الأربعاء، 2 أكتوبر 2024

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ:

هلْ سبُّ اللهِ طلاق؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

وصلَ إليّ السؤال الآتي:

(إذا سبّ أحدُ الزوجينِ (الله) تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أو أحدَ الأنبياءِ، أو سبّ الدين، كأن يقول: (يلعَن دينه) أو يقول: (دينك صرماية) أو أيَّ لفظةٍ أخرى يراد منها (تحقيرُ الدين) هل يُعدّ طلاقاً)؟ وشكرا لكم.

أقول وبالله التوفيق:

لا يختلف علماءُ الإسلامِ المتقدّمون؛ أنّ سبّ (اللهِ) تعالى، من أشدّ أنواع الكفر، وبعده في المرتبة سبّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فمن سبّ الله تعالى، بلعنٍ، أو بتنقيصٍ، أو بشتمٍ، أو سبَّ الرسولَ، بلعنٍ أو بتنقيصٍ أو بشتمٍ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام؟

وقد اختلفُ العلماء في آثار هذا السبُّ على الزوجيّة:

(1) فالذين قالوا: من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم؛ يُقتَلُ فوراً من دون استتابة، فتكون زوجته بائنةٍ منه، ولا توارثَ بينهما.

والحكم ذاته، لو أنّ المرأة هي من سبّ الله تعالى، أو الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلّم.

(2) والذين قالوا: يُستتابُ الزوج أو الزوجة المرتدّ بلفظة الكفر؛ قالوا: بعد تلفظ أحد الزوجين بالكفر؛ لا يحلّ لأحدهما من الآخر؛ ما كان يحلّ له في أثناء قيام الحياة الزوجية بينهما، ويفرّق بينهما من دون احتسابِ تلفّظه بالكفر طلاقاً، إنّما هو فرقة.

فإن تاب وجدّد إسلامَه؛ يمكنه مراجعةِ زوجته، ولا تحنسب عليه طلقةً.

وإنْ لم يتب بعد تلفّظه بالكفر حتى انتهت العدّة؛ فيمكنه أن يخطب زوجته السابقة، ويتزوّجها شأنه شأنُ أحد الخاطبين، ولا يحقّ له إجبارُها على الرجعة إليه، بدعوى أنّها زوجته.

أمّا من سبّ (الدينَ) فليس حكمه واحداً:

فمن سبّ (دينَ الإسلام) بهذا القيدِ؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومن سبّ (صلاةَ المسلمين) أو أيّ فريضةٍ من فرائضِ الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة؛ فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم!

ومَن قال (ألعن دينك، أو شريعتك، أو مذهبك، أو ملّتك) فقد ارتدّ عن الإسلام، وحكمه هو ما تقدّم.

إلّا إنْ كان من أهلِ العلم، فيوقَفُ ويُحَلّفُ أنّه لم يُرد في قوله واحدةً من تلك الكلمات الإسلام، وإنما أرادَ من(دينها) تعاملها السيّء معه، وأراد من (شريعتها) ما تتبناه من آراء باطلة، وكذلك بقية الكلمات المماثلة.

فإنْ حلفَ أنّه لم يقصد الكفرَ أبداً، ولا تحقير أو تصغير (الدين الإسلاميّ) فتبقى زوجته على حالِها ظاهراً، أمّا في الباطن؛ فبينه وبين الله تعالى.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 26 سبتمبر 2024

مسائل من الفقه والأصول:
أبو حنيفة يبيح زنا المحارم؟!
سألني سائلٌ قال: هل صحيح أنّ أبا حنيفةَ يُبيح نكاح المحارم، وإذا زنى أحدهم بمحرمه أمّا أو أختاً أو بنتاً؛ لا يُقامُ عليه الحدّ؟
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: استمعتُ إلى أحدِ خطباءِ الرافضة منذ برهةٍ يقول: (أنا لا أعترف بالمذاهب كلّها، سوى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، تَدْزون ليش؟ لأنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم!
فقلت في نفسي: ابتُلينا بالإماميّة الاثني عشريّة، مثلما ابتلينا بالحنابلة، الذين يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية!
الجعفريّة يقولون: مذهبنا مذهب الأئمة المعصومين من آل البيت، ولا يجوز الخروج عن مذهبهم بحال؛ لأنّ الله تعالى على لسان رسوله، جعلهم قُرناءَ القرآن الكريم.
والسلفيّة يقولون: مذهبنا الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة!
والحقيقة أنّ مذهبهم هو فتاوى المعاصرين من شيوخهم (ابن باز - وابن عثيمين - والفوزان) وضربائهم.
وسواء اعترف هذا الرافضي بمذاهب أهل السنّة أم لم يعترف؛ فهو من ؟!
إذ الواقع يقول: إنّ ملياراً ونصفَ مليار مسلم، يدينون الله تعالى بمذاهب أهل السنة، منهم مليار مسلمٍ - في الحدّ الأدنى - هم أتباع الإمام أبي حنيفة!
ثانياً: أمّا قوله الذي نقله إليّ السائلُ، وسمعت أنا مثلَه: (إنّ أبا حنيفة يبيح زنا المحارم) فنبرأ إلى الله تعالى من أيّ إنسانٍ يفتي بهذه الفتوى، أو يذهب هذا المذهب الكفريّ!
أجل هو مذهب كفريّ؛ لأنّ الله تعالى يقول:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ.
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ؛ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً).
فأيّ إنسانٍ أفتى بجواز نكاح واحدةٍ من هذه المحارم؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن ملّة الإسلام!
فكيف يفتي أبو حنيفةَ بزنا المحارم؟
نعوذ بالله من الهوى الطائفيّ والمذهبيّ، الذي يعمي بصيرة المقلّد، فلا يعود يعقل!
ثالثاً: ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهم قالوا ما معناه: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) والمرفوع ضعيف لا يحتج به!
فإذا عقدَ رجل على إحدى محارمه عقداً شهدَ عليه شاهدان؛ فهذا العقدُ يحول دون إقامةِ حدِّ الزنا عن العاقدَيْن كليهما، بسبب شبهة العقد.
قسم الحنفية الشبهاتِ إلى ثلاثة أنواع: (شبهةُ في الفعل، وشبهة في المحلِّ، وشبهةٌ في العقد).
قال الحنفيّة: (يَثْبُتُ دَرْء الحدِّ بِشُبهَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي (نِكَاحِ الْمَحَارِمِ) النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ؟!
فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحدَى مَحَارِمِهِ بَعدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ! وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً، لاَ حَدًّا، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بالتحريم؛ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ.
فَوُجُودُ الْعَقْدِ؛ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) الموسوعة الفقهية الكويتية.
رابعاً: لا ريبَ عندي في أنّ هذه المسألةَ من أشنعِ المسائلِ الفقهيّة، المنقولةِ عن أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
بيدَ أنّ أبا حنيفة يقول: بحرمة نكاح المحارم قطعاً، كغيره من فقهاء الإسلام.
وأبو حنيفةَ يحرّم وَطء الرجل إحدى محارمه بعقدٍ أم بدون عقدٍ، وحاشاه أن يفتي بجواز نكاح المحارم بعقد، فضلا عن إباحةِ الزنا بهن، والعياذ بالله تعالى.
بل إن أبا حنيفة يقول: إذا كان المسلم الذي نكح إحدى محارمه عالماً بالتحريم؛ (يُعَاقَبُ عُقُوبَةً، هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعزِيرِ، سِيَاسَةً، لا حدّاً).
فالقولُ بأنّ أبا حنيفة يجيز زنا المحارم، أو حتى نكاح المحارم؛ كذب وافتراءٌ عليه وعلى الحنفية، رحمهم الله تعالى.
خِتاماً: مسألة (العقد) عند أبي حنيفة مسألة معقّدة جدّاً، ولها مصاديق كثيرةٌ صحيحة عند الحنفيّة؛ باطلة عند غيرهم من علماء الإسلام، وأئمة المسلمين، من مثل:
جواز أن يبيع صاحبُ الكرم عِنبَه لمن يعلم أنّه سيجعله خمراً.
جواز أن يؤجّر الإنسان منزله ليجعله المستأجرُ بيت نارٍ، أو كنيسةً، أو دار بغاء!
وأمثال هذه المسائل المستشنعةِ، التي نبرأ إلى الله تعالى من الفتوى بها، أو استحلال العمل بها.
بيد أنّ على المسلم، شيعيّاً كان، أم سنيّاً، أم إباضيّاً، أم غير مذهبيٍّ؛ أن يكون صادقاً أميناً فيما ينقله عن مذهبه وغير مذهبه، وإلّا كان كذّاباً ساقطَ العدالةِ عند المسلمين.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 19 سبتمبر 2024

  اجتماعيات:

قصيدةُ المولد النبويّ الشريف!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة].

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ: إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ؛ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) [الأنبياء].

بمناسة عيدِ المولدِ النبويّ لعام (1446) الموافق (20/ 9/ 2024) جاشتْ هاته المعاني بخاطري، فنطق بها لساني شعراً، قال:

(1) رسولَ اللهِ حارَ بي المآلُ

وزاد الخوفُ، وارْتَجفَ المقالُ

(2) وما عُمري - وطاعاتي نُزورٌ -

سينفعني، إذا كثرتْ نَصالُ

(3) وما أدري إلى  عَفوٍ وصَفحٍ

عن الزلّاتِ، أم حَجَرٌ يُشالُ؟

(4) ذنوبيَ يا رسولَ اللهِ شَتّى

فُتورٌ، وانفعالٌ، وانتِقالُ

(5) وما بي يا رسولَ الله شِرْكٌ

ولا شَكٌّ يُوالِسُ، أو يُدالُ

(6) ولا أغشَى الفواحشَ قاطباتٍ

ولا أغفو، فيسرِقُني الضلالُ

(7) ولكنّي - رسولَ اللهِ - قِرْمٌ

منَ الأشرافِ، يُحزُنه الثِقالُ

(8) يَرى الأشرافَ ساداتِ البرايا

وقد ظُلِموا، وحَطَّ بهم نَكالُ

(9) ولم يُنصِفْهمُ أبداً غَشومٌ

ولا عَدْلٌ يُظنُّ، ولا ثِمالُ

(10) إذا ما الرافضيُّ قلاهُ خُلْفاً

وناصبه النواصبُ، واستطالوا

(11) فكيف يَعيشُ في دُنياه حرّاً

وكيفُ يَعولُ، حينَ هو المُعالُ؟

(12) هو المهضومُ بين الناس طرّاً

لمَنْ يَشكو، وما ثمَّ احتفالُ؟

(13) إليكَ لجأتُ يا جدّاهُ، عَلّي

من الرحمنِ، يُسعفني نَوالُ

(14) فقد ضاقَت بي الدنيا، وضَنّتْ

وأعمامي جَفَوني والخَوالُ

(15) رسولَ اللهِ، والآلام شتّى

على آلِ الرسول، وهم شِبالُ

(16) شِبالٌ يرفضونَ الذلَّ طبعاً

ولو خضع الأنام له، ومالوا

(17) رسولَ اللهِ لا نبغي علوّاً

بأرضِ الناسِ، لو كانوا استطالوا

(18) وما نبغي سوى حقٍّ قديمٍ

به القرآنُ جاءَ، وإنْ أطالوا

(19) رسولَ اللهِ يا هادي البرايا

ويا نوراً تَضيء به الجِبالُ

(20) توسّلنا إلى الرحمن، نرجو

بكم رِزْقاً، تَتيهُ به الغِلالُ

(21) ونرجو من شفاعتكم بدنيا

سلامتنا، فيجفونا الوَبالُ

(22) فنحيا في ظلالِ الحقّ دوماً.

وإنْ متنا؛ فأنت لنا المآلُ

(23) وما في يوم القيامة من شفيعٍ

سواكَ لنا، إذا فَهِهَ المقالُ

(24) إذا أعطاكَ ربّك ما تمنّى

سترضَى إنْ عَفا عنّا الجلالُ

(25) وإنّا يا حَبيبَ اللهِ نَسمو

نُفاخرُ مَن أدالوا أو أمالوا

(26) فإنْ تَبعوا؛ اهتدوا رِفقاً، وإنْ هم

جَفَوا نصباً، وطاحَ بهم خَبالُ

(27) تردّوا في جحيم النار صرعى

فلا فَزَعٌ يفيدُ، ولا نِضالُ

(28) حبيبَ اللهِ، محبوبُ البرايا

ومحبوبُ الوجودِ، وما تزالُ

(29) صلاةُ اللهِ والتسليمُ قِرنٌ

عليكَ وآلِ صِدْق، لم يُطالُوا

(30) إلى حِينِ اللقاءِ بيومِ حَشْرٍ

على حَوْضٍ تُلاطِفُه الظلال.

 والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 8 أغسطس 2024

     مِنْ عِبَرِ التاريخِ:

ما قِصةُ صَبيغٍ ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) ([1]).

سألني أحد الإخوة قال: «قرأت في طبقات الشافعيين لابن كثير ما نصّه:

« قال أبو نعيم بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي؛ أنّه سمع الشافعيَّ، يقول: حُكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ» قال السائل:

مَن صبيغٌ هذا، وما قصّته، وما علاقتُه بعلم الكلام،وما حُكمُ عمرَ فيه»؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام مالك في الموطّأ - كتاب الجهاد (991) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَنْفَالِ؟

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفَلِ، قَالَ القاسم: ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً!

ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟

قَالَ الْقَاسِمُ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذَا الرجلِ؟ مَثَلُ صَبِيغٍ الذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».

وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين.

فقصّة صبيغٍ إذنْ صحيحة، فمن هو صبيغ؟

ترجمه الحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 370) فقال: «صبيغ - بوزن عظيم - وآخره غينٌ معجمة، ابن عِسْلٍ، ويقال بالتصغير «عُسَيلٍ» الحنظليّ له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة».

وأمّا قصّته، فقد وردت من طرقٍ عديدة، صحيحةٍ وضعيفةٍ، ولنقتصر على بعض الروايات الصحيحة.

قال الإمام أحمد في فضائل الصحابة (717): حدثنا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:  حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ قال: أَتَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قومٌ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ؟

فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ.

قَالَ: فَبَيْنَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ يُغَدِّي النَّاسَ، إِذْ جَاءَهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَغَدَّاهُ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟

 قَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟

فَمَالَ إِلَيْهِ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ.

ثُمَّ قَالَ: احْمِلُوهُ حَتَّى تُقْدِمُوهُ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغاً ابْتَغَى الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعاً فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ» قال عداب: إسناده صحيح.

وقال الدارميّ في سننه (148): أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ - مَوْلَى عَبْدِاللهِ بنِ عمرِ؛ أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ!

قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ، فَتُصِيبَكَ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:

تَسْأَلُ مُحْدَثَةً؟ وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً!

ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ!

فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي؛ فَقَدْ وَاللهِ بَرَأْتُ!

فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ!

فَكَتَبَ عُمَرُ: «أَنْ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ»!

هذه خلاصةُ قصّة صَبيغِ بن عسل!

وأمّا تفسير صنيع عمر، رضي الله عنه؛ فقد قال أبو بكر الآجريُّ في كتاب الشريعة (1: 211): «فإن قال قائل: فمَن سأل عن تفسير (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً) استحقّ الضربَ والتنكيل به والهجرة؟!

قيل له: لم يكن ضرب عمر له، بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمرَ ما كان يَسألُ عنه مِن متشابه القرآن، من قبل أن يراه؛ علم أنّه مَفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نَفْعًه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجباتِ مِن علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم سنن رسول الله أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه؛ سأل عمر اللهَ تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يَحذَر غيرُه؛ لأنه راعٍ يجب عليه تَفقُّد رعيته في هذا، وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه».

وقال ابن بطّة الحنبليُّ في كتابه الإبانة الكبرى (1: 415):

«عسى الضعيفُ القلب، القليل العلم من الناسِ، إذا سمع هذا الخبر، وما فيه من صنيع عمر، رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك، ما لا يَعرفُ وجهَ المَخرجِ عنه، فيُكْثِر هذا من فِعل الإمام الهادي العاقل، رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاءُ مَن سأل عن معاني آيات من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحبَّ أن يعلم تأويلها؛ أن يُوجَعَ ضربًا، ويُنفَى، ويُهْجَرَ ويُشْهَّرَ؟

وليس الأمر كما يظنُّ مَن لا عِلم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويَفِدُونَ إلى خلفائه بعد وفاته -رحمة الله عليهم- ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرةً في إيمانهم، ويتعلَّموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم؛ فلما بلغ عمر-رَحِمَهُ الله- قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات، والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن مسائله غير هذا؛ علم من قبل أن يلقاه أنه رجلٌ بطَّال القلب، خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن، والتنفيرِ عما لا يهتدي عقله إلى فهمه، فيزيغ قلبه، فيهلك، فأراد عمر -رَحِمَهُ اللهُ- أن يكسره عن ذلك، ويذلَّه، ويشغلَه عن المعاودة إلى مثل ذلك».

ختاماً: هذه القصّة، كما وردت لدى أحباب عمر رضي الله عنه، ولكلِّ قارئٍ أن يفهمها كما يرى، مراعياً في ذلك أنّ من مذهب عمر؛ الاقتصارُ على ما يترتّب عليه عمل، وعدم الخوضِ فيما ليس تحته عمل!

وكان عمر لا يسمح لكلّ أحدٍ أن يعظَ الناس في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا لمن يأذن له هو.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمدُ للهِ على كلّ حال.

الثلاثاء، 30 يوليو 2024

         التَصَوُّفُ العَليمُ:

العلمُ الكَسْبيُّ والعِلمُ الوَهْبيّ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لنْ أفصّل في هذا المنشور أقسامَ المعرفةِ ولا أقسام العلم، ولن أعرّج عن كُنْهِ العلم اللدنيّ، أهو ثمرةُ العلم الكسبيّ والتقوى والالتزام، أمْ هو مجرّد منحةٍ من الرحمان الرحيم لعبدٍ يحبّه اللهُ تعالى، وإن لم يَظهرْ للناسِ سببٌ من أسباب هذا الحبّ!

إنّما أقول: إنّ العلمَ الكسبيّ: هو بذلُ الجُهدِ في تحصيلِ العلوم الدينيّة من منابعها الأصليّة: الكتابِ والسنّةِ وعلوم آل البيتِ، وعلوم المجتهدين في الأمّة.

والعلم الوهبيُّ: فهو كما قال الإمامُ عَليٌّ عليه السلام، وقد سئل: هل خَصّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من دون الناس؟

فقال: «لا والذي فَلَقَ الحبَّة، وبَرَأَ النَسَمة، إِلاَّ فَهماً يُؤتيهِ اللهُ عَبداً فى كتاب الله» فهذا هو العِلْمُ اللدُنيُّ الحقيقيّ.

ومن مظاهر العلمِ الوهبيّ العلمُ الإلزاميّ «الإفحاميّ» وسأذكر ثلاثَ صورٍ عاينتها بنفسيّ، والله شاهدٌ على قلبي ولساني:

- الصورةُ الأولى: تعرفت عام (1992) إلى سيّدي الدرويش «السيّد محمود النعيميّ» رحمه الله تعالى، وكان مقيماً في الحضرة القادريّة ببغداد.

دخلتُ إليه أوّلَ مرّةٍ كان مريضاً، فجلسَ واستقبلني معتذراً، ثم ألقى عليّ محاضرةً في علم «القراءاتِ» أبهرني بها، وكنت أحدّث نفسي وهو يحاضر عليّ، فأقول: هذا الكلام لا يحسنه شيخي محمد سليمان أحمد، ولا شيخي سعيد عبدالله الخالدي، ولا شيخي إبراهيم عبدالرحمن خليفة، ولا أحسنه أنا، وسأفرّغ نفسي لإكمالِ (القراءات السبعِ) عليه!

عندما انتهى من محاضرته، التي استغرقت أكثر من نصف ساعةٍ جزماً؛ استأذنته وانصرفت!

لم يتسنّ لي أن أتلقَّ علم القراءات عليه، إنما كنتُ أزوره مرّةً في كلّ أسبوعٍ تقريباً.

بعد مدّةٍ لا تقلّ عن سنةٍ؛ أجزتُ بالقراءةِ والإقراءِ خمسة من طلّابي هم: السيّد سؤدد المفتي، والشيخ فيصل غازي خلف، والدكتور الشيخ أحمد عبدالستّار جسْملة العبيديّ، والددكتور المقرئ السيّد محمد مساهر المعموري، والدكتور الشيخ سعد جاسم الزبيديّ.

ألحّ عليّ الشيخُ «فيصل غازي» لأقرئه خلافيّاتِ شعبةَ عن عاصم؛ فقلت له: يمكن أن أقرئك إيّاها، لكنّ شيخي الشندويلي؛ أقسم أنّه لن يجيزني إلّا بالسبع!

لكنني أدلّك على من هو أعلم مني ومن جميع مشايخي بالقراءاتِ، وستجده متفرّغاً لك، لم أذهب إليه مرّةً، ووجدت عنده أحداً، قال مَن هو؟ قلت: الشيخ محمود النعيميّ!

قال: شيخي هذا درويش أميّ، أظنّه لا يعرف القراءةَ والكتابةَ!

قلت له: تشكّك بقدراتي العقلية والعلمية يا فيصل؟

قال: أمرك سيّدي!

كتبتُ له ورقةً أرجو فيها من شيخي محمود النعيمي أن يقرئه خلافيّات شعبةَ فحسب!

استقبل الشيخ محمود فيصلاً باسماً وقال له قبل أن يعطيه الورقة: «ظننّا شيخك السيّد عداب، أعلى مقاماً من مقامه، وخفت عليه من العجب!

دخل عليّ شيخك عداب، وهو نورٌ، فعلمتُ أنّه يعلّم القرآن الكريم، فأحببتُ أن ألقّنه درساً يمنعه من العُجبِ بعلمه ما دام على قيد الحياة، فشرحت له في علم القراءات ما أبهره وصغّر نفسه لديه.

أمّا أنا يا ولدي؛ فلا أحسن قراءةَ الفاتحة كما تقرؤها أنت!

سلّم على شيخك السيّد، وأوصيكم أن تلزموه وتأخذوا ما لديه من العلوم».

ذهبتُ إلي الشيخ محمود؛ لأستفهم منه؛ فأمرني بالسكوت وعدم السؤال، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ورضي عنه.

الصورةُ الثانية: عقبَ رفضِ اللجنةِ الفاحصةِ الجاهلةِ أطروحتي «الوحدان من رواة الصحيحين» عام (1995) تعبتُ نفسيّاً كثيراً!

فقلتُ: أسافرُ إلى جدّي الإمام عليّ عليه السلام في النجف؛ لأروّح عن نفسي قليلاً، وأعقد معه مرابطةً لعلّه يقع في قلبي شيءٌ يريحني!

اتّصلتُ مع تلميذي السيّد «عمران الموسويّ» وهو جعفريٌّ إماميّ، وعرضتُ عليه الفكرةَ، فوافق، وسافر معنا واحدٌ أو اثنان، وربما أكثر، لا أتذكّر!

كنتُ إذا قصدتُ أحدَ أجدادي الأئمّة؛ لا أتكلّم بكلامِ الناس أبداً، مهما كان الطريق طويلاً، إنما أقطعه ببعض الأوراد القرآنيّة!

عندما وصلنا إلى عتبةِ المشهد العلويِّ؛ قبّلت العتبةَ وأطلتُ العتابَ؛ ففاحت روائح عطريّةٌ ملأت المكانَ، حتى أحسّ بها كلّ من في الحضرة العلويّة ومن معي طبعاً.

امتلأت الحضرة بالتهليل والتكبير والبكاء والدعاء؛ حتى إذا وصلنا عند رأسه الشريفِ؛ وجدنا مكاناً فارغاً يتّسع لعددٍ من الأشخاص، صلينا فيه، وتلونا ما شاء الله لنا أن نقرأ، ورابطتُ مع سيدي الإمام، ولم يجبني عن سبب هذه العقوبةِ المدوّية، إنّما بشّرني بالحصول على الدرجة بامتياز، وأشار إليّ أنّ الزيارة انتهتْ!

ودعناه، وخرجنا، وركبنا سيّارةَ السيد «عمران الموسويّ» والروائح الزاكيةُ تفوح منها.

وصلنا إلى محطّة البنزين، فنزل السيّد عمران ليملأ خزّان الوقود، فسمعته يصرخ:

يا الله! حتى البنزين تفوح منه رائحةُ الجنّة!

ركبَ السيّد عمران وهو يردد «البنزين عطر البنزين عطر» فضحكت وقلت له:

سيّد عمران: حدّثتني مرّةً أنّك خدمتَ الإمامَ الخمينيّ في النجف برهةً من الزمان؟

قال: إي والله! وذكر سنواتٍ عديدةً نسيتُ عددها!

قلت له: دخلتَ معه إلى الحضرةِ العلويّة؟ قال: مرّاتٍ كثيرةً!

قلتُ له: هل استقبله جدّنا الإمام عليه السلام، بمثلِ ما استقبلنا به؟

قال: لا والله، لا هو ولا سائر مشايخنا الذين صحبتهم إلى حضرته!

ضحكت وقلت له: أليس هذا دليلاً على أنّنا نحن على الحقّ؟ قال: بلى والله أنت على الحقّ دائماً، وأنت مدلّل على جدنا وسيّدنا الأمير عليه السلام.

والسيد عمران يقيم في الكاظمية، فمن شاء أن يسألَه فهو معروف هناك للقاصي والداني.

- الصورة الثالثة: زارتني والدتي «الخاتون خديجة بنت محيي الدين النشتر الأيوبيّة» في شهر رمضان عام (1400 هـ) في مكّة المكرمة.

قالت لي ذات يوم، وهو يوم (18) رمضان: خذني إلى الحرم الشريف يا ولدي، أنا لستُ قادمةً لأجلس في بيتك، أريد أن أملأ عينيَّ من الكعبة المشرّفة!

ركبنا في سيّارتي، وفي أثناء الطريق قالت لي: عندي لك كلمتان يا عداب!

قلت: تفضّلي سيّدتي!

قالت: أنا سأموتُ بعد أربعةِ أشهر من الآن، وما جمعتُه من ذهبٍ حلالٍ في هذا العمر الكئيب؛ أوصيت به إليك، وهو في أيدٍ أمينةٍ، متى أنا متُّ؛ سيصلُ إليك الذهب هنا في مكة المكرمة، فلا تقلق!

غادرَتْ إلى سوريّا، ثمّ جاءني نعيها في (18) من محرّم الحرام، عام (1401 هـ) رحمها الله تعالى، ورضي عنها.    

هذا العلم اللدنيّ، أو العلم الإلزاميّ؛ هو لإقامة الحجة أو البرهان الحاضرِ فحسب!

ومَنْ يظنُّ المشايخَ والصالحينَ يستغنون عن العلم الكسبيّ، أو أنهم يتعلّمون عن طريق العلم اللدنيِّ المباشر؛ فهو جاهلٌ أحمق، والذي يقول: إنّ مشايخَ الصوفيّة مستغنون عن تعلّم العلوم الشرعيّة؛ لأنّ الله تعالى يعلّمهم مباشرةً من دون تعليمِ أحدٍ؛ كذّاب أشرٌ هو ومشايخُه النصّابون أولئك!

والله تعالى أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين.

الاثنين، 15 يوليو 2024

 بعيداً عن السياسة اللعينة:

إلى رحابِ كربلاء!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين.. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين.

وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيّنا محمّدٍ رسول ربّ العالمين.

اللهم صلّ على محمّدٍ وآله وأزواجه وذريّته، وبارك وسلّم تسليماً كثيراً.

اللهم صلّ على سيّدنا محمد الوصفِ والوحيِ والرسالة والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

أمّا بعدُ: ليس تجديدُ الأحزانِ من شعائر الدينِ، وليس عقدُ مواسمَ للنواحِ والعويلِ من سنّةِ سيّد المرسلين، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ونحن إذ نحيي ذكرى كربلاءَ الفاجعةَ؛ لا نحثُّ أحبابَ الحسينِ على محادّةِ شعائرِ الله تعالى، ولا نهديهم إلى الندبِ والنواحِ والتطبير!

إنّما نحيي هذه الذكرى الحزينة؛ لنتعلّمَ منها أنّ الحقَّ يحتاجُ إلى قوّةٍ تحميه، وأنّ العدلَ لا يقيمه بين الناسِ الظالمونُ ولا الفجّارُ، ولا المنافقونَ!

قال الذهبيّ في ترجمة الطاغية يزيدَ بنِ مُعاوية من النبلاء (4: 35):

يَزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب الأمويّ، كان ناصبيّاً، فظّاً، غليظاً، جِلفاً، يَتناول المُسكرَ، ويَفعلُ المُنكرَ.

افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يُبارك في عُمره.

وقال الذهبيّ أيضاً: عن محمّدِ بنِ أحمدَ ابنِ مِسْمَعٍ قال: سَكرَ يزيدُ، فقام يَرقُص، فسقط على رأسه فانشقَّ، وبدا دماغُه.

قال عداب: نهنّئ أحباب هذا الطاغية،  بخليفتهم الشرعيّ الذي تجب طاعته، ويحرُم الخروج عليه، وقد أخطأ الحسين في خروجه على هذا الوغد السافل عندهم!

وقال الذهبيّ في ترجمة الحسين بن عليّ عليهما السلام، من النبلاء (2: 280):

الامامُ الشريف الكامل، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، ومحبوبه، أبو عبدِالله الحسينُ بن أميرِ المؤمنينَ أبي الحسنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ القُرشيُّ الهاشميّ.

قال الفقير عداب: لَنا هذا الإمامُ الشريف الكامل، وللنواصبِ ذلك الفظُّ الغليظُ، الجِلفُ، الناصبيُّ، الذي يَتناولُ المُسكرَ، ويَفعل المنكرَ، ومعه الدنيا كلّها (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

إلى رحاب كربلاء.. رحابِ الفداء

يَمِّمْ رحالَك نحو الحقِّ مُقترِبا

تلْقَ الفداءَ بسوحِ الطاهرينَ إبَا

الحرُّ يأبى خضوعَ الصاغرينَ رضاً

ويَمتطي صهوةَ الأقدارِ مُحتسبا

إمّا حياةٌ بظلِّ الحقِّ يَصْحَبها

أو في الشهادةِ سوحُ المخْبتين ربى

يا أرضَ مكّةَ مِن قُدسِ المكان حَبا

فيك الهواشمُ أشبالاً، سمَوا رُتبا

فيكِ السيادةُ، دانُ العرب واصطلحوا

أنّ الهواشمَ منها في الذرى نَسبا

سادوا، فكانوا ليوثاً في الوغى رَهَباً

وفي السلام تراهُمْ - كلَّهم - نُجَبا

حتى اصطفى الله منهم، دون غيرهم

هادي الورى منقذاً، أحيا به العَربا

هذا الرسولُ الذي سوّى بِشرعَتِه

بين الظواهرِ والبَطحاءِ، فاصطحبَا

إنّ الظواهِرَ من «تَيمٍ» وإخوتِهم

بني عديّ غدَوا في دينِه أُدَبا

حتى إذا قامَت البطْحاءُ هادرةً

في وَجْه أحمدَ إكذاباً ومحتَرَبا

وأجمعوا أمرَهم في كيدِه زُمراً

أورى الهواشمُ في ساداتِهم حَطَبا

ما كانَ أردى عديٌّ فارساً أبداً

ولا بنو تيمَ صدّوا في الوغى وَشَبا

وفَتحُ مكّةَ أَعْرى كلَّ ذي شمَمٍ

حتى الأباطِح أمسَوا أَعْبداً شُحُبا

لكنّ أحمدَ من نُبلٍ ومن كَرَم

قد أعتقَ الطُلقا طرّاً، وما رَغِبا

كادوا له، حاربوه الدهرَ، وانصرموا

واستبْطَنوا حقدَ موتور، إذا اضطربا

حلَّ الرسولُ جنانَ الخلدِ، فاجتمعوا

وقرّروا جعلَ حقِّ الآل مَحتَجِبا

وزادهم رغبةً في الملك، إذ وجدوا

الأوسَ والخزرجَ الأنصار قد نَكَبا

لولا تدارُك فاروقٍ ببيعتِه

وبيعةِ السادةِ الأنصار مَنْ نُصِبا

كانتْ قريشٌ تريدُ الملكَ قاهرةً

والصادقونَ قليلُ، رأيُهم حُجِبا

 الصادقون: هم المهاجرون، وهذه صفتهم في القرآن.

قال الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

إنّ الضَرورةَ فلّتْ من عزائمهم

واستسلمُ الآلُ، لا ميناً ولا كَذِبا

عزُّ العقيدةِ، أم عزّ القَبيلِ تُرَى

أم قلّةُ الدينِ، أمْ خوفُ المماتِ رَبا

سادَ الأكابرَ فُجارٌ، فما اتّعظوا

وأخضعوهم، فعاشوا دهرَهم رَهَبا

حتى تربّع عرشَ المسلمين فتىً

لا يعرفُ الدينَ والأخلاقَ والكُتبا

كلُّ الصحابةِ صافاه وبايعَه

إلّا الحسينَ رآه فاجراً خَرِبا

ما كان للدين أن يحدوه مُفتقرٌ

للدين والأدبِ المعروفِ، مُنَتَجَبا   

قال الحسينُ: أبَى الرحمنُ بيعَتَه

ما كان مثلي بأهلِ العُهرِ مقتربا

الفاسقُ الخَبُّ قوّاطاً، يُباعِده                        = القوّاط راعي قطيع من الغنم.

أهلُ الكرامةِ، لا يرضونَه غَبَبا

ونرتضي نحن فَجّاراً ليحكُمَنا

بالقارعاتِ، فلا كُنّا إذنْ شُهُبا

نحنُ الهواشمُ كان الحقُّ قائدَنا

في الجاهليةِ، لا نألوه محتَسَبا

فكيف نرضى أميرَ المؤمنين بنا

من أفجر الخلقِ أخلاقاً إذا نُسبا

لا دينَ يردعه عند الخصام، ولا

مكارمُ الدين تُعلي عنده الرتبا

يأبَى الحسينُ لهذا الوغدِ بيعتَه

ويرفضُُ الأمسِ جعلَ  البيتِ مُحترَبا

وفضّلَ السفرَ المضني بأسرتِه

عمّا يؤول إليه البغيُ محترِبا

واستقبلَ الفارسُ الصِنديدُ جَحفَلَهم

وبعضهم من قريشٍ قادَهم بِدَداً

عضَّ النواجذَ، واستبقى لعترتِه

ثوبَ الشهادةِ نبراساً، وليس عَبا

الحقُّ أنتَ حسينٌ في مصارِعه

وأنتِ للحقّ دونَ الخلقِ زِدْتَ إبا

الحقُّ ينصره عِلمٌ ومعتقدٌ

وقوّةٌ تدفَعُ الأغيارَ عنه هَبا

وأنتَ يا سيّد الأحرار كنتَ هدىً

وفارساً أنفاً لا ترتضي وَشَبا

ونحنُ آلُك - آلَ البيتِ - في زمنٍ

أضحَى الدنيءُ لنا نِدّاً ومنتَجبا

لكنّ فينا بقايا من أرومتكم

فيها النقاءُ سما، والعزّ ما نضبا

وسوف نَسعى لنحيا مثلَكم أُنُفاً

ولا نبيحُ لأيٍّ كانَ مغتصَبا

عليك منّا سلامٌ ليس يحمله

إلّا الغرام بكم، والحبّ مُختَضِبا

ثمّ الصلاةُ على المختار أحمدنا

خيرِ البريّة عُجماً كانَ أم عَربا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم

مِن أوجاعِ كربلاء!؟

                                                                  قبل أنْ تقرأَ المنشور: لا يمثّلُ عداباً غيرُ عدابٍ، وهو لا يُمثّلُ غير نفسه!

إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ؛ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وصَفيُّه من خَلْقِهِ وخَليلُهُ.

صلّى اللهُ تعالى عَلَيهِ، وعلى آلِه الأطهارِ، وصحابتِه الأخيارِ، وزوجاتِه المنزّهاتِ عن الأغيارِ، وعلى ذرّيتِه الصالحينَ الأبرار، الصائمينَ في النهار، القائمينَ بكتابِ اللهِ تعالى في الليل والأَسْحارِ.

اللهمّ أحسن إلى مَن أحسنَ إلينا، وسامِحنا وسامِحْ من أساء إلينا من المسلمين.

أما بعد:

يحسن أن ننقلَ وَصفَ الإمامِ الحسينِ بن عليّ عليهما السلام، عن رجلٍ لا يُتّهم في ولائه لبني أمية!

قال الإمام الذهبي في النبلاء (3: 280):

(الحُسَيْنُ الشَّهِيْدُ أَبُو عَبْدِاللهِ بنُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، الإِمَامُ، الشَّرِيْفُ، الكَامِلُ، سِبْطُ رَسُوْلِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَرَيْحَانتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَحبُوْبُهُ) ولم يصف الذهبي أيّ متَرجَم بمثلِ هذه الأوصافِ، سوى الحُسينِ عليه السلام؟!!

لم تكن نَهضةُ الحسين بن عليّ عليهما السلام؛ نزوةً في نفس الحسين، ولم تكن شهوةَ حكم وسلطان، إنما كانت واجباً شرعيّاً، وتكليفاً دينيّاً، كما كان يفهمه هو حينئذٍ، وكما يفهمه آل البيت وأحبابُهم قديماً وحديثاً.

وحتى نصل إلى هذا الحكم؛ فلا بدّ من استعراض سريع لحياة الإمام الحسين في ظلّ الأحداث المتباينة التي عَصفَت بالأمّة، منذ لحظة وفاة الرسول صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَِ.

وسأشير إلى المحطّات الرئيسةِ إشاراتٍ عَجلى، تفصيلُها في موضع آخر يحتملها، في معالم رئيسة:

المَعْلَم الأوّل: لمحة تاريخية حتى وقت خروجه إلى العراق.

حين انتقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى جنان ربه تعالى في بداية عام (11 هـ) كان عمر الحسين (6- 7) سنوات، وهي سنّ يحفظ مثلُ الحسين فيها أشياءَ كثيرة، وكلّنا يتذكر في هذه السنّ وما قبلها عَشراتِ الحوادثِ، وخصوصاً الحوادثَ الحزينة.

عاصر الإمامُ الحسينُ وفاة جدّه المصطفى صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَ، وافتقد حنانه ودلاله ورعايته المتميزة.

عاصر الإمام الحسينُ بكاء ونَدَبةَ والدته سيدة نساء العالمين والدَها الرسولَ الأعظم، وقد أثّر في نفسه ذاك البكاءُ والحزنُ العميق.

عاصر الإمام الحسينُ انزعاج والديه من التصرفات الاضطرارية التي حصلت في سقيفة بني ساعدة، ما أدى إلى حدوث خلافٍ بين مَن بايعَ أبا بكرٍ، وبين الإمامِ عليّ.

عاصر الإمام الحسين هجومَ عمر وبعض من معه على بيت فاطمة، وتهديد عليّ والزبير ومن معهما بالقتلِ وإحراقِ البيتِ «وهذا أمر ثابتٌ من طرق عديدة» أمّا ضربُ فاطمةَ وإسقاطَ جنينها؛ فغير ثابتٍ البتّة.

عاصر الإمام الحسينُ صرف أمّه فاطمة عن حقوقها في ميراث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ووالداه يعتقدان أنّها حقوق مشروعة لهم، مُنعوا منها باجتهادٍ خطأ.

عاصر الإمام الحسين وفاةَ والدته، التي أوصت ألا يحضر دفنها أبو بكر ولا عمر، فدُفنَتْ ليلاً، ولم يخبرهما الإمامُ بوفاتها.

عاصر الإمام الحسين الفَلتةَ التي حَصلت في سقيفة بني ساعدة، ما أدّى إلى صرفِ الخلافة عن والده، ووالداه وسائر بني هاشم في ذلك التاريخ؛ يعتقدون أنهم أحقّ الناس بها.

عاصر الإمامُ حروب الردّة، وشاهدَ إحجام والده عن المشاركة في أيّ معركة خارج المدينة فيها.

ولا ريب في أنه سأل والده: لماذا لمْ تُشارك يا أبتاه؟ فعلم جواب والده المكتوم؟!

عاصر الإمام الحسينُ انتقالَ السلطة من أبي بكر إلى عمر بولاية العهد، وعلم رأيَ والده بهذه المسألة.

في عهد عمر، وربما بعدَ العاشرةِ من عُمر الحُسين؛ حضر مع والده إلى صلاة الجمعة في المسجد، فرأى عمر يخطب، فصعد إليه على المنبر، وقال له: انزل عن مِنبر أبي، واذهبْ إلى منبر أبيك!

فأخذه عمر معه إلى بيته، وقرّره إن كان أبوه علّمه أن يقول هذا؟

فلما حلف له الحسين أنْ لم يعلّمه أحد؛ علم عمر أنّ بني هاشم يرون أنفسهم الأحق في قيادة الأمة، فاجتهدَ في صرفها عنهم، حتى لا يكون الحكم في الإسلامِ وراثيّاً، أو ينحصر في أسرةٍ واحدةٍ، لكنه مهّد لقريشٍ عامّةً ولبني أميّة خاصّةً، فجعل منهم ولاةً على الأقاليم المهمة.

وعمرُ يعلم علم اليقين أنّ الخلافةَ إن وصلت إلى قريشٍ برضا الناس؛ فلن يتنازلوا عنها برضاهم، وجميعهم من الطلقاء الذين لا يعلم إلا الله وحده مدى استقرار الإيمان في قلوبهم، وقناعتهم بهذا الدين!

وعاصر الحسين هذه المرة وهو شاب جلْدٌ، حين فُتحت المدائن، وجاءت أحمال الذهب والفضة إلى المدينة (عام: 18 هـ) كيف أرسل عمر لعليّ حذوةً من المال قائلاً له: واسِ به فقراء بني هاشم، فجاء إليه عليّ يحمل المالَ، فقال: أهذا حَقّنا يا أميرَ المؤمنين؟

قال: هذه مواساةٌ يا أبا الحسن!

قال عليّ: إن لم يكن حقَّنا يا أمير المؤمنين؛ فلا حاجة بنا إليه!

فأخذه منه عمر، ورماه في بيت المال.

قال عليّ: ثم لم يراجعني في الخُمس، هو ولا مَن جاء بعده!

قال عداب: مَذهب أبي بكر وعمر وعثمان أنّ الخمس للخليفة بعد الرسول وليس لآل البيت «طعمة للقائم بالأمر من بعد الرسول صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَ، يتصرّف به حسبَ اجتهادِه»!

وقد قال عمر قولته التي غدت قاعدة اقتصادية كبرى: «أحقّ الناس بهذا المال أحوجهم إليه، وأكثرهم عدداً».

ومن فَضل الله تعالى أنّ المذاهب الأربعة السنيّة على خلاف أبي بكر وعمر وعثمان في هذه المسألة، وإن اختلفوا في التفاصيل، بيد أنّ الواقعَ التطبيقيَّ ماضٍ على مذهبِ الخلفاء، فآل البيت على مدار تاريخنا الإسلاميّ؛ يم يعطَوا حقّهم من الخمس قطّ، إنما كان بعض الملوكِ والسلاطين يخصّهم ببعضِ حقوقهم!

وعاصر الإمامُ الحسين مسألةَ ترتيب عمرَ للشورى بحيث يؤول الأمر إلى عثمان، ويُصرف عن أبيه عليّ.

وعاصر الإمام الحسين ظهور نجم الطلقاء، واستيلاءهم على الأقطار، وشاهدَ جميعَ أعمال عثمان التي أنكرها عليه المسلمون، والتي أودت بحياته غفر الله له.

غير أنه كوالده؛ كان يعرف قدرَ عثمان ومنزلتَه في بني عبد مناف، وأنه قد كبر وضَعُف «جاوز الثمانين» لذلك كان من أشدّ المدافعين عنه في وجه المتمردين عليه، فالاجتهاد الخطأ؛ لا يبيحُ عند أهل البيت سفكَ دم المخطئ.

وعاصر الإمام الحسين استشهادَ سيدنا عثمان، وإصرارَ المسلمين على بيعة والده، وتردُّدَ والده الإمام في ذلك طويلاً.

وعاصر نُكثَ الزُبيرِ بن العوامِ وطلحةَ بن خُويلد؛ لأنّ عليّاً رفض توليتهما البصرة والكوفة، بعد وعدِهِ إيّاهما بذلك، وليس لشيء آخر كما تذكر بعضُ كتبنا.

عقب إلحاحهما الشديد على إنفاذِ وعدِه؛ قال لهما: «إني والله أجدُ من حرصكما على الإمارةِ ما يمنعني من تأميركما، غفرَ الله لهما.

فاستأذناه من الغد في العمرة؛ فأذن لهما، وقال: ما العمرةَ تريدان يا زبير!

وعاصر الإمام الحسين حروبَ والده منذ توليه الإمامةَ وإلى لحظة استشهاده.

وعاصر الإمام الحسين انتقال السلطةِ إلى أخيه الحسنِ، وبايعه، وأخلص له، وكان في جيشه الخارجِ إلى قتال معاوية وعمرو، وكان متشوّقاً إلى قتال البغاةِ الظالمين.

ولم يكن راضياً قطّ عن الصلح الذي أبرمه الحسن مع معاوية، وقال في هذا ما هو معروف: «إني لأرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكفّ، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهادَ الظالمين».

ولم يكن الحسينُ يَعلم بهذا الحديث الذي نقله أبو بكرةَ الثقفيّ بشأن الإمامِ الحسنِ بن عليٍّ عليهما السلام: (إنّ ابني هذا سيّد، ولعلَّ الله تعالى أن يُصلح به بين طائفتين من المسلمين) أخرجه البخاريّ والترمذيّ وقال: حسن صحيح.

ولم يكنْ هذا الحديثُ معروفاً بين أهل البيت، وإلا لما أنكر الحسينَ على أخيه الحسنِ تنازلَه عن السلطة لمعاوية الباغي.

كان الحسينُ بن عليّ بعد استشهاد الحسن؛ يتوقع منزلته عند الله، ويحسن الظنّ به تعالى، ويَعرفُ مَنزلته عند المسلمين، وعند البغاةِ الظالمين أيضاً.

أخرج الإمام عبدالله بن المباركِ في كتاب الزهد له (1446) وابن أبي شيبة في مصنّفه (6: 200) والرامهرمزيّ في المحدّث الفاصل (ص: 348) عن عمرو بن العاصِ قال عن الحسين: «هَذَا أَحَبُّ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ»  

وأخرج ابن الأعرابيّ في معجمه (2205) والطبرانيّ في الأوسط (3917) والبزار في مسنده (2632- كشف) وأورده الهيثميّ في مجمع الزوائد (9: 177) وقال: «رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، غَيْرَ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، وَهُوَ ثِقَةٌ» بإسانيدهم إلى إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في حلقة فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو، فمَرّ بنا حُسين بن عليٍّ، فسلّم، فرد القوم السلامَ.

فسكت عبد الله بنُ عمرٍو حتى فرغوا؛ رفع صوته وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته!

ثم أقبل على القوم فقال: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى!

قال: هو هذا الماشي، ما كلمني كلمةً منذ ليالي صِفّين، ولأَنْ يَرضى عني؛ أحبُّ إلي من أن يكون لي حُمْرُ النَعَم .

فقال أبو سعيد: ألا تعتذرُ إليه؟ قال: بلى!

قال رجاء: فتواعَدا أن يَغْدُوَا إليه، فغدوت معهما، فاستأذن أبو سعيد: فأُذِن له فدخل إلى منزل الحسين.

ثم استأذن عبدُاللهِ بنُ عمرو، فلم يزل أبو سعيدٍ بالحسين حتى أذِن له.

فلما دخل؛ قال أبو سعيد: يا ابنَ رسول الله إنّك لما مررت بنا أمسِ؛ قال عبدالله بن عمرو: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟

فقال حسين: أعلمتَ يا عبدَالله أني أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟

قال: إي وربِّ الكعبة!

قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي يومَ صفين؟ فوالله لأَبي كان خيراً مني؟

قال: أجل! ولكنّ عَمْراً ـ يريد أباه ـ شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن عبدَالله يقوم الليل، ويصوم النهار!

فقال الرسول صلّى اللهُ عَليه وآلِهِ وسلَّمَ: (أطع أباك يا عبدَالله!).

قال عداب: فهم عبدُالله بنُ عمرٍو طاعةَ أباه مطلقةً حتى في الظلمِ والبغي!

 سبحان الله على عظمة هذا الفهم الراقي لابن عَمرو؟!

وعاصر الإمام الحسين تعقّب معاويةَ لأنصار عليّ، وقتلَ أشرافهم، من أمثال حجر بن عدي الكندي وأصحابه.

وعاصر الحسين حرمانَ بني هاشمٍ من حقوقهم المشروعة، المالية وغيرها.

وعاصر تهديدَ معاوية له، إن هو فكّر بنقض بيعتِه إيّاه، فكتب إليه الحسين:

«أتاني كتابك، وأنا بغير الذي بلغك عني جديرٌ، والحسناتُ لا يَهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربةً، ولا عليك خلافاً.

وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك، وما أعلم فتنةً أعظمَ من ولايتِكَ أمرَ هذه الأمّةَ».

فالحسين يرى ولايةَ معاويةَ فتنة كبرى، ويرى جهاده واجباً شرعياً، سواء وافقه ابن عَمْرِو بن العاص، أم خالفه عبدُالله بن عُمر.

وعاصر الإمام الحسين معركة أخذ البيعة ليزيد بالترغيب والترهيب، ثم أخذها تحت شفار السيوف، وبالتالي لم يرَ بيعتَه ملزمةً لأحد!

إنّ الحسينَ، شأنه شأن عليّ؛ لم يكن راضياً تمام الرضا عن عصور الراشدين الثلاثةِ، على فضلِهم وصلاحِهم واجتهادهم في مصالح الأمة...

فكيف يرضى عن معاويةَ الطليقِ ابن الطليقِ الذي ساهم في مقتل عشرات الألوف من المسلمين؛ ليكون ملكاً عليهم؟

لكنّ مثل الحسين، بل مَن هو دون الحسين في الدين والفضل والعلم؛ لا يمكن أنْ يَنكُثَ بعهدٍ قطعه على نفسه، كما لم يكن ليهيئ نفسه لما سيحدث بعد وفاة معاويةَ؛ لأنه كان يرى ذلك نقضاً للعهدِ والبيعةِ!

لمات مات معاوية، وطُلب لمبايعة يزيدَ الفاسقِ الفاجر، صاحب الأخبار الساقطة المشهورة؛ رأى أنه لا يحلّ له شرعاً مبايعةُ هذا الفاجر الفاسق!

وغدا تكليفُه الشرعيّ أن يقوم بواجب الإصلاح، وإعادةِ الأمور إلى مسارها الشرعيّ الصحيح.

في مكّة المكّرمة، قبل مغادرة الحسين إلى العراق؛ كان الوضعُ العامّ على النحو الآتي:

أوّلاً: لم يكن لدى الحسينِ في مكّة قوّةٌ تحميه، وكان والي مكة يلحّ عليه بالبيعة أو اتّخاذِ إجراءاتٍ في حقِّه «البيعةَ أو القتلَ»!

ثانياً: لم يكن الحسينُ يجوّز لمن كان في موقعه الدينيّ والاحتماعيّ أن يبايع فاسقاً فاجراً جاهلاً، خليفةً على أمة الإسلام.

ثالثاً: لم يكن الحسين واثقاً تماماً من أهل الكوفةِ، في تلك الأيّام، ولم يكن مَخدوعاً بهم قط، لكنه كان في موقف لا يحسد عليه:

فهو لن يبايع ليزيدَ؛ لأنه لا يجوز له ذلك في اجتهاده.

وهو يرفض الإلحادَ في الحرم، كما فعل ابن الزبير فيما بعد.

وهو لا يقوى على مُقاتَلةِ جَيشِ والي مكة، إذا هو خرج إلى الحِلّ!

فلم يكن أمامه سبيلٌ سوى الخروجِ إلى العراق، فلربما صدق أهل الكوفةِ معه، بعد أن تيقنوا بفساد يزيدَ؟!

فإنْ تحقّق له ما أرادَ، وإلا فهو لا يستبعِدُ الشهادةَ ولا يأباها أبداً!؟

مَن كان يظنّ الحسينَ ساذجاً، لا يَعرف جميعَ ما يعرفه عبدُالله بن عباس وعبدُالله بن عُمَر، وعبدُالله بن الزبير، ومن معهم من صغار الصحابة وكبار التابعين؛ فهو لا يعرف الحسينَ «الشريفَ الكامل»!! كما وصفه الذهبيّ.

وقد كُنتُ إلى فترةٍ قريبة أقول: إذا كنتَ خارجاً إلى مصرعك في العراق، فلم تُعرّضُ أهلَ بيتك وصغارَك إلى تلك الفاجعة المحزنة، بل المرعبة؟

لماذا لا تَخرجُ وحدَك، بعد أن تحقّق لديك أنْ لا مناص من الخروج؟

أقول: كأنّ الحسينَ كان يتصوّر أنه سيصل إلى الموضع المناسب لسكنى أهله وأمنِهم في العراقِ، ولم يكن يتصور لدى أهل الكوفة كلَّ تلك الحقارة والسقاطة.

إنّ الحسينَ؛ لم يُمكّن من دخولِ الكوفة، وإنما فوجئ بجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص يَقطع عليه الطريق في أربعة آلاف فارس!

وحتى في تلك الحال؛ كان الحسين يَفهم أنه مطلوبٌ ليزيدَ الأعرابيّ الفاسق، ولابن مَرجانَةَ الوَغْد.

لكنْ لا أظنّ فارساً في مثل موقع الحسين؛ يتبادر إلى ذهنه أن هؤلاء الفجرة قد مرقوا من الدين مُروقاً تامّاً، أو ربما لم يكن لهم دين أصلاً!

وهبْ أنهم كذلك، لكنّ مِن أدنى أخلاقِ الفروسية وقيمها؛ ألا يتطاول الفارس على النساء والأطفال الصغار.

وكوكبة يسيرة العدد لا تصل إلى (100) إنسان، ليس من أخلاق الفروسية أن تُحرم حتى من ماءٍ للشرب، ومن ماءٍ للوضوء.

جيش عمر بن سعد النواصب؛ شراذم من المتوحشين الأنذال، ابتُلي بهم الحسينُ وأهلُ بيته عليهم السلامُ، فكانت فاجعةُ كربلاء.

أجلْ كانت فاجعةُ كربلاءَ مصيبةً من أعظمِ مصائبِ أهل الإسلام، ونحن عندما نحيي ذكراها الحزينة؛ إنّما نفعل ذلك لتذكير بعضنا بعضاً بأنّ الحقَّ يحتاجٍ إلى قوّةٍ مؤمنة به، ويحتاجُ إلى قدراتٍ تستطيعُ أن تطيحَ بالظالمين ذوي الأهواء، وتستطيعُ أن تمكّن لدين الله تعالى بين المسلمين.  

ختاماً: ليس تَجديدُ اﻷحزانِ من معالم اﻹسلام، وﻻ من شريعة سيد اﻷنام، وﻻ كان مما يفعلُه اﻹمامُ عليُّ بن أبي طالب والإمام الحسين، عليهما أزكى السلام.

ليست هذه المواكب (الحسينية) تدل على شيء سوى الفوضى والتخلف العقلي والسلوكي.

ليس هذا التطبيرُ المجنون، سوى ظلم للنفس، وتحميلها من العذابات واﻵﻻم ما ﻻ تطيقه، وإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ﻻ يرضى بهذا، وقد بيّن لنا أوضحَ بيانٍ أنّ تعذيبَ النفسِ منهيّ عنه.

فقد أخرج البخاريّ (1865) ومسلم (1642) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ!

قَالَ الرسولe: (إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).

ربما كانت هذه المظاهر توظف توظيفاً سياسيّاً؛ لتتماسك الطائفة، وتظهر قدرتَها على الدفاع عن نفسها، ولم يعد لها اليوم من حاجة البتة.

لو أنّ المسلمين صاموا «تاسوعاء وعاشوراء» وتذكروا عطشَ الحسين، وظلمَ الظالمين السفلة الذين حكموا اﻷمة قروناً، فكانت تلك الذكرى تصميماً وعهداً منهم ومنّا أنْ ﻻ نركن إلى الظالمين، أليس هو اﻷولى واﻷكرم؟

لو جلسنا في يوم عاشوراء وقرأ كلُّ واحد منّا (100) آيةٍ، وأهدى ثوابها إلى الرسول وأهل بيته عليهم السلام والبركات، أليس ذاكَ هو الدينَ والعقلَ والحكمة؟

أرجو أن تُعرضوا عن هذه الظواهر والمظاهر، وأن تستبدلوها بخير منها.

كما أرجو أن تتفهّموا أسبابَ نهضة الحسين، وأن تكون نبراساً للنهضة ضد الظلم، سواء كان سنيّاً، أم كان شيعيّا، أم كان علمانيا وضيعاً.

والله يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين، وعظّم الله أجورَكم بكلِّ مصابٍ أصيبَتْ أو تُصابُ به الأمةُ.

والحمد لله على كل حال.