مَسائل حديثية (48):
تَركيبُ الأسانيد في الصحيحين
؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب أحدُ الإخوةِ المشتغلين
بالحديث الشريف مقالاً، انتقد فيه حديثَ (خير القرون قرني) وكان مما قال في نقده:
«إنّ هذه القرائن تثبتُ ما وقع من تركيب الأسانيد والأحاديث، ونسبتها إلى الصحابة،
بحيث المتن الواحد يركّب عليه أكثر من سند، عن أكثر من صحابيّ، مما يذكّرنا بمقولة
ابن حجر بأنّ الصحيح لا يُدرَك بمجرّد اعتبار الأسانيد» انتهى المقصود من كلامه.
أقول وبالله التوفيق:
ليس مستغرباً أبداً أن يتّفق
خمسةُ صحابة على متن حديثٍ واحدٍ، فليس مستغرباً أن يتّفق عبدالله بن مسعود وعمران
بن حصين وأبو هريرة على متن الحديث ذاته:
(خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).
إنما الذي استغربه صاحب
المنشور أن يقول عمران بن حصين جملة الشكّ (قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي ذَكَرَ
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ) ثمّ يقول نحو ذلك عبدالله بن مسعود
وأبو هريرة.
وسأخرّج الأحاديثَ الثلاثةَ
هذه من الصحيحين فحسب، اختصاراً للوقت، ثمّ
أناقش الكاتب فيما قال:
أوّلاً: بإسنادي إلى الإمام
البخاريّ في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جَور (2652) قال الإمام
البخاريّ رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ: أَنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ t عَنِ
النَّبِيِّ e قَالَ:
(خَيْرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ،
وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)([1]).
وأعاده البخاريّ في المناقب (3651) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بنُ كَثِيرٍ: أَخبَرَنا سُفْيَانُ، به مثله.
وأعاده البخاريّ في الرقاق (6429) قال: حَدَّثنَا عَبْدَانُ
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، به مثلَه.
وأعاده البخاريّ في الأيمان والنذور (6658) قال: حَدَّثنَا
سَعْدُ بنُ حَفْصٍ: ثَنا شَيْبَانُ عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، به مثله.
وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضل
الصحابة (2533) قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ وَهَنَّادُ بنُ
السَّرِيِّ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عبدِ اللهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ e:
(خَيْرُ أُمَّتِي القَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ
شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ).
وقال
(2533): حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ.
قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، به
مثله.
وقال
(2533): وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بنُ المُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح).
وقال (2533) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى وَابْنُ
بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا عبدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاهُمَا
عَنْ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِ أَبِي الأَحْوَصِ وَجَرِيرٍ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا.
وقال(2533) وَحَدَّثَنِي الحَسَنُ بنُ
عَلِيٍّ الحُلْوَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ عَنِ ابْنِ
عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عبدِ اللهِ، عَنِ
النَّبِيِّ e قَال:
(خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) فلا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ
قَالَ: (ثُمَّ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ
يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ).
قال الفقير عداب: حديثُ عبدالله بن مسعودٍ؛ أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما من طرق كثيرةٍ عن منصور بن المعتمر الحافظ، عن إبراهيم بن يزيد النخعيّ
الحافظ، عن عَبيدة السلمانيّ الحافظ، وليس فيه جملة الشكّ (فلا أَدْرِي فِي
الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ).
بينما أخرجه مسلمٌ في آخر الباب من طريق أزهر بن سعدٍ السمّان
عن عبدالله بن عون، عن إبراهيم، وفيه جملة الشكّ (فلا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ
أَوْ فِي الرَّابِعَةِ).
ومن هذه الطريق؛ أخرجه أحمد في مسنده (3963) والنسائي في الكبرى
(5988) وأبو عوانة في المستخرج (11057).
فيكون أزهرُ بن سعدٍ السمّان قد وَهِم في قوله: (فلا أَدْرِي
فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ) لأنّه وإن وثّقه جماعةٌ إلّا أنّ أبا
حاتم الرازي قال: «صالح الحديث».
وبخصوص وهمِه في هذا الحديث بالذات؛ قال ابن حجر في التهذيب (1:
203) ما نصّه: «وعن عمرو بن على الفلاس قال: قلت ليحيى القطان: أزهر عن ابن
عون، عن إبراهيم، عن عبيدةَ، عن عبد الله حديث: (خير الناس قرني).
قال يحيى: ليس فيه عبدالله!
قلت: سمعتَه من ابن عون؟ فقال يحيى: لا !
ولكن رأيت أزهرَ يحدث به من كتابه، لا يزيد على
عبيدة.
قال عمرو بن عليّ: فاختلفت إلى أزهرَ أيّاماً،
فأخرج إليَّ كتابه، فإذا فيه كما قال يحيى رحمه الله تعالى» انتهى.
خلاصة الكلام: ليس في حديثِ عبدالله بن مسعودٍ إذنْ
جملةُ الشكّ (فلا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ) وليس فيه
تركيب أسانيد، إنما في هذه الطريقِ بالذات، قد وهم أزهر السمّان!
ثانياً: بإسنادي إلى الإمام
البخاريّ في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جَور (2651) قال الإمام
البخاريّ رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنا آدَمُ: ثَنا
شُعْبَةُ: ثَنا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ زَهْدَمَ بنَ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e: (خَيْرُكُمْ
قَرْني، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) قَالَ
عِمْرَانُ: لاَ أَدْري أَذَكَرَ النَّبِيُّ e بَعْدُ
قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، قَالَ النَّبِيُّ e: (إِنَّ
بَعْدَكُمْ قَوْماً يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ، وَلاَ
يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ()
وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) ([3]).
وأعاد البخاريّ الحديث ذاته في
المناقب (3650) قال: حَدَّثَنِي()
إِسْحَاقُ: ثَنا()
النَّضْرُ: أَنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
جَمْرَةَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بنَ مُضَرِّبٍ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (خَيْرُ
أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)
قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ()
أَوْ ثَلاَثاً.
(ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْماً يَشْهَدُونَ وَلاَ
يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ()
وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ).
وأعاده البخاري في الرقاق
(6428) قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، به مثلَه.
وأعاده البخاريّ في الأيمان
والنذور (6695) قال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
شُعْبَةَ، به مثلَه.
وأخرجه مسلم في فضائل الصحابةِ (2535) قال:
حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ،
جَمِيعًا عَنْ غُنْدَرٍ.
قَالَ ابْنُ المُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، به مثلَه.
وقال مسلم أيضاً: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى وَابْنُ
بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، كِلاهُمَا
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، عَنِ
النَّبِيِّ e
بِهَذَا الحَدِيثِ.
وأخرجه الترمذيّ في الفتن، باب
ما جاء في القرن الثالث (2222) من طريق
زرارةَ بن أوفى وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وكان قال في الحديث الذي قبله
(2221): «وقد رُوي من غير وجهٍ عن عمران بن حصين».
وعندما يقول الترمذيّ هذه
الجملة؛ يكون عمران بن حصين هو مدار الحديث!
مدار حديث الباب على عمران بن
حصين نفسه، رواه عنه:
زرارةُ بن أوفى، عند عند
الطيالسيّ (892) ومسلم والترمذيّ.
وزَهْدمُ بن مُضرّب، عند
البخاريّ ومسلم.
وهلالُ بن يساف، عند ابن أبي
شيبة (32410) والترمذي (2221).
فإذا كان مدار الحديثِ على
الصحابيّ عمران بن الحصين، رضي الله عنه، وهو الذي يقول: (فَلاَ
أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً.
فهل هو الذي ركّب الإسناد، أو
هو الذي نسيَ، وكان أميناً، فأخبرنا أنّه نسي؟
أو إنّ الثلاثةَ الذين رووه
عنه، اجتمعوا فركّبوا هذا الإسناد؟
أو الرواة الذين رووا عن كلّ
واحدٍ منهم، عقدوا مؤتمراً شاملاً، وركّبوا هذا الإسناد؟
وقد استشهد الباحث بكلام ابن عبدالبرّ، فلننظر ماذا قال في
التمهيد؟
في التمهيد (17: 293) ساق ابن عبدالبرّ من الموطأ حديث زيد بن
خالد الجهنيّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا
أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟
(الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) أَوْ قال:
(يُخْبِرَ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا).
وتكلّم مطوّلاً على إسناده، ثمّ قال (17: 298): (وَقَدْ رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْعِرَاقِيِّينَ
حَدِيثٌ يُعَارِضُ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا
قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (خَير النَّاسَ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يلونهم، ثم يجيء قوم يتسمنون ويحيون، يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ
يُسْأَلُوهَا).
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ زهير: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ».
قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَدْخَلَ محمّد بنُ فُضَيْلٍ بَيْنَ
الْأَعْمَشِ وَبَيْنَ هِلَالٍ فِي هَذَا الْحَدْيِثِ عَلِيَّ بْنَ مُدْرِكٍ،
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُاللهِ بْنُ إِدْرِيسَ وَمَنْصُورُ بْنُ أَبِي
الْأَسْوَدِ وَهُو الصَّوَابُ.
وَهَذَا عِنْدِي - وَالله أعلم- إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ
الْأَعْمَشِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ أَحْيَانًا.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِ وَكِيعٍ
لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حَافِظًا.
أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِي خَيْثَمَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ: حَدَّثَنَا
هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ لِلْأَعْمَشِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ
مُدْرِكٍ، عَنْ هِلَالٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ غَيْرَ مَا
حَدِيثٍ».
قال عداب: هذا الذي رجّحه ابن عبدالبَرِّ من أنّ الحديث عن الأَعْمَشِ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ هِلَالٍ، عن عمران؛ رجّح الترمذيّ غيره، فقال في
روايته لهذا الحديث (2302) ما نصّه: «هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ وَأَصْحَابُ
الْأَعْمَشِ إِنَّمَا رَوَوْا عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَحْوَهُ.
وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ».
يُلاحَظ هنا أنّ الخلافَ بين ابن عبدالبَرّ
والترمذيّ على روايةِ هلال بن يسافٍ، وليس على رواية زرارةُ بن
أوفى، عند عند الطيالسيّ (892) ومسلم
والترمذيّ، ولا على رواية زَهْدمُ بن مُضرّب، عند البخاريّ ومسلم.
ومع تقديري للترمذيّ وابن
عبدالبرّ في ترجيحهما؛ فقصارى القول: أنّ روايةَ الأعمش عن عليّ بن مدرك، عن هلالٍ؛
هي من المزيد في متّصل الأسانيد.
وهلال بن يسافٍ وزرارة بن أوفى
وزهدم بن مضرّب؛ ثلاثتهم ثقات، رووا هذا الحديث عن عمران بن حصين.
تابع ابن عبدالبرّ كلامه فقال: «وَقَدْ رَوَى
هَذَا الْحَدْيِثَ شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ
يَقُلْ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بن إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ
عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ،
فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لَيْسَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ
قَوْمٌ سِمَانٌ، يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ وَلَا يُسْأَلُوهَا).
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ
اضْطِرَابٌ، وَلَيْسَ مِثْلُهُ يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
نَقْلِ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ كُوفِيٌّ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَوْ صَحَّ؛
كَانَ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا فَسَّرَهُ
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقِيهُ الْكُوفَةِ».
ابن عبدالبرّ ههنا يتكلّم عن طريق هلال بن يسافٍ وحدها، ويقول:
إنّ فيها اضطراباً، قد يكون من قِبَل الأعمش، أو من قِبَل وكيع!
ويبدو لي أنّه لم يقف على طرق حديثِ عمران الصحيحة؛ لأنه لم
يُشر إليها من قريب ولا بعيد!
ولو سلّمنا بأنّه يضعّف حديثَ عمران كلّه؛ لكان كلامُه غيرَ
صحيح أبداً.
وقد تقدّم عند كلامي على مدار الحديث؛ أنّ الذين رووه عن عمران
بن حصين ثلاثةٌ ثقاتٌ، أحدهم هلال بن يساف.
فالحديث مشهورٌ أو مستفيضٌ عن عمران بن حصين رضي
الله عنه.
ثالثاً: وبإسنادي إلى الإمام مسلم في فضائل
الصحابة (2534) قال: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ:
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ (ح).
وَحَدَّثَنِي
إسْماعيلُ بنُ سَالِمٍ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ
شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (خَيْرُ أُمَّتِي القَرْنُ الَّذِينَ
بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وَاللهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ
الثَّالِثَ أَمْ لا.
قَالَ
الرسولُ: (ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ، يَشْهَدُونَ قَبْلَ
أَنْ يُسْتَشْهَدُوا).
حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ (ح).
وَحَدَّثَنِي
أَبُو بَكْرِ بنُ نَافِعٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ (ح).
وَحَدَّثَنِي
حَجَّاجُ بنُ الشَّاعِرِ: حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ
أَنَّ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «فلا أَدْرِي مَرَّتَيْنِ
أَوْ ثَلاثَةً».
وأخرجه الطيالسيّ في مسنده (2673) وإسحاق
بن راهويه في مسنده (94) وأحمد في مسنده (7123، 9318) والبزار في مسنده (9533) وقال:
«روي
نحو هذا الكلام مِنْ غَيْر وَجْه , عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولا نعلم يروى بهذا اللفظ إلاَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ , بهذا الإِسْنَاد» وأخرجه جمع غيرهم،
جميعهم من حديث أبي بِشْر جعفر بن إياسٍ اليشكري عن عبدالله بن شقيق، عن أبي
هريرة، به مرفوعاً.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ لا غبار عليه أبداً، فمن
الذي ركّب إسناده هذا؟
أبو بشر، أم عبدالله بن شقيق، أم أبو
هريرة؟
وقد أخرج البزّار في مسنده (9661) والطبراني في الأوسط
(5475) من حديث عقبة بن مكرم الكوفي قال: حَدَّثَنا يونس بن بكير ,
حَدَّثَنا داود بن يَزِيد , عن أبيه , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم، ثم الرابعُ
أرذلُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ).
قال أبو بكر البزار: «هَذَا الحديثُ، لاَ نَعْلَمْهُ يُرْوَى
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ، إلاَّ مِنْ
هَذَا الوَجْه».
وقال الطبراني: «لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ دَاوُدَ
الْأَوْدِيِّ، إِلَّا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، تَفَرَّدَ بِهِ عُقْبَةُ بْنُ
مُكْرَمٍ».
وفي إسناد هذه الطريقِ داود بن يزيد الزعافريّ، قال أحمد فيه:
ضعيف الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيءٍ!
خلاصة الكلام على حديثِ أبي هريرة: إنّ أبا هريرةَ لم يصرّح
بسماعِه هذا الحديثَ من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!
ويترجّح أنّه سمعه من عمران بن حصين، فحافظ على صيغة الشكّ، كما
سمعها من عمران.
وهذا لا يستدعي تركيبَ أسانيد، ولا يستلزم ضعفاً في متن الحديث.
ختاماً: طال المنشور كثيراً، وصفحة الفيسبوك لا تحتمله، بيد
أنني أحبّ أن أقول لأخي الباحث الكريم وغيره من المشتغلين في علم الحديث؛ أن لا
يستعجلوا في نشر المَعلومة التي تستهويهم قبل أن يتيقّنوا من صدقيتها، ويكون لديهم
الأدلّة العلميّة على إثباتها.
إنّ احتمالَ أن يكون في الصحيحين أسانيدَ مركّبة؛ احتمال باطلٌ
تماماً، ولو وُجِد إسناد واحدٌ مركّب؛ لما خفي على علماء الإسلام.
وقد قابلنا صحيح البخاريّ وخرّجنا أحاديثَه كاملةً؛ فما وقفنا على
خمسةِ أحاديث مدارُها على الإمام البخاريّ، فمن أين يأتي تركيب الإسناد، ومن الذي
سيقوم به، وينسبه إلى الصحابة؟
أنا الفقير لا أمنح صحيح البخاريّ ولا غيره من كتب الرواية قدسيّة،
ولا أمنع البحثَ في متونه وأسانيده - كما هو معلوم لديكم - بيد أنّ هذا لا يعني
أبداً التشكيكَ بصحّة نسبةِ هذا الكتاب إلى مؤلّفه، كما لا يعني أبداً أنّ من
الممكن أن يغفل الإمام البخاريّ عن أحاديثَ مركّبة الأسانيد، فيودعها في صحيحه.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا،
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.