مِنْ عِبَرِ التاريخِ (14):
الحُسينُ بن عليٍّ عليهما
السلام
وفتوى ابن العِمادِ
الحنبليّ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
النصبُ في الحنابلةِ؛ ظاهرٌ - كما يقول أبو الفرج
بن الجوزيّ - هذا صحيح!
بيد أنّ في الحنابلة علماءَ أفاضلَ قديماً وحديثاً،
يحبّون الرسولَ صلّى االله عليه وآله وسلّم وأهلَ بيته، منهم أبو الفلاح عبدُ
الحيّ بن أحمد العُكبريّ، المعروف بابن العماد الحنبليّ (ت: 1089 هـ) رحمه الله
تعالى.
ترجم للإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام، في
كتابه الشهير «شذرات الذهب» (1: 273 - 280) ترجمةً ضافيةً، صافيةً، نبيلةً، فقال:
(سَنَةُ إحدى وسِتّينَ:
استشهد فيها، في يوم عاشوراء أبو عبد الله الحسين
بن عليّ بن أبي طالب، سبطُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانتُه بكربلاءَ، عن
ستٍّ وخمسين سنة.
ومِن أسباب ذلك؛ أنّ الحسينَ كان قد أبى من البيعة ليزيد،
حين بايع له أبوه النّاس، رابعَ أربعةٍ: عبدُالله بن عُمَر، وعبد الله بن الزّبير،
وعبد الرّحمن بن أبي بكر.
فلمّا مات معاويةُ؛ جاءت كتبُ أهل العراق إلى
الحسينِ، يسألونه القدوم عليهم!
فسار بجميع أهله، حتى بلغ كربلاءَ، موضعاً بقرب
الكوفة.
فعَرَض له عُبيدالله بنُ زياد، فقتلوه، وقتلوا معه
ولديه عليّا الأكبر، وعبد الله، وإخوتَه محمّداً وجعفراً، وعتيقاً، والعبّاسَ
الأكبر، وابن أخيه قاسم بن الحسن، وأولاد عمّه محمّداً، وعوناً، ابنا عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، ومسلمَ بن عقيل بن أبي طالب، وابنيه عبد الله، وعبد الرّحمن.
ومختصر ذلك أن يزيدَ لمّا بويع له بعد موت أبيه،
وكان أبوه بايع له الناس، فأرسل يَزيدُ إلى عامله بالمدينة الوليدِ بن عتبةَ، يأخذ
له البيعة، فأرسل إلى الحسين، وعبد الله ابن الزّبير، فأتياه ليلاً، وقالا له: مُثلنا
لا يُبايِع سرّاً، بل على رؤوس الأشهاد.
ثم رجعا، وخرجا من ليلتهما، في بقيةٍ مِن رجب، فقدم
الحسين مكّة، وأقام بها، وخرجَ منها يومَ الترويةِ إلى الكوفة.
فبعث عبيدُالله بنُ زيادٍ لحربِه عُمرَ بنَ سعدِ بن
أبي وقّاص.
وقيل: أرسل عبدَالله بنَ الحارثِ التميميّ، أنْ جَعْجِعْ
بالحسين، أي: احْبِسْه.
والجعجاع: المكان الضيّق.
ثم أمر عُمَرَ بنَ سَعدٍ في أربعة آلاف، ثم صار
عبيدُالله بن زياد، يَزيدُ في العسكر، إلى أن بلغوا اثنين وعشرين ألفاً، وأميرُهم
عُمر بن سعد ابن أبي وقّاص.
واتّفقوا على قتله يومَ عاشوراءَ، قيل: يومَ
الجمعة، وقيل: السبتَ، وقيل: الأحدَ.
بمَوضعٍ يُقال له: الطَفُّ، وقتل معه اثنان وثمانون
رجلاً، فيهم عبداللهِ بنُ الحارثِ بن يزيد التّميميّ، لأنه تاب آخراً، حين رأى مَنْعَهم
للحسينِ مِن الماء، وتضييقَهم عليه.
قيل: ووُجد بالحسينِ رضي الله عنه ثلاثٌ وثلاثون
طعنة، وأربعٌ وثلاثون ضربة، وقتل معه من الفاطميين سبعةَ عَشرَ رجلاً.
وقال الحسن البصريّ: أُصيب مَع الحسينِ سِتّة عشرَ
رَجلاً مِن أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شَبيهٌ، وجاءَ بعضُ الفَجَرةِ
برأسه إلى ابن زيادٍ، وهو يقول:
(أَوقِرْ رِكابي فضّةً وذَهبا ... إني قتلتُ الملكَ
المُحجّبا
قَتلت خيرَ النّاسِ أمّاً وأباً ... وخيرَهم، إذ يُنسبون
نسباً)
فغضِب لذلك، وقال: إذْ علمت أنه كذلك؛ فلِمَ قَتَلتَه؟
والله لألحقنك به!
وضربَ عنقَه، وقيل: إن يَزيدَ هو الذي قتلَ القائلَ.
ولما تَمّ قَتْلُه؛ حُمِل رأسُه، وحُرَمُ بيتِه، وزَينُ
العابدين معهم إلى دمشق، كالسبايا!
قاتل اللهُ فاعِلَ ذلك، وأخزاه، ومَنْ أمَرَ به، أو
رَضيَه.
والصحيحُ أنّ الرأسَ المُكرَّم دُفِن بالبقيعِ، إلى
جَنب أمّه فاطمةَ، وذلك أن يزيدَ بعث به إلى عامله بالمدينة عَمرِو بنِ سعيدٍ
الأشدقِ، فكفّنَه ودَفَنَه.
والعُلماءُ مُجمعونَ على تَصويبِ قتالِ عليٍّ «عليه
السلام» لمخالفيه؛ لأنّه الإمامُ الحَقُّ!
ونُقِل الاتفاقُ أيضاً على تَحسينِ خروجِ الحُسينِ
على يَزيدَ، وخروجِ ابنِ الزّبيرِ، وأهلِ الحرمينِ على بني أمية، وخروجِ ابنِ
الأشعثِ، ومَن مَعه مِن كبارِ التابعين وخيارِ المسلمين على الحجّاج.
ثم إنّ الجمهورَ رَأوا جوازَ الخروجِ على مَن كان
مثل يزيدَ، والحجّاجِ، ومنهم من جوّزَ الخروجَ على كُلِّ ظالم.
وعَدّ ابنُ حزمٍ خُرومَ الإسلامِ أربعةً: قتلَ
عثمانَ، وقتلَ الحسينِ، ويومَ الحرّة، وقتلَ ابن الزّبير.
ولعلماءِ السلفِ في يزيدَ وقَتَلَةِ الحُسينِ خلافٌ
في اللَعْنِ والتَوقّفِ.
قال أبو عمرو ابنُ الصّلاح: «والنّاس في يزيد ثلاثُ
فَرق:
فرقةٌ تحبّه وتتولّاه!
وفرقة تسبّه وتلعنه!
وفرقة متوسطة في ذلك، لا تتولّاه ولا تلعنه!
قال ابن الصلاح: وهذه الفرقةُ هي المصيبة، ومذهبُها
هو اللائقُ، لمن يَعرفَ سِيَر الماضين، ويعلمُ قواعد الشريعةِ الظاهرةِ». انتهى
كلامه.
قال ابن العِمادِ: ولا أظن الفِرقةَ الأولى توجدُ
اليوم!
وعلى الجملةِ، فما نُقل عن قتلةِ الحسينِ
والمتحاملين عليه؛ يَدْلُّ على الزندقةِ وانحلالِ الإيمانِ مِن قلوبهم، وتَهاونِهم
بمنصبِ النّبوّة، وما أعظمَ ذلك!
فسبحان من حفظ الشريعة حينئذٍ وشيّد أركانَها حتى
انقضت دولتهم!
وعلى فِعْلِ الأمويين وأمرائهم بأهلِ البيتِ؛ حُمِلُ
قولُه صلى الله عليه وسلم: (هلاك أُمتي على أيدي غِلْمَةٍ مِن قريش) قال أبو
هريرة: «لو شئت أن أقول: بَني فُلانٍ، وبني فُلانٍ؛ لفعلت» أخرجه البخاري (3605)
ومسلم (2917).
ومثلُ فِعل يزيدَ؛ فِعلُ بُسر بن أرطاةَ العامريِّ
أميرِ معاوية، في أهل البيتِ، من القَتلِ والتَشريد، حتى خدَّ لهم الأخاديدَ،
وكانت له أخبارٌ شنيعة في عليٍّ «عليه السلام» وقتلِ وَلَدَي عُبيدِالله بن عبّاس
وهما صغيران على يَدَي أمّهما، ففقدت عَقلَها، وهامَت على وَجْهِها.
فدَعا عليه عَليٌّ «عليه السلام» أن يُطيلَ الله عُمُرَه،
ويُذْهِبَ عقلُه، فكان كذلك، خَرفَ في آخر
عمره، ولم تَصِحّ له صحبةٌ، وقال الدّارقطنيُّ :
كانت له صُحبةٌ، ولم تكن له استقامةٌ، بعد النبيّ
صلى الله عليه وسلم.
وقال التّفتازانيُّ في «شرح العقائد النسفية» (ص:
381): «وبعضهم أطلق اللعن على يزيدَ لما أنّه كفرَ حينَ مرَ بقتل الحسين، واّتفقوا
على جَواز اللَعنِ على مَن قتلَ الحسينَ، أو أمرَ به، أو أجازَه، أو رَضِيَ به.
قال التّفتازانيُّ: والحقُّ إنّ رِضا يَزيدَ بقتلِ
الحسينِ، واستبشارَه بذلك، وإهانتَه أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مما تَواتر
معناه، وإن كان تَفصيله آحاداً.
قال: فنحنُ لا نتوقف في شأنِه، بل في كُفرِه وإيمانِه،
لعنةُ الله عليه وعلى أنصارِه وأعوانِه» انتهى كلام التفتازاني، وقد عدّلتُ النصّ
من العقائد النسفية فليُعْلَم.
وقال الحافظُ ابن عساكر: نُسب إلى يَزيدَ قَصيدةٌ مِنها:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ
الأَسَلْ
لَعبت هاشمُ بالملكِ، فلا ... مَلَكٌ جاءَ، ولا وَحيٌ
نَزَلْ
فإن صحّت عنه؛ فهو كافرٌ، بلا ريب» انتهى بمعناه.
وقال الذّهبيّ «في النبلاء» (4: 37): «كان ناصبيّاً،
فَظّاً، غَليظاً، يتناول المسكر ويَفعَل المُنْكَر، افتتح دولتَه بقتل الحسين،
وختمها بوقعة الحرّة، فمقته النّاس، ولم يُبارَك في عُمره، وخرج عليه غيرُ واحدٍ
بعد الحسين» وذكر من خرج عليه.
وقال فيه في «الميزان» (4: 440): «مَقدوح في عدالته،
ليس بأهلِ أَن يُروَى عنه، وقال أحمد بن حنبلٍ: لا ينبغي أن يُروَى عنه».
وقال رجل في حضرة عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين
يزيد، فضربه عمر عشرين سوطاً.
واستُفتي الكِيا الهرّاسي فيه؟ فذكر فصلاً واسعاً مِن
مخازيه، حتى نَفِدَت الورقةُ!
ثم قال: ولو مُدِدْتُ بِبياضٍ؛ لمددتِ العِنان في
مخازي هذا الرجل».
وأشار الغزاليُّ إلى التَوقّف في شأنه، والتنزّهِ
عن لَعنه، مع تَقبيح فِعْله.
وقال اليافعيُّ: وأمّا حُكم مَن قتلَ الحسينَ أو
أمرَ بقتلِه، مَن استحلّ ذلك؛ فهو كافر، وإن لم يَستحلَّ؛ فهو فاسق فاجرٌ، والله
أعلم» انتهى كلام ابن العماد، رحمه الله تعالى.
ختاماً: إنّ تجويزَ لعن يزيدَ، أو عدم تجويزه؛ ليس
هو المهمّ عندي أبداً!
إنّما المهمُ؛ هو الانتباهُ إلى حال الأمة
المتردّي، بعد خمسين عاماً من وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!
علماء الإسلام يتورّعون عن لعن ظالم فاسق فاجر وسخ!
ولا يستعظمون ما فعله يزيدُ في واقعة الحرّةِ
السُبّةِ، ولا يستعظمون دماءَ الحسين وأهل بيته وأنصاره الذين ضحّوا بأرواحهم
ليقولوا للناس: نُقتَلُ ولا نجوّزُ لفاجر قذرٍ أن يتولى أمر أمّة محمّد صلى الله
عليه وآله وسلّم!
والله المستعان.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.