهَ المَخرجِ عنه، فيُكْثِر هذا من فِعل الإمام الهادي العاقل، رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاءُ مَن سأل عن معاني آيات من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحبَّ أن يعلم تأويلها؛ أن يُوجَعَ ضربًا، ويُنفَى، ويُهْجَرَ ويُشْهَّرَ؟

وليس الأمر كما يظنُّ مَن لا عِلم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويَفِدُونَ إلى خلفائه بعد وفاته -رحمة الله عليهم- ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرةً في إيمانهم، ويتعلَّموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم؛ فلما بلغ عمر-رَحِمَهُ الله- قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات، والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن مسائله غير هذا؛ علم من قبل أن يلقاه أنه رجلٌ بطَّال القلب، خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن، والتنفيرِ عما لا يهتدي عقله إلى فهمه، فيزيغ قلبه، فيهلك، فأراد عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن يكسره عن ذلك، ويذلَّه، ويشغلَه عن المعاودة إلى مثل ذلك».

ختاماً: هذه القصّة، كما وردت لدى أحباب عمر رضي الله عنه، ولكلِّ قارئٍ أن يفهمها كما يرى، مراعياً في ذلك أنّ من مذهب عمر؛ الاقتصارُ على ما يترتّب عليه عمل، وعدم الخوضِ فيما ليس تحته عمل!

وكان عمر لا يسمح لكلّ أحدٍ أن يعظَ الناس في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا لمن يأذن له هو.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.

الثلاثاء، 30 يوليو 2024

         التَصَوُّفُ العَليمُ:

العلمُ الكَسْبيُّ والعِلمُ الوَهْبيّ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لنْ أفصّل في هذا المنشور أقسامَ المعرفةِ ولا أقسام العلم، ولن أعرّج عن كُنْهِ العلم اللدنيّ، أهو ثمرةُ العلم الكسبيّ والتقوى والالتزام، أمْ هو مجرّد منحةٍ من الرحمان الرحيم لعبدٍ يحبّه اللهُ تعالى، وإن لم يَظهرْ للناسِ سببٌ من أسباب هذا الحبّ!

إنّما أقول: إنّ العلمَ الكسبيّ: هو بذلُ الجُهدِ في تحصيلِ العلوم الدينيّة من منابعها الأصليّة: الكتابِ والسنّةِ وعلوم آل البيتِ، وعلوم المجتهدين في الأمّة.

والعلم الوهبيُّ: فهو كما قال الإمامُ عَليٌّ عليه السلام، وقد سئل: هل خَصّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من دون الناس؟

فقال: «لا والذي فَلَقَ الحبَّة، وبَرَأَ النَسَمة، إِلاَّ فَهماً يُؤتيهِ اللهُ عَبداً فى كتاب الله» فهذا هو العِلْمُ اللدُنيُّ الحقيقيّ.

ومن مظاهر العلمِ الوهبيّ العلمُ الإلزاميّ «الإفحاميّ» وسأذكر ثلاثَ صورٍ عاينتها بنفسيّ، والله شاهدٌ على قلبي ولساني:

- الصورةُ الأولى: تعرفت عام (1992) إلى سيّدي الدرويش «السيّد محمود النعيميّ» رحمه الله تعالى، وكان مقيماً في الحضرة القادريّة ببغداد.

دخلتُ إليه أوّلَ مرّةٍ كان مريضاً، فجلسَ واستقبلني معتذراً، ثم ألقى عليّ محاضرةً في علم «القراءاتِ» أبهرني بها، وكنت أحدّث نفسي وهو يحاضر عليّ، فأقول: هذا الكلام لا يحسنه شيخي محمد سليمان أحمد، ولا شيخي سعيد عبدالله الخالدي، ولا شيخي إبراهيم عبدالرحمن خليفة، ولا أحسنه أنا، وسأفرّغ نفسي لإكمالِ (القراءات السبعِ) عليه!

عندما انتهى من محاضرته، التي استغرقت أكثر من نصف ساعةٍ جزماً؛ استأذنته وانصرفت!

لم يتسنّ لي أن أتلقَّ علم القراءات عليه، إنما كنتُ أزوره مرّةً في كلّ أسبوعٍ تقريباً.

بعد مدّةٍ لا تقلّ عن سنةٍ؛ أجزتُ بالقراءةِ والإقراءِ خمسة من طلّابي هم: السيّد سؤدد المفتي، والشيخ فيصل غازي خلف، والدكتور الشيخ أحمد عبدالستّار جسْملة العبيديّ، والددكتور المقرئ السيّد محمد مساهر المعموري، والدكتور الشيخ سعد جاسم الزبيديّ.

ألحّ عليّ الشيخُ «فيصل غازي» لأقرئه خلافيّاتِ شعبةَ عن عاصم؛ فقلت له: يمكن أن أقرئك إيّاها، لكنّ شيخي الشندويلي؛ أقسم أنّه لن يجيزني إلّا بالسبع!

لكنني أدلّك على من هو أعلم مني ومن جميع مشايخي بالقراءاتِ، وستجده متفرّغاً لك، لم أذهب إليه مرّةً، ووجدت عنده أحداً، قال مَن هو؟ قلت: الشيخ محمود النعيميّ!

قال: شيخي هذا درويش أميّ، أظنّه لا يعرف القراءةَ والكتابةَ!

قلت له: تشكّك بقدراتي العقلية والعلمية يا فيصل؟

قال: أمرك سيّدي!

كتبتُ له ورقةً أرجو فيها من شيخي محمود النعيمي أن يقرئه خلافيّات شعبةَ فحسب!

استقبل الشيخ محمود فيصلاً باسماً وقال له قبل أن يعطيه الورقة: «ظننّا شيخك السيّد عداب، أعلى مقاماً من مقامه، وخفت عليه من العجب!

دخل عليّ شيخك عداب، وهو نورٌ، فعلمتُ أنّه يعلّم القرآن الكريم، فأحببتُ أن ألقّنه درساً يمنعه من العُجبِ بعلمه ما دام على قيد الحياة، فشرحت له في علم القراءات ما أبهره وصغّر نفسه لديه.

أمّا أنا يا ولدي؛ فلا أحسن قراءةَ الفاتحة كما تقرؤها أنت!

سلّم على شيخك السيّد، وأوصيكم أن تلزموه وتأخذوا ما لديه من العلوم».

ذهبتُ إلي الشيخ محمود؛ لأستفهم منه؛ فأمرني بالسكوت وعدم السؤال، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ورضي عنه.

الصورةُ الثانية: عقبَ رفضِ اللجنةِ الفاحصةِ الجاهلةِ أطروحتي «الوحدان من رواة الصحيحين» عام (1995) تعبتُ نفسيّاً كثيراً!

فقلتُ: أسافرُ إلى جدّي الإمام عليّ عليه السلام في النجف؛ لأروّح عن نفسي قليلاً، وأعقد معه مرابطةً لعلّه يقع في قلبي شيءٌ يريحني!

اتّصلتُ مع تلميذي السيّد «عمران الموسويّ» وهو جعفريٌّ إماميّ، وعرضتُ عليه الفكرةَ، فوافق، وسافر معنا واحدٌ أو اثنان، وربما أكثر، لا أتذكّر!

كنتُ إذا قصدتُ أحدَ أجدادي الأئمّة؛ لا أتكلّم بكلامِ الناس أبداً، مهما كان الطريق طويلاً، إنما أقطعه ببعض الأوراد القرآنيّة!

عندما وصلنا إلى عتبةِ المشهد العلويِّ؛ قبّلت العتبةَ وأطلتُ العتابَ؛ ففاحت روائح عطريّةٌ ملأت المكانَ، حتى أحسّ بها كلّ من في الحضرة العلويّة ومن معي طبعاً.

امتلأت الحضرة بالتهليل والتكبير والبكاء والدعاء؛ حتى إذا وصلنا عند رأسه الشريفِ؛ وجدنا مكاناً فارغاً يتّسع لعددٍ من الأشخاص، صلينا فيه، وتلونا ما شاء الله لنا أن نقرأ، ورابطتُ مع سيدي الإمام، ولم يجبني عن سبب هذه العقوبةِ المدوّية، إنّما بشّرني بالحصول على الدرجة بامتياز، وأشار إليّ أنّ الزيارة انتهتْ!

ودعناه، وخرجنا، وركبنا سيّارةَ السيد «عمران الموسويّ» والروائح الزاكيةُ تفوح منها.

وصلنا إلى محطّة البنزين، فنزل السيّد عمران ليملأ خزّان الوقود، فسمعته يصرخ:

يا الله! حتى البنزين تفوح منه رائحةُ الجنّة!

ركبَ السيّد عمران وهو يردد «البنزين عطر البنزين عطر» فضحكت وقلت له:

سيّد عمران: حدّثتني مرّةً أنّك خدمتَ الإمامَ الخمينيّ في النجف برهةً من الزمان؟

قال: إي والله! وذكر سنواتٍ عديدةً نسيتُ عددها!

قلت له: دخلتَ معه إلى الحضرةِ العلويّة؟ قال: مرّاتٍ كثيرةً!

قلتُ له: هل استقبله جدّنا الإمام عليه السلام، بمثلِ ما استقبلنا به؟

قال: لا والله، لا هو ولا سائر مشايخنا الذين صحبتهم إلى حضرته!

ضحكت وقلت له: أليس هذا دليلاً على أنّنا نحن على الحقّ؟ قال: بلى والله أنت على الحقّ دائماً، وأنت مدلّل على جدنا وسيّدنا الأمير عليه السلام.

والسيد عمران يقيم في الكاظمية، فمن شاء أن يسألَه فهو معروف هناك للقاصي والداني.

- الصورة الثالثة: زارتني والدتي «الخاتون خديجة بنت محيي الدين النشتر الأيوبيّة» في شهر رمضان عام (1400 هـ) في مكّة المكرمة.

قالت لي ذات يوم، وهو يوم (18) رمضان: خذني إلى الحرم الشريف يا ولدي، أنا لستُ قادمةً لأجلس في بيتك، أريد أن أملأ عينيَّ من الكعبة المشرّفة!

ركبنا في سيّارتي، وفي أثناء الطريق قالت لي: عندي لك كلمتان يا عداب!

قلت: تفضّلي سيّدتي!

قالت: أنا سأموتُ بعد أربعةِ أشهر من الآن، وما جمعتُه من ذهبٍ حلالٍ في هذا العمر الكئيب؛ أوصيت به إليك، وهو في أيدٍ أمينةٍ، متى أنا متُّ؛ سيصلُ إليك الذهب هنا في مكة المكرمة، فلا تقلق!

غادرَتْ إلى سوريّا، ثمّ جاءني نعيها في (18) من محرّم الحرام، عام (1401 هـ) رحمها الله تعالى، ورضي عنها.    

هذا العلم اللدنيّ، أو العلم الإلزاميّ؛ هو لإقامة الحجة أو البرهان الحاضرِ فحسب!

ومَنْ يظنُّ المشايخَ والصالحينَ يستغنون عن العلم الكسبيّ، أو أنهم يتعلّمون عن طريق العلم اللدنيِّ المباشر؛ فهو جاهلٌ أحمق، والذي يقول: إنّ مشايخَ الصوفيّة مستغنون عن تعلّم العلوم الشرعيّة؛ لأنّ الله تعالى يعلّمهم مباشرةً من دون تعليمِ أحدٍ؛ كذّاب أشرٌ هو ومشايخُه النصّابون أولئك!

والله تعالى أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

الاثنين، 15 يوليو 2024

 بعيداً عن السياسة اللعينة:

إلى رحابِ كربلاء!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين.. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين.

وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيّنا محمّدٍ رسول ربّ العالمين.

اللهم صلّ على محمّدٍ وآله وأزواجه وذريّته، وبارك وسلّم تسليماً كثيراً.

اللهم صلّ على سيّدنا محمد الوصفِ والوحيِ والرسالة والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

أمّا بعدُ: ليس تجديدُ الأحزانِ من شعائر الدينِ، وليس عقدُ مواسمَ للنواحِ والعويلِ من سنّةِ سيّد المرسلين، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ونحن إذ نحيي ذكرى كربلاءَ الفاجعةَ؛ لا نحثُّ أحبابَ الحسينِ على محادّةِ شعائرِ الله تعالى، ولا نهديهم إلى الندبِ والنواحِ والتطبير!

إنّما نحيي هذه الذكرى الحزينة؛ لنتعلّمَ منها أنّ الحقَّ يحتاجُ إلى قوّةٍ تحميه، وأنّ العدلَ لا يقيمه بين الناسِ الظالمونُ ولا الفجّارُ، ولا المنافقونَ!

قال الذهبيّ في ترجمة الطاغية يزيدَ بنِ مُعاوية من النبلاء (4: 35):

يَزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب الأمويّ، كان ناصبيّاً، فظّاً، غليظاً، جِلفاً، يَتناول المُسكرَ، ويَفعلُ المُنكرَ.

افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يُبارك في عُمره.

وقال الذهبيّ أيضاً: عن محمّدِ بنِ أحمدَ ابنِ مِسْمَعٍ قال: سَكرَ يزيدُ، فقام يَرقُص، فسقط على رأسه فانشقَّ، وبدا دماغُه.

قال عداب: نهنّئ أحباب هذا الطاغية،  بخليفتهم الشرعيّ الذي تجب طاعته، ويحرُم الخروج عليه، وقد أخطأ الحسين في خروجه على هذا الوغد السافل عندهم!

وقال الذهبيّ في ترجمة الحسين بن عليّ عليهما السلام، من النبلاء (2: 280):

الامامُ الشريف الكامل، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، ومحبوبه، أبو عبدِالله الحسينُ بن أميرِ المؤمنينَ أبي الحسنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ القُرشيُّ الهاشميّ.

قال الفقير عداب: لَنا هذا الإمامُ الشريف الكامل، وللنواصبِ ذلك الفظُّ الغليظُ، الجِلفُ، الناصبيُّ، الذي يَتناولُ المُسكرَ، ويَفعل المنكرَ، ومعه الدنيا كلّها (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

إلى رحاب كربلاء.. رحابِ الفداء

يَمِّمْ رحالَك نحو الحقِّ مُقترِبا

تلْقَ الفداءَ بسوحِ الطاهرينَ إبَا

الحرُّ يأبى خضوعَ الصاغرينَ رضاً

ويَمتطي صهوةَ الأقدارِ مُحتسبا

إمّا حياةٌ بظلِّ الحقِّ يَصْحَبها

أو في الشهادةِ سوحُ المخْبتين ربى

يا أرضَ مكّةَ مِن قُدسِ المكان حَبا

فيك الهواشمُ أشبالاً، سمَوا رُتبا

فيكِ السيادةُ، دانُ العرب واصطلحوا

أنّ الهواشمَ منها في الذرى نَسبا

سادوا، فكانوا ليوثاً في الوغى رَهَباً

وفي السلام تراهُمْ - كلَّهم - نُجَبا

حتى اصطفى الله منهم، دون غيرهم

هادي الورى منقذاً، أحيا به العَربا

هذا الرسولُ الذي سوّى بِشرعَتِه

بين الظواهرِ والبَطحاءِ، فاصطحبَا

إنّ الظواهِرَ من «تَيمٍ» وإخوتِهم

بني عديّ غدَوا في دينِه أُدَبا

حتى إذا قامَت البطْحاءُ هادرةً

في وَجْه أحمدَ إكذاباً ومحتَرَبا

وأجمعوا أمرَهم في كيدِه زُمراً

أورى الهواشمُ في ساداتِهم حَطَبا

ما كانَ أردى عديٌّ فارساً أبداً

ولا بنو تيمَ صدّوا في الوغى وَشَبا

وفَتحُ مكّةَ أَعْرى كلَّ ذي شمَمٍ

حتى الأباطِح أمسَوا أَعْبداً شُحُبا

لكنّ أحمدَ من نُبلٍ ومن كَرَم

قد أعتقَ الطُلقا طرّاً، وما رَغِبا

كادوا له، حاربوه الدهرَ، وانصرموا

واستبْطَنوا حقدَ موتور، إذا اضطربا

حلَّ الرسولُ جنانَ الخلدِ، فاجتمعوا

وقرّروا جعلَ حقِّ الآل مَحتَجِبا

وزادهم رغبةً في الملك، إذ وجدوا

الأوسَ والخزرجَ الأنصار قد نَكَبا

لولا تدارُك فاروقٍ ببيعتِه

وبيعةِ السادةِ الأنصار مَنْ نُصِبا

كانتْ قريشٌ تريدُ الملكَ قاهرةً

والصادقونَ قليلُ، رأيُهم حُجِبا

 الصادقون: هم المهاجرون، وهذه صفتهم في القرآن.

قال الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

إنّ الضَرورةَ فلّتْ من عزائمهم

واستسلمُ الآلُ، لا ميناً ولا كَذِبا

عزُّ العقيدةِ، أم عزّ القَبيلِ تُرَى

أم قلّةُ الدينِ، أمْ خوفُ المماتِ رَبا

سادَ الأكابرَ فُجارٌ، فما اتّعظوا

وأخضعوهم، فعاشوا دهرَهم رَهَبا

حتى تربّع عرشَ المسلمين فتىً

لا يعرفُ الدينَ والأخلاقَ والكُتبا

كلُّ الصحابةِ صافاه وبايعَه

إلّا الحسينَ رآه فاجراً خَرِبا

ما كان للدين أن يحدوه مُفتقرٌ

للدين والأدبِ المعروفِ، مُنَتَجَبا   

قال الحسينُ: أبَى الرحمنُ بيعَتَه

ما كان مثلي بأهلِ العُهرِ مقتربا

الفاسقُ الخَبُّ قوّاطاً، يُباعِده                        = القوّاط راعي قطيع من الغنم.

أهلُ الكرامةِ، لا يرضونَه غَبَبا

ونرتضي نحن فَجّاراً ليحكُمَنا

بالقارعاتِ، فلا كُنّا إذنْ شُهُبا

نحنُ الهواشمُ كان الحقُّ قائدَنا

في الجاهليةِ، لا نألوه محتَسَبا

فكيف نرضى أميرَ المؤمنين بنا

من أفجر الخلقِ أخلاقاً إذا نُسبا

لا دينَ يردعه عند الخصام، ولا

مكارمُ الدين تُعلي عنده الرتبا

يأبَى الحسينُ لهذا الوغدِ بيعتَه

ويرفضُُ الأمسِ جعلَ  البيتِ مُحترَبا

وفضّلَ السفرَ المضني بأسرتِه

عمّا يؤول إليه البغيُ محترِبا

واستقبلَ الفارسُ الصِنديدُ جَحفَلَهم

وبعضهم من قريشٍ قادَهم بِدَداً

عضَّ النواجذَ، واستبقى لعترتِه

ثوبَ الشهادةِ نبراساً، وليس عَبا

الحقُّ أنتَ حسينٌ في مصارِعه

وأنتِ للحقّ دونَ الخلقِ زِدْتَ إبا

الحقُّ ينصره عِلمٌ ومعتقدٌ

وقوّةٌ تدفَعُ الأغيارَ عنه هَبا

وأنتَ يا سيّد الأحرار كنتَ هدىً

وفارساً أنفاً لا ترتضي وَشَبا

ونحنُ آلُك - آلَ البيتِ - في زمنٍ

أضحَى الدنيءُ لنا نِدّاً ومنتَجبا

لكنّ فينا بقايا من أرومتكم

فيها النقاءُ سما، والعزّ ما نضبا

وسوف نَسعى لنحيا مثلَكم أُنُفاً

ولا نبيحُ لأيٍّ كانَ مغتصَبا

عليك منّا سلامٌ ليس يحمله

إلّا الغرام بكم، والحبّ مُختَضِبا

ثمّ الصلاةُ على المختار أحمدنا

خيرِ البريّة عُجماً كانَ أم عَربا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.