مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (9):
موقف الشيعة الإماميّة من أمّ المؤمنين عائشة
عليها السلام!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
كتب إليّ يقول: «نسمعُ من بعض قنواتِ أهل السنة اتّهامَهم
للشيعة الإماميّة برميِ أمّ المؤمنين عائشة بالفاحشة.
وأنت نقلتَ عن بعض الفضائيّات الشيعية، مثل «قناة فدك» وقناة
«همام حوت» وقناة «المنتقم» أنهم مشتغلون بعائشةَ، وكأنْ ليس لهم شغلٌ آخر.
أليس هذا دليلاً على نسبة هذا المذهب إلى الإماميّة، وإلّا
فلماذا لا يأخذون على أيديهم، ويزجرونهم عن هذا السفه الوقح، المثير للحميّةِ
والانتقام»؟
أقول وبالله التوفيق:
في بداية ذي بَدْءٍ أقدّم بين يدي كلامي قولَ الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
[المائدة].
أنا والله الذي لا إله إلا هو؛ لا أعتقد بواحدةٍ من عقائدِ
الشيعة الإمامية: «النَصّ، والتعيين، والعصمة، والإمامةِ، والبداء، والرجعة، والمهدي».
ولا أجوّز من بدع الإمامية تشييدَ المشاهد على القبور، ولا
اتّخاذَ مواسمَ وأعيادٍ لها، ولا أجوّز المشيَ من بغداد والناصرية والبصرةِ وغيرها
من البلدان إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين وبقية شهداء آل البيت في كربلاء،
عليهم السلام!
ولا أصحح أي حديثٍ، أو أثرٍ عن واحدٍ من أئمة آل البيت في
استحباب زيارتها بخصوصها، فجميع الأحاديث
والآثار الواردة في ذلك؛ كذب صريح.
ولا أجوّز اللطم والمسيراتِ والتطبير، وسائر مظاهر التخلّف التي
يقومون بها، مما يوغر صدورَهم على المسلمين، الذين ليس لهم أدنى ذنب في مقاتل
الطالبيين رضي الله عنهم.
وأحرّم على جميع المسلمين أكلَ درهم واحدٍ من مال الدولة، الذي هو
مالُ الأمّة، بدعوى أنّه «مال مجهول المالك» فهذه فتوى خبيثة ضالّة، ليس عليها
أثارةٌ من علم، ولا مسحةٌ من تقوى!
إنّ الأصل الوحيدَ الظاهر، الذي أعتقده من عقائد الشيعة
الإماميّة السياسيّة؛ هو ولايةُ الإمام عليٍّ عليه السلام، ولايةً دينيّة وسياسيّة
بآن.
ومسألة مقال اليوم «اتّهام أمّ المؤمنين عائشة بالفاحشة» ليست
من معتقداتِ الشيعةِ – كلّ
الشيعة - ولا من فقههم، لأنّ عقيدتهم تنزيهُ نساءِ الأنبياء جميعاً عمّا هو
دون الفاحشة، من مقدّماتها؛ لأنّ من مقتضى قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) أنْ يَمنَعَ الله عزّ وجلّ عن رسلِه كلَّ ما يهينُ أعراضَهم، وينفّر
الناس عنهم.
وإنّ أشهرَ مُصنَّفٍ نالَ من أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
هو عليّ بن إبراهيم القميّ، شيخُ أبي جعفرٍ الكُلينيّ، في تفسيره (2: 75):
قال علي بن ابراهيم في تفسير قوله تعالى: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا، فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
[التحريم].
ثم ضرب الله فيهما مثلاً، فقال: والله ما عنى بقوله (فخانتاهما)
إلا الفاحشةَ، وليُقيمَنّ الحدَّ على فُلانةٍ «عائشة» فيما أتت في طريق البصرة، وكان
فلانٌ «طلحة» يحبّها.
فلمّا أرادت أن تخرج إلى البصرة؛ قال لها فلان: لا يحل لك أن
تخرجي من غير محرمٍ، فزوّجَت نَفسَها مِن فلانٍ «طلحة» ا. هـ.
قال المجلسيُّ في بحار الأنوار (22: 240) تعقيباً على كلام علي
بن إبراهيم:
«فيه شناعةٌ شديدةٌ، وغرابةٌ عجيبة، نَستَبْعِدُ صدورَ مثله عن
شيخنا عليّ بن إبراهيم، بل نَظنّ أنّه مِن زيادات غيره، لأنّ التفسيرَ الموجود؛
ليس بتمامِه منه، قُدّس سِرُّه، بل فيه زياداتٌ كثيرةٌ من غيره.
فعلى أيٍّ، هذه مَقالةٌ
يُخالفُها المسلمون بأجمعهم من الخاصة والعامة، وكلّهم يُقرّون بِقداسةِ أذيال
أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم ممّا ذُكِر.
نعم بعضُهم يعتقدون عِصيانَ بَعضهنَّ، لمخالفتِها أميرَ
المؤمنين عليّاً عليه السلام» انتهى كلام المجلسيّ.
قال الفقير عداب:
وممّا يؤيّد كلام المجلسيّ بوجودِ تصرّفٍ في نسخة تفسير القميّ؛
ما نقله السيّد محمّد رضا السيستاني في كتابه «قبسات من علم الرجال» (1: 120) عن
المحقّق الشيخ أسد الله الكاظميّ في كتابه «كشف القناع» (ص: 214) أنه قال:
«ربما يظهر من عبارات تفسير عليّ بن إبراهيم؛ أنّ كثيراً من
رواياته من زيادةِ راوي الكتاب، فلعله هو الذي ألّفه حين كُفّ بصرُ عليّ بن
إبراهيم، فإنّ النجاشيّ ذكر أنه أضرّ في وسط عمره».
قال السيد محمد رضا: «الأرجح بملاحظة ما سيأتي من الشواهد؛ أنّ
أصلَ كتاب التفسير، كان من تأليف عليّ بن إبراهيم.
وإنما أُجري عليه بعض التغييراتِ من إضافةٍ وحذفٍ وتعديلٍ
وتبديلٍ في زمن لاحقٍ، وهذه النسخة – التي
دخل عليها هذه الأمور – هي
التي وصلت إلى أيدي المتأخرين».
وقال أيضاً (1: 119): «إنّ هناك شواهدَ واضحةً على أنّ قسماً
كبيراً مما تضمنته النسخة المتداولةُ لتفسير القميّ؛ ليس من مروياتِ عليّ بن
إبراهيم، وأوّل من تنبّه إلى ذلك فيما أعلم، هو المحقق الشيخُ آغا بُزُرْكَ
الطهراني في الذريعة».
قال عداب: استدرك هو على نفسه في الصفحة التالية (120) بأنّ أسد
الله قد سبق آغا بُزُرْكَ.
وأنا أقول: سبقهما المجلسيّ في بحار الأنوار كما تقدم.
نخلص مما تقدّم أنّ هذا النصّ الفاحشَ؛ تُستبعد نسبته إلى عليّ
بن إبراهيم القميّ، وهو مخالفٌ لإجماع العامة والخاصة على قداسة أذيال أزواج الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
وقال الشريف المرتضى الموسويّ رضي اللُه عنه، في كتابه «تنزيه
الأنبياء» (ص: 36):
«لأنّ الأنبياءَ عليهم السلام يجب أن يُنَزهوا عن هذه الحالِ؛
لأنها تعييرٌ وتَشيينٌ ونَقصٌ في القَدْر، وقد جنّبهم الله تعالى ما دون ذلك تَعظيماً
لهم وتوقيراً ونَفياً لكل ما يُنَفِّرُ عن القبول منهم.
وقد حمل ابنُ عبّاس قُوّةَ ما ذكرناه مِن الدلالة على أنّ تأويلَ
قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوطٍ (فخانتاهما) أنّ الخيانة لم تكن منهما
بالزنا، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون، والأخرى تدل على الأضياف».
وقال الطوسيّ في تفسيره (10: 50) يفسّر آية (فخانتاهما):
قال ابن عبّاس: «كانت امرأةُ نوحٍ وامرأةُ لوطٍ منافِقَتَين
(فخانتاهما) قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنّه مجنون.
وكانت امرأة لوط تَدُلّ على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما
زنت امرأة نبي قط» لما في ذلك من التنفير عن الرسول عليه السلام، وإلحاقِ الوصمة
به.
فمن نسب أحداً من زوجاتِ النَبيِّ إلى الزنا؛ فقد أخطأ خطأً
عظيما، وليس ذلك قولاً لمُحَصِّلٍ».
وقال الطبرسي في مجمع البيان (5: 254):
إنّ الأنبياءَ يَجب أن يُنَزهوا عن مثل هذه الحال؛ لأنها تُعَيّرُ
وتَشينُ! وقد نَزّه الله أنبياءَه عمّا دون ذلك، تَوقيراً لهم و تعظيماً، عمّا يُنَفّر
عن القَبول منهم.
ورُوي عن ابن عباسٍ أنّه قال: «ما زنت امرأةُ نَبيٍّ قَطُّ.
وكانت الخيانةُ من امرأة نوح؛ أنها كانت تَنسبه إلى الجنون!
والخيانةُ من امرأةِ لوطٍ أنّها كانت تَدُلّ على أضيافه».
وقال السيّد الطباطبائيُّ في الميزان (15: 52):
«على أنّا نقولُ: إنّ تَسرّب الفَحشاءِ إلى أهلِ النَبيّ صلى
الله عليه وآله وسلّم يُنفّر القلوبَ عنه، فمِن الواجبِ «التفضليّ» أن يُطَهّر
الله سبحانه ساحةَ أزواجِ الأنبياءِ عن لَوثِ الزنا والفحشاءِ.
وإلّا لَغَت الدعوةُ.
وتَثبتُ بهذه الحُجّة العَقليةِ عِفتُهنّ واقعاً، لا ظاهراً
فحسب!
والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منّا، فكيف
جاز له أن يرتاب في أمر أهلِه برَمْيٍ مِن رامٍ أو شيوعٍ مِن إفكٍ».
قال عداب: يعرّض الطباطبائيّ ببعض علماء أهل السنة الذين قالوا:
إنّ الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم شكّ بعائشة!
فقد أخرج البخاريّ (2661) ومسلم (4974) أنّ الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم قال لعائشة: (إن كنت بريئةً؛ فسيبرّؤك الله، وإن كنت ألممت بذنبٍ؛
فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبدَ إذا اعترف بذنبه، ثم تاب؛ تاب الله عليه)!
فترد عليه عائشة بقولها: «لقد علمتُ أنكم
سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر ذلك في قلوبكم، وصدقتم به».
وهذا كلام خطيرٌ، ليس موضع مناقشته ههنا، إنما الشاهد منه أنّ
كلام الشيعة الإماميةِ؛ أحسن مما ورد في صحيح البخاريّ، مما يوحي بأنّ الرسولَ
وأبا بكرٍ وأمّ رومان جميعهم كانوا قد شكّوا، وأنّ عائشة تتهمهم جميعاً بأنهم
صدّقوا ذلك ووقر في قلوبهم!
وقال السيّد الألوسيّ في تفسيره (14: 357):
«وما ينسب إلى الشيعة مما يخالف ذلك، في حقّ سيّد الأنبياء صلّى
الله تعالى عليه وسلّم؛ كَذبٌ عليهم، فلا تُعَوّلْ عليهِ، وإنْ كان شائعاً».
أقول: نعم ظهر في هذا العصر البائسِ أهلُه أناسٌ مثل ياسر
الحبيب وأمير القريشي، وغيرهما من الخبثاء، الذين لا يخافون الله تعالى، ولم يسكن
الورع والتقوى في قلوبهم، أشاعوا هذا القولَ الباطلَ المنسوب إلى تفسير القميّ، وهم
من الأخباريين الذين يصدّقون بجميع ما في كتب الأخبار عند الشيعة أو أكثرها، مع
أنّ نسبة الباطل فيها تزيد على (80%) بيقين!
ختاماً: عائشة رضي الله عنها وسائرُ أمّهات المؤمنين، ومعهنّ
مارية أمّ إبراهيم طاهراتٌ، منزّهات عن مقدّمات الفاحشةِ، فضلاً عنها.
ومَن يَنطِقْ باتّهام واحدةٍ منهنّ بالزنا؛ فيقام عليه حدّ
القذفِ، ويكذّب نفسه، ويتوب إلى الله تعالى، وإلّا لم تُقبل له شهادةٌ طيلَة عمره،
من أيّ الطوائف كان.
ثمّ إن كان من أهل السنّة؛ فيستتاب، لأنّه ارتدّ عن الإسلام، إذ
أهل السنة مجمعون على أنّ آياتِ صدر سورة النور نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها.
فقذف السنيّ إياها بعد نزول براءتها؛ تكذيبٌ للآيات الواردة في
سورة النور.
وإنما لم نكفّر القاذفَ غيرَ السنيّ؛ لأنهم يعتقدون أنّ هذه
الآيات نزلت في براءة أمّ إبراهيم، رضي الله عنهما، وليست في عائشة.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.