مِنْ عِبَرِ التاريخِ (23):
الدكتور أسامة محمد
عبدالعظيم القاهريّ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
لا أظنّه يخفى على أحدٍ منكم؛ أنني رجل صوفيّ
خلوتيّ، شاذليّ، نقشبنديّ، رفاعيّ قادريّ، كسنزانيّ، بريفكانيّ!؟
ومتى وجدتم رجلاً متنقّلاً هكذا؛ فاعلموا أنّه ليس
بصوفيّ حقيقيّ، إنما هو صوفيّ بالاسم فحسب!
دخلتُ مدينةَ القاهرةَ الحبيبةَ إلى قلبي، للمرّة
الثانية في عمري، في (9/2/ 1976م) قادماً من لبنان، بعد أن دخلت القوّات السوريّةُ
إلى مدينة طرابلس، وغدت سيّارةٌ مجهولة الهوية مقيمةً على باب منزلي، بصورةٍ شبه
دائمة!
أصرّ الأخوان الفاضلان فتحي يكن وإبراهيم المصري
على ضرورة مغادرتي لبنان.
في اليوم التالي لوصولي القاهرة؛ التقيت بأخي
الحبيب الشيخ السيّد محمد غياث محمد الجنباز الحمويّ، الذي كان طالباً في السنة
الثالثة، من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
ساعدني باستئجار شقّة في منطقة الدقّي، وساعدني في
شراء أثاثٍ متواضع لها.
ثمّ راح يشجّعني على حفظِ كتابِ الله تعالى، ويلحّ
عليّ في ذلك.
وكان ممّا قاله لي: أقسم بالله العظيم إنّك يا شيخ
عداب، تحفظُ القرآن الكريم بأقلًَّ من أربعةِ أشهر.
وقال: أنت تريد التسجيل في الأزهر، وحفظ القرآن
الكريم، سيعطيك مزيّةً في القَبول، ونحن ما زلنا في نهايةِ الفصل الدراسيّ الأوّل،
فأمامك وقتٌ طويل!
جزاه الله خيراً، وبارك به وعليه، وعافاه.
شرح الله صدري للفكرة الجميلة هذه، وصحبني إلى جامع
الإمام الحسين عليه السلام، وعرّفني إلى سيّدي الشيخ محمد سليمان أحمد الشندويليّ،
الذي كان هو يقرأ عليه، واتّفقنا على أن أسمعه في كلّ يومٍ ربعَ حزب!
لم يعجبني كلامُ الشيخِ، إذ وجدتُ تسميعَ ربع حزبٍ
قدرٌ يسيرٌ، لا يليق بي!
جئتُه في اليومِ التالي، وظللتُ أسمعه من سورةِ
البقرةِ، حتى تكاثرَ الطلّابُ الأفارقةُ، فأسمعتُه حزباً تامّاً، ثمّ أوقفني،
وطردني من المجلس!
ذهبتُ إلى مرقد جدي الإمام الحسين عليه السلام؛
لأسلّم عليه، فناداني المقرئ الشيخ سعيد الشريف، رحمه الله تعالى، وقال لي: سيدي
محمد سليمان شديد، إذا لم تتقن الحفظ والتلاوة؛ سيطردك من مجلسه، هيّا أسمعني من
الفاتحة، ولا أريد منك جزاءاً ولا شكوراً!
أسمعته الحزبَ الذي أسمعته لشيخي الشندويليّ، ثمّ
اتفقت معه على أن أقرأ عليه في كلّ يومٍ نصفَ جزءٍ قبلَ الحفظِ، ثمّ أسمع الشيخ
الشندويليّ، وأنا حافظٌ ومجيدٌ للتلاوة.
في شهر أيّار أتممت حفظ القرآن العظيم، ودعوتُ
سيّدي الشيخ محمد سليمان وشيخي سعيد الشريف، وشيخين آخرين من مقرأة الإمام الحسين،
وأخي الشيخ السيّد محمد غياث، وأخي الشريف ناصر محيي الدين ناجي الجيلاني، إلى
وليمةٍ ومولدٍ نبويٍّ بمناسبة إتمام حفظ القرآن العظيم.
بدأتُ بحفظ الشاطبية في اليوم التالي للوليمة، التي
كانت يومَ جمعة، وأسمعت مقدمة الشاطبية كاملة للشيخ محمد سليمان في مجلس واحدٍ،
فقال لي: متى حفظت هذه المقدمة؟
قلت: حفظتها أمسِ، فرفسني برجله وطردني، وقال: يا
عبيط، «واللهِ
هيموّتوك»!
لا أسمح لك أن تسمّع أكثرَ من خمسةِ أبياتٍ في
اليوم!
قلت له: يا مولانا، إذا كنت لن تسمع لي، سوى خمس
أبياتٍ في اليوم؛ فسننتهي من حفظ الشاطبية وشرحها في سنة، وأنا أستطيع أن أسمعك
إيّاها في شهر!
قال: «قم جدّك الحسين
عاوزك، سلّم لي عليه، وقل له: يسلّم عليك محمد سليمان، ويقول لك: خذ بالك مني»!
ذهبتُ إلى مرقد الإمام الحسين، وسلّمت عليه، ولم
أقل له شيئاً، إنما ذهبت إلى الشيخ سعيد الشريف؛ لأسمعه صدر الشاطبية، فنهرني
وقال: بلّغ ما قاله لك الشيخ محمد الأوِّلْ هيا!
قلت في نفسي: إنّ الأمر جِدّ، هؤلاء يقرؤون صفحاتِ
القلوب!
قمتُ بين يدي الحسين عليه السلام، وبلّغته رسالة
الشيخ الشندويليّ بأمانة، واعتذرت منه، ثمّ رجعت خطوةً إلى الخلف، وجلست إلى الشيخ
سعيد الشريف!
أسمعته مقدمة الشاطبية، وهي تزيد على (100) بيت،
فقال لي: حفظتَ هذه أمسِ؟ قلت: نعم سيّدي!
قال: زملاؤك عند الشيخ محمد أكثرهم أفارقة، يصعب
عليهم الحفظ، ويتعبون الشيخ محمد كثيراً في إتقان التجويد والتلاوة، وريثما يشرح
لك الشيخ محمد (100) بيت، وراء المقدمة، يحتاج أسبوعاً على الأقل!
فلا الشيخ لديه وقتٌ لهذا، ولا زملاؤك، سيسمحون لك
بأخذ وقتهم!
قلت له: بماذا تشير عليّ؟
قال: في الدور الثاني، هناك مكتبة ممتازة، واظب على
المطالعة فيها، واقرأ كتاب شرح الشاطبية للشيخ الضبّاع، وإذا صعب عليك شيء منه؛
فتعال لأشرحه لك، قبل أن يشرحه لك سيدي محمد.
قبّلت يده، وكان يكره تقبيل يديه، وانصرفت!
قبل أن أصعدَ درجةَ باب المقصورة؛ وقع في قلبي أنّ
الشيخ سعيداً فقير، وأنه يحتاج إلى مساعدة!
رجعتُ إليه، وقلت له: سيّدي هل تأذن لي أن أعطيك
هديّة؟
دمعت عيناه وقال: لعنةُ الله على جمال عبدالناصر،
جعلنا فقراء متسوّلين، أمّم أوقاف الأشراف، فلم يعد لدينا شيء!
فأعطيته ما جادت نفسي به، مع أنني طيلة المدة
الماضية، لم أعطه قرشاً.
صعدتُ إلى المكتبةِ، وعاينتها رفّاً رفّاً، وبيدي دفتري
وقلم، فكتبت أسماء عددٍ من شروح الشاطبية، ثمّ رجعتُ إلى شيخي الشندويلي،
واستأذنته بالانصراف، وخرجت من عنده في حدود الساعةِ العاشرة صباحاً.
ذهبتُ إلى أكشاك بيع الكتب، أسألهم عن شروح
الشاطبيّة، وكلهم أحالوني إلى مكتبة البابي الحلبي!
رجعتُ من حيث جئت، فشاهدت شابّاً طويلاً قمحيّ
اللون، ذو لحية طويلةٍ سوداء، على جبينه أثر السجود، كان يفتح باب كشكه!
سلّمتُ عليه، وصافحته، وقلت له: أرجو أن تدعو لي،
فإني أتوسّم بهذا الوجه المنير خيراً!
تبسّم الشابُّ وقال: سبحان الله، الإنسان لا يرى
أنوار القرآن على وجهه وأركانه!
أعطيته الورقةَ التي كتبتُ عليها شروح الشاطبيّة،
وقلت له: لا تقل لي ليس عندي منها كتاب واحد، أنا لا أعرف سوى هذه الساحةِ بين
سيدنا الحسين والأزهر!
خذ هذه الورقة، وحضّر لي هذه الكتب، ولك جزيل
الشكر!
قرأ الورقة وقال: هناك كتابان آخران من شروح
الشاطبية لم تذكرهما، وربما كانا أهمّ من بعض ما هو مكتوب هنا؟
قلت ما هما؟
قال: أنا لست من أهل القراءات، لكني أسمع أن شرح
الجعبريّ، وشرحَ شعلة على الشاطبيّة مهمّان جدّاً، فلا أدري؟!
قلت له: اكتبهما، وأيّ كتابٍ قديمٍ من شروح
الشاطبيّة تجده؛ فاشتره لي مشكوراً.
في اليوم الثاني؛ أنجزت حصّتي مع الشيخ الشندويلي
والشيخ سعيد الشريف، وخرجت من مسجد الإمام الحسين، فلم أجد الشيخ أسامةَ فتح كشكه
بعد!
رجعتُ إلى مكتبة جامع الحسين، فوقعت على كتاب «مناهل
العرفان» للزرقاني فقرأت فيه مبحث النسخ كاملاً، ثمّ خرجتُ، فوجدت الشيخ أسامة قد
حضر، وأحضر لي سبعةَ كتب من شروح الشاطبيّة!
- سألته: ما اسمك أنت يا أخي؟
- أخوك أسامة عبدالعظيم.
- أنت شابٌّ مثقّف في ظنيّ، فلم أنت حابسٌ نفسك
على كشك صغيرٍ، تبيع فيه الكتب؟
- تبسّم وقال: وما اسمك أنت يا أخي؟
-أنا أخوك الفقير محمد فيصل الحمش الحسينيّ
الحمويّ.
- سألته: هل لديك عمل آخر؟
- ليس لديّ عمل آخر، وهذا عمل جيّد، أنا أحضر
درجة الدكتوراه، في جامعة الأزهر والحمد لله تعالى.
- قلت: ممتاز ممتاز، أريد أن أسألك إذن، إنْ
كان لديك وقت؟
- تفضّل تحت أمرك.
- قلت: جميع كتب علوم القرآن وكتب أصول الفقه
التي قرأتها؛ تقول: إنّ من أوّل شروط المفسّر لكتاب الله تعالى؛ أن يتقن علم
الناسخ والمنسوخ، وأنا رجلٌ أديب شاعر، ولديّ حبٌّ شديد لعلم أصول الفقه خاصّة،
لكن علم أصول الفقه من علوم الآلة، أنا أريد أن أوظّفه لتفسير القرآن الكريم!
- تريد أن تكتب تفسيراً للقرآن الكريم؟
- قلت: نعم أريد أن أكتب تفسيراً بيانياً
للقرآن الكريم، وأريد أن أكتب تفسيراً فقهيّاً للقرآن الكريم، بعيداً عن المذهبيّة
والطائفيّة وعلم الكلام!
- تبسّم الرجل ثانية وقال: هل أنت سلفيّ؟
- قلت: لا لست سلفيّاً، كنت حنفيّاً في الفروع،
ماتريديّاً في الاعتقادِ، نقشبنديّاً في الطريق، وأنا الآن شافعيّ.
لكنّني هكذا أنفر من المذهبيّة، وأراها تكريساً
لتمزيقِ الأمّة، حتى المذهب الواحد أجده حريصاً جدّاً على تسجيل أوجه الخلاف بين
شيوخه!
تابعتُ: أريد تفسير القرآن بيانيّاً؛ لأنني
أجيد البلاغة والوضع والنحت والاشتقاق وفقه اللغة، عسى أن أبيّن لهؤلاء الوهّابية
الأعراب ذوقيّات القرآن البيانيّةِ، فيبتعدوا عن التشبيه والتجسيم.
- الذي أعرفه أن السلفيّة يتبعون الإمام أحمد
ابن حنبلٍ بوجه عام، وشيخَ الإسلام بن تيمية؟
- قلت له: إذن أنت وهّابي؟
- لا لست وهّابيّاً، أنا سلفيَّ
- قلت: هذه أذني، وهذه أذني، لا أدري والله يا
أخي أسامة، أنت تحضّر دكتوراه، وتتابع أعرابيّاً جلفاً غليظاً، لم أقرأ له شيئاً
يتميّز به؟!
كأنّ الشيخ أسامة وجدني حادَّ المزاج، فحاول أن
يغيّر الموضوع، فقال: لنعد إلى موضوع النسخ!
إذا كنت تريد تفسير القرآن العظيم بيانيّاً، فهل
ستفسّر الآيات التي قالوا: إنها منسوخة، أو لن تفسّرها؟
- قلت: بل سأفسرها طبعاً!
- إذن لا حاجة بك إلى إتقان علم النسخ؟!
- قلت: كيف لا أحتاجه، وأنا أريد أن أبرز أسلوب
الآيات الناسخة والآياتِ المنسوخة؟
- أنا أحضّر دكتوراه في أصول الفقه، لكني في
الحقيقة لست متعمّقاً في علوم العربية التي ذكرتها حضرتك قبل قليل، سأسعى لأتقوّى
بها مستقبلاً، إن شاء الله تعالى.
- قلت: أريد أن تتفضّل فتجمع لي جميع كتب أصول
الفقه المطبوعةِ، قديمها وحديثها، وجميع كتب النسخ!
- حاضر إن شاء الله تعالى.
- حاسبته، وأخذت شروح الشاطبية، وانصرفت!
- وأنا في طريقي إلى منزلي في الدقّي؛ رحتُ أراجع
ما قرأته في مناهل العرفان، فطرأ على ذهني عددٌ كبيرٌ من الأحاديثِ التي ذكرها في
مبحث النسخ، بعضها عند البخاري، وبعضها عند مسلم، وبعضها عند الطبراني، وبعضها في
طبقات ابن سعد!
فقلت في نفسي: أنا لا أعرف كيف أجمع أحاديث النسخ،
ولا أعرف تمييز صحيحها من ضعيفها، غداً سأسأل أخي أسامة، إن كان يعرف شيخاً أو
دكتوراً يدرّسني هذه الأمور، بمقابلٍ ماليٍّ.
في اليوم التالي؛ سألته فعلاً، فتبسّم وقال لي: ليس
في الأزاهرة أحدٌ يحسن علم تخريج الحديثِ، على الإطلاق، نعم هم يجيدون المصطلح
ويحفظونه!
قلت له: كيف سأتعلّم علم تخريج الحديث وجمع طرقه،
وتمييز صحيحه من ضعيفه؟
أطرق قليلاً، ثمّ قال: هناك شيخ كبير جدّاً، ربما
جاوز الثمانين من عمره، يقولون إنّه ضليع في هذا الجانب من علوم الحديث، يقال له:
الحافظ التجاني.
أنا لا أعرفه، ولست من أهل طريقته!
- قلت: يعني هو صوفيّ؟
- نعم هو صوفيّ!
- قلت: ممتاز يفهم، هل تدلّني على بيتِه؟
- استحيا أن يعتذر، بل قال: حاضر تحت أمرك.
أغلق كشكه الصغير، وسار معي في شارع حيّ المغربلين
بطوله، حتى وصلنا إلى عطفة الدالي حسين، وأشار إلى الباب، وأراد أن يرجع!
قلت له: تعال معي، لتشرح للشيخ ما أريد، مهما يكن
أنت مصريٌّ، وأنا لم أر الشيخ في حياتي، أههنا يترك الصديق صديقه؟
أيضاً أحرجت الشيخ أسامة، فدخل معي إلى الزاوية
التجانية حياءاً!
عندما قرعنا باب الزاوية، الذي كان مفتوحاً أصلاً؛
قال لنا أحد المارّةِ: خُشّوا خشّوا، الباب قدامكم مفتوح!
دخلنا، وصعدنا الدرج، ولم نجد أحداً!
قلت له: يا شيخ أسامة، أخشى أن يكون في طريقنا
نساء، فنسبب لهنّ حرجاً ؟
ثمّ ناديت: السلام عليكم يا أهل الزاوية، فردّ
أحدهم عليّ السلام، ثمّ جاء شابٌّ سودانيّ، فسلّم علينا، وأدخلنا إلى صحن
الزاويةِ، فعرفه الشيخ أسامة، وعرفت فيما بعد أنه زميله، وكان يحضّر درجة
الدكتوراه في أصول الفقه أيضاً.
بعد دقائق جاء محمود خادم الزاوية، ورحبّ بنا،
وقدّم إلينا الشاي، وكنت صائماً، ثم استأذن وتركنا، ثمّ استأذن السودانيّ، وعاد
إلى موضع دراسته، وتأخّر خروج الحافظ من بيته.
سألني الشيخ أسامة إن كنت آذن له بالانصراف؟
قلت له: كيف سأعود إلى الأزهر، لا أظنني ضبطت
الطريق؟
قال: لا يُخشى عليك، امش في شارع المغربلين على
طول، ولا تنعطف يميناً ولا شمالاً، ثمّ انصرف!
رجع الخادم الفاضل محمود، وألقى السلام، واتّجه إلى
حيث منزل الشيخِ، وما هي إلّا لحظاتٌ حتى خرج الشيخ محمد الحافظ التجّاني.
جاء الشابُّ السودانيّ، ووقف بجانبي حتى وصل الشيخ
إلى مكان جلوسه، وجلس؛ تقدّمنا إليه وقبّلنا يده ورأسه الشريف، وانصرف السودانيُّ
إلى عمله.
رحّب بي شيخي الحافظ، وقال: أهلاً بالأخ الشامي.
وقد رَويت سابقاً قصّة لقائي بسيدي محمد بن
عبداللطيف بن سالمٍ القاهريّ المعروف بالحافظ التجّاني، فلا حاجةَ إلى التكرار.
عقب خروجي من زاوية الحافظ التجاني بعد صلاة العصر؛
مررت بأخي أسامة.
سألني: كيف وجدتَ الشيخ؟
فشرحت له الحال، وعلامَ اتّفقت معه، وأثنيت عليه
خيراً، رضي الله عنه.
فأخبرني أنّه وفّر لي عدداً من كتب الأصول، فحاسبته
عليها، وبقي لي في يده ثلاثة جنيهات، فقلت له مثلما يقول المصريون: «خلّ الباقي على
شانك»!
تغيّر وجهه، وخجل كثيراً وقال: نحن ولله الحمد
والمنة بخيرٍ ونعمة، ولست في حاجةٍ إلّا إلى معونة الله تعالى.
أصررت أن يأخذها، لكنّه رفض رفضاً شديداً، وقال
لي: أرجوك لا تعد إلى مثلها أبداً فتسبّب لي حرجاً نفسيّاً.
قلت له: طيّب هذه الكتب التي تشتريها لي، تأخذ
عليها ربحاً؟
قال: لا، أبداً أبداً، لم أضف على ثمن شرائها فلساً
واحداًأو قال: قرشاً!
قلت: إذن لن أكلّفك بعد اليوم بشيءٍ البتة،
وسأبحث عن رجلٍ آخر يأخذ مني ربحاً!
قال: لا لا، أنا والله أريد أن أخدمك لله
تعالى، وأنا حريص جدّاً على أخوّتك وصداقتك ارتحت لك كثيراً!
ثمّ اتّفقنا على أن يأخذ نسبةً من الربح فوق
قيمة الشراء، وقلت أنا: وإذا ذهبت إلى مكتبة خارج ساحة الأزهر، فتأخذ نسبة أخرى
مقابل أجرة الطريق والتعطيل.
أنا يا أخي أسامة لا أحبّ أن أكون ثقيلاً
أيضاً.
واستمرّت علاقتنا الطيّبة اللطيفة، حتى غادرت
مصر في (10/ 10/ 1977م) إلى الكويت.
بعد شهرين أو أكثر قليلاً؛ قال لي: سمعتُ أنّك
من تلامذة الشيخ محمّد الحامد الحموي؟
قلت له: نعم، صحبته ستّ سنواتٍ على الأقلّ، رضي
الله تعالى عنه، وأنا جاره في الحيّ ليس بيني وبينه أكثر من عشرين خطوة!
قال: ممتاز ممتاز، أنا أرتاح جدّا لقراءة
رسائله، أجد فيها صدقاً وإخلاصاً وأمانةً!
قلت له: صدقت، كان شيخنا ربّانيّاً.
قال: أريد أن أطبع رسائله الصغيرةَ هذه كلّها،
لكنْ واحدةً تلوَ الأخرى، فما رأيك أن تخرّج لنا أحاديثها، وقد صرتَ من أهل الحديث
«وتبسّم»؟!
قلت له: ليس لدي مانع البتّة، لكنّ لشيخنا
ولدين ههنا، الشيخ محمود الأكبر، والشيخ محمد الأمين، سأشاورهما، وأردّ عليك
الخبر.
ذهبت إلى شيخي محمود بن شيخي محمد الحامد، وقلت
له: أنا على استعدادٍ لتخريج أحاديثِ الرسائلِ وعرضها على شيخي الحافظ التجاني، من
جهة أخدم علمَ سيدي الشيخ محمد، ومن جهة أخرى أتدرّب على التخريج تحت إشراف محدّثٍ
كبير، ولا أريد أن يُذكر اسمي لا على غلاف الرسائلِ، ولا في داخلها أبداً!
رفض الشيخ محمود أن أقوم أنا بتخريج الأحاديث،
أو يقوم بذلك أيّ أحدٍ آخر، وقال بالحرف الواحد: «والدي أدرى بما وضع في كتبه
ورسائله من أحاديث، فقل لصديقك هذا: إذا أحبّ أن يطبع الرسائل كما هي، من دون
زيادةٍ ولا نقصانٍ؛ فليفعل، ونحن نشكره، ولا نريد منه أيّ مقابل ماليّ» رضي الله
عن الشيخ محمود.
أخبرت الشيخ أسامة بجوابِ الشيخ محمود، فاستغرب
وقال: لم يعد الناس يُقبلون على قراءة الكتبِ، من دون تخريج أحاديثِها، ثمّ إنّ
كثيراً من هذه الأحاديث ضعيفة؟!
قلت له: هذا جواب الشيخ.
ليس بيني وبين الشيخ أسامة ذكرياتٌ مهمّة، سوى
أنّ (90%) من مكتبتي المصريّة تفضّل هو بشرائها لي.
جزاه الله خيراً، ورحمه الله ورضي عنه، وتقبّله
بأحسن قبول، إنّه هو أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق