الأربعاء، 31 مارس 2021

 مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (9):

موقف الشيعة الإماميّة من أمّ المؤمنين عائشة

عليها السلام!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

كتب إليّ يقول: «نسمعُ من بعض قنواتِ أهل السنة اتّهامَهم للشيعة الإماميّة برميِ أمّ المؤمنين عائشة بالفاحشة.

وأنت نقلتَ عن بعض الفضائيّات الشيعية، مثل «قناة فدك» وقناة «همام حوت» وقناة «المنتقم» أنهم مشتغلون بعائشةَ، وكأنْ ليس لهم شغلٌ آخر.

أليس هذا دليلاً على نسبة هذا المذهب إلى الإماميّة، وإلّا فلماذا لا يأخذون على أيديهم، ويزجرونهم عن هذا السفه الوقح، المثير للحميّةِ والانتقام»؟

أقول وبالله التوفيق:

في بداية ذي بَدْءٍ أقدّم بين يدي كلامي قولَ الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) [المائدة].

أنا والله الذي لا إله إلا هو؛ لا أعتقد بواحدةٍ من عقائدِ الشيعة الإمامية: «النَصّ، والتعيين، والعصمة، والإمامةِ، والبداء، والرجعة، والمهدي».

ولا أجوّز من بدع الإمامية تشييدَ المشاهد على القبور، ولا اتّخاذَ مواسمَ وأعيادٍ لها، ولا أجوّز المشيَ من بغداد والناصرية والبصرةِ وغيرها من البلدان إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين وبقية شهداء آل البيت في كربلاء، عليهم السلام!

ولا أصحح أي حديثٍ، أو أثرٍ عن واحدٍ من أئمة آل البيت في استحباب زيارتها بخصوصها،  فجميع الأحاديث والآثار الواردة في ذلك؛ كذب صريح.

ولا أجوّز اللطم والمسيراتِ والتطبير، وسائر مظاهر التخلّف التي يقومون بها، مما يوغر صدورَهم على المسلمين، الذين ليس لهم أدنى ذنب في مقاتل الطالبيين رضي الله عنهم.  

وأحرّم على جميع المسلمين أكلَ درهم واحدٍ من مال الدولة، الذي هو مالُ الأمّة، بدعوى أنّه «مال مجهول المالك» فهذه فتوى خبيثة ضالّة، ليس عليها أثارةٌ من علم، ولا مسحةٌ من تقوى!

إنّ الأصل الوحيدَ الظاهر، الذي أعتقده من عقائد الشيعة الإماميّة السياسيّة؛ هو ولايةُ الإمام عليٍّ عليه السلام، ولايةً دينيّة وسياسيّة بآن.

ومسألة مقال اليوم «اتّهام أمّ المؤمنين عائشة بالفاحشة» ليست من معتقداتِ الشيعةِ كلّ الشيعة - ولا من فقههم، لأنّ عقيدتهم تنزيهُ نساءِ الأنبياء جميعاً عمّا هو دون الفاحشة، من مقدّماتها؛ لأنّ من مقتضى قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أنْ يَمنَعَ الله عزّ وجلّ عن رسلِه كلَّ ما يهينُ أعراضَهم، وينفّر الناس عنهم.

وإنّ أشهرَ مُصنَّفٍ نالَ من أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها هو عليّ بن إبراهيم القميّ، شيخُ أبي جعفرٍ الكُلينيّ، في تفسيره (2: 75):

قال علي بن ابراهيم في تفسير قوله تعالى: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) [التحريم].

ثم ضرب الله فيهما مثلاً، فقال: والله ما عنى بقوله (فخانتاهما) إلا الفاحشةَ، وليُقيمَنّ الحدَّ على فُلانةٍ «عائشة» فيما أتت في طريق البصرة، وكان فلانٌ «طلحة» يحبّها.

فلمّا أرادت أن تخرج إلى البصرة؛ قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجي من غير محرمٍ، فزوّجَت نَفسَها مِن فلانٍ «طلحة» ا. هـ.

قال المجلسيُّ في بحار الأنوار (22: 240) تعقيباً على كلام علي بن إبراهيم:

«فيه شناعةٌ شديدةٌ، وغرابةٌ عجيبة، نَستَبْعِدُ صدورَ مثله عن شيخنا عليّ بن إبراهيم، بل نَظنّ أنّه مِن زيادات غيره، لأنّ التفسيرَ الموجود؛ ليس بتمامِه منه، قُدّس سِرُّه، بل فيه زياداتٌ كثيرةٌ من غيره.

 فعلى أيٍّ، هذه مَقالةٌ يُخالفُها المسلمون بأجمعهم من الخاصة والعامة، وكلّهم يُقرّون بِقداسةِ أذيال أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم ممّا ذُكِر.

نعم بعضُهم يعتقدون عِصيانَ بَعضهنَّ، لمخالفتِها أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام» انتهى كلام المجلسيّ.

قال الفقير عداب:

وممّا يؤيّد كلام المجلسيّ بوجودِ تصرّفٍ في نسخة تفسير القميّ؛ ما نقله السيّد محمّد رضا السيستاني في كتابه «قبسات من علم الرجال» (1: 120) عن المحقّق الشيخ أسد الله الكاظميّ في كتابه «كشف القناع» (ص: 214) أنه قال:

«ربما يظهر من عبارات تفسير عليّ بن إبراهيم؛ أنّ كثيراً من رواياته من زيادةِ راوي الكتاب، فلعله هو الذي ألّفه حين كُفّ بصرُ عليّ بن إبراهيم، فإنّ النجاشيّ ذكر أنه أضرّ في وسط عمره».

قال السيد محمد رضا: «الأرجح بملاحظة ما سيأتي من الشواهد؛ أنّ أصلَ كتاب التفسير، كان من تأليف عليّ بن إبراهيم.

وإنما أُجري عليه بعض التغييراتِ من إضافةٍ وحذفٍ وتعديلٍ وتبديلٍ في زمن لاحقٍ، وهذه النسخة التي دخل عليها هذه الأمور هي التي وصلت إلى أيدي المتأخرين».

وقال أيضاً (1: 119): «إنّ هناك شواهدَ واضحةً على أنّ قسماً كبيراً مما تضمنته النسخة المتداولةُ لتفسير القميّ؛ ليس من مروياتِ عليّ بن إبراهيم، وأوّل من تنبّه إلى ذلك فيما أعلم، هو المحقق الشيخُ آغا بُزُرْكَ الطهراني في الذريعة».

قال عداب: استدرك هو على نفسه في الصفحة التالية (120) بأنّ أسد الله قد سبق آغا بُزُرْكَ.

وأنا أقول: سبقهما المجلسيّ في بحار الأنوار كما تقدم.

نخلص مما تقدّم أنّ هذا النصّ الفاحشَ؛ تُستبعد نسبته إلى عليّ بن إبراهيم القميّ، وهو مخالفٌ لإجماع العامة والخاصة على قداسة أذيال أزواج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجمعين.  

وقال الشريف المرتضى الموسويّ رضي اللُه عنه، في كتابه «تنزيه الأنبياء» (ص: 36):

«لأنّ الأنبياءَ عليهم السلام يجب أن يُنَزهوا عن هذه الحالِ؛ لأنها تعييرٌ وتَشيينٌ ونَقصٌ في القَدْر، وقد جنّبهم الله تعالى ما دون ذلك تَعظيماً لهم وتوقيراً ونَفياً لكل ما يُنَفِّرُ عن القبول منهم.

وقد حمل ابنُ عبّاس قُوّةَ ما ذكرناه مِن الدلالة على أنّ تأويلَ قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوطٍ (فخانتاهما) أنّ الخيانة لم تكن منهما بالزنا، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون، والأخرى تدل على الأضياف».

وقال الطوسيّ في تفسيره (10: 50) يفسّر آية (فخانتاهما):

قال ابن عبّاس: «كانت امرأةُ نوحٍ وامرأةُ لوطٍ منافِقَتَين (فخانتاهما) قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنّه مجنون.

وكانت امرأة لوط تَدُلّ على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما زنت امرأة نبي قط» لما في ذلك من التنفير عن الرسول عليه السلام، وإلحاقِ الوصمة به.

فمن نسب أحداً من زوجاتِ النَبيِّ إلى الزنا؛ فقد أخطأ خطأً عظيما، وليس ذلك قولاً لمُحَصِّلٍ».

وقال الطبرسي في مجمع البيان (5: 254):

إنّ الأنبياءَ يَجب أن يُنَزهوا عن مثل هذه الحال؛ لأنها تُعَيّرُ وتَشينُ! وقد نَزّه الله أنبياءَه عمّا دون ذلك، تَوقيراً لهم و تعظيماً، عمّا يُنَفّر عن القَبول منهم.

ورُوي عن ابن عباسٍ أنّه قال: «ما زنت امرأةُ نَبيٍّ قَطُّ.

وكانت الخيانةُ من امرأة نوح؛ أنها كانت تَنسبه إلى الجنون!

والخيانةُ من امرأةِ لوطٍ أنّها كانت تَدُلّ على أضيافه».

وقال السيّد الطباطبائيُّ في الميزان (15: 52):

«على أنّا نقولُ: إنّ تَسرّب الفَحشاءِ إلى أهلِ النَبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يُنفّر القلوبَ عنه، فمِن الواجبِ «التفضليّ» أن يُطَهّر الله سبحانه ساحةَ أزواجِ الأنبياءِ عن لَوثِ الزنا والفحشاءِ.

وإلّا لَغَت الدعوةُ.

وتَثبتُ بهذه الحُجّة العَقليةِ عِفتُهنّ واقعاً، لا ظاهراً فحسب!

والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منّا، فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهلِه برَمْيٍ مِن رامٍ أو شيوعٍ مِن إفكٍ».

قال عداب: يعرّض الطباطبائيّ ببعض علماء أهل السنة الذين قالوا: إنّ الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم شكّ بعائشة!

فقد أخرج البخاريّ (2661) ومسلم (4974) أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة: (إن كنت بريئةً؛ فسيبرّؤك الله، وإن كنت ألممت بذنبٍ؛ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبدَ إذا اعترف بذنبه، ثم تاب؛ تاب الله عليه)!

فترد عليه عائشة بقولها: «لقد علمتُ أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر ذلك في قلوبكم، وصدقتم به».

وهذا كلام خطيرٌ، ليس موضع مناقشته ههنا، إنما الشاهد منه أنّ كلام الشيعة الإماميةِ؛ أحسن مما ورد في صحيح البخاريّ، مما يوحي بأنّ الرسولَ وأبا بكرٍ وأمّ رومان جميعهم كانوا قد شكّوا، وأنّ عائشة تتهمهم جميعاً بأنهم صدّقوا ذلك ووقر في قلوبهم!

وقال السيّد الألوسيّ في تفسيره (14: 357):

«وما ينسب إلى الشيعة مما يخالف ذلك، في حقّ سيّد الأنبياء صلّى الله تعالى عليه وسلّم؛ كَذبٌ عليهم، فلا تُعَوّلْ عليهِ، وإنْ كان شائعاً».

أقول: نعم ظهر في هذا العصر البائسِ أهلُه أناسٌ مثل ياسر الحبيب وأمير القريشي، وغيرهما من الخبثاء، الذين لا يخافون الله تعالى، ولم يسكن الورع والتقوى في قلوبهم، أشاعوا هذا القولَ الباطلَ المنسوب إلى تفسير القميّ، وهم من الأخباريين الذين يصدّقون بجميع ما في كتب الأخبار عند الشيعة أو أكثرها، مع أنّ نسبة الباطل فيها تزيد على (80%) بيقين!

ختاماً: عائشة رضي الله عنها وسائرُ أمّهات المؤمنين، ومعهنّ مارية أمّ إبراهيم طاهراتٌ، منزّهات عن مقدّمات الفاحشةِ، فضلاً عنها.

ومَن يَنطِقْ باتّهام واحدةٍ منهنّ بالزنا؛ فيقام عليه حدّ القذفِ، ويكذّب نفسه، ويتوب إلى الله تعالى، وإلّا لم تُقبل له شهادةٌ طيلَة عمره، من أيّ الطوائف كان.

ثمّ إن كان من أهل السنّة؛ فيستتاب، لأنّه ارتدّ عن الإسلام، إذ أهل السنة مجمعون على أنّ آياتِ صدر سورة النور نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها.

فقذف السنيّ إياها بعد نزول براءتها؛ تكذيبٌ للآيات الواردة في سورة النور.

وإنما لم نكفّر القاذفَ غيرَ السنيّ؛ لأنهم يعتقدون أنّ هذه الآيات نزلت في براءة أمّ إبراهيم، رضي الله عنهما، وليست في عائشة.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الثلاثاء، 30 مارس 2021

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (3):

نظراتٌ في علم الميراث!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتبَتْ إليّ تقول: «في بلاد الغرب، يخدعون المرأة بأنّ الإسلام جعل نصيبها من الميراث نصفَ نصيبِ الرجل، مع أنها هي أضعف منه، والساحات المفتوحة للكسب أمامه أضعافُ الساحات المفتوحة أمام المرأة، فبماذا نردّ عليهم، وكيف نقنع بناتنا بحقّ الإسلام وعدله»؟

أقول وبالله التوفيق:

سمعتُ من عددٍ كبيرٍ من مشايخي، ربما يزيدون على ثلاثين شيخاً، كلهم قالوا ما معناه: «لا يَحيدُ عَن هُدى الإسلامِ، إلا جاهلٌ به».

وهذه مقولةُ حقٍّ، مع الانتباهِ إلى لطف الله تعالى بعباده، وتوفيقهم إلى الإيمان والهدى.

وقبل أن أتحدّث عن بعض نظامِ الميراثِ، الذي نسيناه، مِن قلة من يسأل عن الميراث الإسلاميّ؛ أشير إلى بعض الأمور المهمة:

أوّلاً: الإسلام دين الحياة والعدل والحقّ، في عقائده وتشريعاته وأخلاقه، والسلوك الذي يدعو إليه.

ثانياً: الإسلام ليس مسؤولاً عن انحراف المسلمين بتركهم الالتزام به، وانحراف بعض المسلمين عن الإسلام؛ لا يعود بالعيب عليه، إنما يعابون هم ببعدهم عنه.

ثالثاً: الإسلام غير مطالبٍ بأحكام شرعيّة لواقع غير شرعيّ، فإذا تفلّت الشباب والشابات من عِقال العفّة، وصاروا يتواصلون بالحرام، فالإسلام ليس مطالباً بأن يخترع لهم أحكاماً تسوّغ هذا الواقع غير الإسلاميّ.

رابعاً: تغيّر عادات المجتمع؛ قد يغيّر من الأحكام الفقهية ما بني على المصلحة ومقاصد التشريع ولا يدخل على النصوص الشرعيّة، ولا على مواضع الإجماع.

الإسلام أوجبَ النفقةَ بالمعروفِ على الرجل تجاه المرأة: أمّاً وبنتاً وأختاً وزوجةً وعمّة وخالةً وجدّةً وحفيدةً، متى كنّ بحاجةٍ إلى النفقة، وجوباً دينيّاً وقضائيّاً.

فإذا تركت الحكوماتُ أحكامَ الشرع هذه؛ فتكون الحكومات هي الظالمةَ للمرأة، وليس الإسلام!

خامساً: إذا كان الرجل محدودَ الدخلِ، وزوجته غنيّةً موسرةً؛ فالرجل ملزمٌ شرعاً بالإنفاق عليها على قدر حاله الماليّ، وهي غير ملزَمةٍ بالإنفاق عليه.

والذي يقرأ نظام الميراثِ قراءةً عجلى في ساعتين؛ يُصيبُه الذهولُ من عظمة هذا النظام ودقّته.

ولو أراد أن يتعرّف إلى الحكم الربانيّة الكامنة في هذا التنوّع الكبير في موادّ هذا النظام؛ فإنه سيستدلّ به على وجود الله تعالى وعظمته، وعلى صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في نبوته ورسالته، إذ لا يمكن لعربيّ يعيش في الجزيرة العربية، ولا لأعجميٍّ يعيش في طهران أو استانبول أن يهتديَ إلى مثل هذا النظام البديع!

وفي مقالٍ يسيرٍ كهذا؛ لا يمكن أن أحيط بنظام الميراث في الشريعة الإسلاميّة.

إنما سأكتفي بعرضِ بعض حالاتِ نظام الميراث التي ترث فيها المرأةُ مثلَ ما يرث الرجلُ.

وحالاتٍ ترث فيه المرأة أكثر من الرجلِ.

وحالاتٍ ترث فيها المرأةُ، ولا يرث فيه الرجلُ أصلاً!

مع أنّ الرجلَ مطالبٌ بأن ينفق عليها، حتى لو كانت غنيةً، كما تقدّم!

من المعلوم لدى قارئي نظام الميراث في الشريعة الإسلامية؛ أنّ الوارثين في الإسلام؛ هم الأصول والفروع، والأزواج، والعصبات، وذوي الأرحام في حالاتٍ، وليس الأولاد والبنات والزوجة فحسب، حتى يعمّ النفعُ أكبرَ شريحةٍ من الأقارب، إذ من منهاج الإسلام انتشار الثروة وعدم تكديسها في أيدي حفنةٍ من الناس (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر].

أولاً: حالاتٌ ترثُ المرأة فيها مثلَ الرجل تماماً!

(1) إذا ترك المتوفى بنتاً وأباً، فللبنتُ وحدها نصف الميراث، لقوله تبارك وتعالى:

(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ.

وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ فَلَهَا النِّصْفُ).

ويأخذ الأب باقي التركة تعصيباً، فههنا قد تساويا.

(2) إذا ترك المتوفى جدّاً وبنت ابن.

فللبنت النصف لأنها تحلّ محلّ البنت عند فقدها، لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ فَلَهَا النِّصْفُ) وللجدّ الباقي تعصيباً، فتساويا.

(3) إذا ترك المتوفى أباً وأمّاً وابناً.

كلّ واحدٍ من الأبوين يأخذ سدس التركة، فتساويا، والباقي للولد تعصيباً.

(4) ومثل هذا الحكم، لو ترك المتوفى ابناً أو ابن ابن، وجدّاً وجدةً.

(5) إذا ترك المتوفى بنتاً وابنَ ابنٍ.

فللبنت نصف التركة فرضاً بنصّ القرآن الكريم، ولابن الابن النصف تعصيباً.

ثانياً: حالاتٌ ترثُ المرأة فيها أكثرَ من الرجلِ!

(1) إذا ترك الرجلُ المتوفى بنتاً وأباً وأمّاً.

فللبنت نصف التركة بنصّ القرآن، وللأم السدس، وللأب السدس، وما تبقى من التركة تعصيباً.

فالأنثى هنا (البنت وجدّتها) ورثتا ثلثي التركة، وورث الرجل الثلثَ فحسب!

(2) ومثل هذا الحكم إذا ترك الرجلُ المتوفى بنتَ ابن، وجدّاً وجدّةً، فبنت الابن تقوم مقام البنت، والجدّان يقومان مقام الأبوين.

(3) إذا توفيت المرأةُ عن بنتٍ وزوجٍ، فللزوج ربع التركة بنصّ القرآن العظيم، وللبنت نصف التركة بنصّ القرآن العظيم أيضاً، ولها بقية الميراثِ ردّاً.

(4) إذا توفي الرجل عن أمٍّ وأختٍ شقيقةٍ وأخٍ لأبٍ.

فللأمّ سدس التركة فرضاً قرآنياً.

وللأخت الشقيقةِ نصف التركة فرضاً أيضاً، لقوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ).

وللأخ لأب ما بقي تعصيباً، وهو ثلث التركة، فتكون الأختُ الشقيقة أخذت أكثر من أخيها.

وهي مع الأم (أنثى وأنثى) أخذتا ثلثي التركة!

(5) إذا توفي الرجل عن زوجةٍ وأختٍ لأبٍ، وابنِ أخ شقيقٍ.

فللزوجة الربع فرضاً، وللبنت النصف فرضاً، والباقي لابن الأخ الشقيق تعصيباً.

وبهذا تكون البنت أخذت ضعفَ ابن أخيها الرجل!

فإذا ضممنا حصص الأنثيين من الميراث إلى بعضهما، فيكون نصيبهما (9/ 12) ثلاثة أرباع التركة، وللرجل الربع فحسب!

  ثالثاً: حالاتٌ ترثُ المرأةُ فيها، ولا يرثُ الرجلُ شيئاً!

(1) إذا توفي الرجل عن بنتٍ، وأخٍ لأمٍّ.

فإنّ البنت ترثُ، وتحجب عمّها، فلا يرث شيئاً.

(2) إذا توفي الرجل عن بنتٍ، وأختٍ شقيقة، وأخٍ لأبٍ.

فللبنت نصف التركة فرضاً.

وللأخت الشقيقة مع البنت باقي التركة، لأنّ الأخت الشقيقة حجبت الأخ لأب.

وبهذه الحال؛ تكون الأنثى حازت جميع التركة، ولم يحصل الرجل على شيء!

(3) إذا توفي الرجل عن بنتٍ، وأختٍ لأبٍ، وابن أخ شقيق.

فللبنت النصف فرضاً.

وللأخت لأب مع البنت باقي التركة تعصيباً.

وليس لابن الأخ الشقيق شيءٌ.

(4) إذا توفي الرجل عن بنتِ ابنٍ، وإخوةٍ لأمٍّ، كثيرين أم قليلين.

فإنّ البنتَ تأخذ نصف التركة فرضاً، وتأخذ الباقي ردّاً؛ لأنها تحجب الإخوة لأمّ، مهما كان عددهم!

هذه حالاتٌ يسيرةُ العدد، يتبيّن لك أخي القارئ، أختي القارئة؛ أنّ هذا النظامَ نظام حكم عدلٍ، لا يمكن للبشر أن يهتدي إلى مثله، وبعد التمعّن في البحث عن حِكَمِ تشريعه؛ يوقن أنّه نظام الميراث العادل الوحيد في دنيا البشر!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 24 مارس 2021

 قطوف من الآلام (٥):

الأخ أبو أنس عثمان في ذمة الله تعالى.

تلقيت قبل قليل نبأ وفاة الأخ الفاضل الصابر المحتسب، الدكتور الطبيب أبي أنس عبدالسلام بن شفيق عثمان البانياسي.

وهو خال زوجتي أم سعيد، وإخوانها الكرام أبناء الشيخ الجليل سعيد بن محمد حوى.

وإنني بهذه المناسبة الحزينة أتقدم إلى إخواني آل عثمان الكرام، وآل حوى، وسائر أقارب الدكتور أبي أنس وأحبابه بأحر التعازي، وأصدق الدعوات.

سائلا الله تعالى أن يلهمهم بمصابهم الجلل الصبر الجميل والاحتساب.

وأسأل الله الرحمن الرحيم أن يتغمد عبده عبدالسلام بواسع رحمته، وأن يدخله دار السلام من دون سؤال ولا عتاب.

إن ربنا رحمان رحيم وهاب.

وأرجوكم إخواني الكرام الدعاء للفقيد بالرجمة والمغفرة وجزيل الثواب.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وعظم الله أجوركم.

والحمد لله على كل حال.

 مسائل فكرية (9):

القول الفصل في أمّ المؤمنين عائشة

عليها السلام!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتبت إليّ تقول: «يا شيخنا القنوات الشيعيّة تشتم بأمّ المؤمنين عائشة ليلَ نهار، وبعضها تتهمهما بالزنا، وأنت ساكتون، وبعضهم يكتفي بالشتائم؟

الذي يستمع إلى هؤلاء المجرمين، تهتزّ صورة أمّ المؤمنين أمام عينيه!

وأولادي الصغار غدوا يعتقدون بأنّ عائشة شرّيرة، وغيرُ أخلاقيّة، بمعزل عن تهمة الزنا، التي برّأها الله تعالى منها!

فماذا أقول لأولادي»...إلخ؟

أقول وبالله التوفيق:

إنّ الزنا لا يثبت على امرأةٍ، حتى يتحّقق فيها قول الله تعالى:

(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) [النور].

فأين هم الشهود الأربعةُ الذين شاهدوا أمَّ المؤمنين في حالةِ تلبُّسٍ تامٍّ في تلك العملية المزعومة؟

فإذا لم يوجد رُبعُ شاهدٍ، فضلاً عن أربعةِ شهداء؛ فأولئك القَذَفةُ المفترون يستحقون العقوبات الآتية:

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) [النور].  

(1) جلدُ ثمانين جلدة!

(2) عدم قَبول شهادته، ما دام متبطّناً هذا الضلال المبين.

(3) اتّصافه بالكذب مدى الحياة.

(4) خروجه من دائرة المؤمنين الأتقياء، إلى درجة الفاسقين، بنصّ القرآن العظيم!

والله تعالى يقول في الفاسقين:

(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) [التوبة].

(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) [الصفّ].

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) [التوبة].

ونحن نقول لهؤلاء السفلة الأنجاس: هنيئاً لكم بما قدّمتم لأنفسكم، وهنيئاً لكم بجعلكم آيات الله هزوا!

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) [النور].

(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) [النور].

أمّا الأحاديثُ التي تروى عن أمّ المؤمنين عائشة، فأكثرها لا يصحّ على مذاهب نقّاد الحديث!

وما صحّ إسناده منها، فأكثره مرويٌّ بالمعنى الذي فهمه الراوي، وليست ألفاظ الأحاديث التي بين أيدينا؛ هي الألفاظ التي نطقت بها أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

وعلى افتراض صحّة جميعها أسانيدَ ومتوناً، لكن ليس في شيءٍ منها ما يشير إلى قيامِ أمّ المؤمنين بشيءٍ من مقدّمات الفاحشة، فضلاً عن الفاحشة ذاتها.

وأمّ المؤمنين، وأمهات المؤمنين، ونساء الصحابة رضوان الله تعالى عليهنّ؛ هو نساءٌ من جملة النساء، قد يصدر عنهنّ اللغط والثرثرة وآثار الغيرة، فما هنّ بمعصوماتٍ، ولا هنّ بلغنَ درجة الكمال البشريّ (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) [التحريم].

ولا يجوز الخلطُ بين تصرّفات المرأةِ بما هو دونَ ما يليق بأمثالها، وبين ترتيبِ ظنونٍ وأوهامٍ شيطانيّة خبيثة على خيالاتٍ مريضة!

كما لا يجوز الحكم على طبيعة المجتمع في ذلك العصر الذي عاش أكثر أهله بعض أعمارهم في الجاهلية، وبين مجتمع مرّت عليه قرون من شيوع عادات الحشمة والفضيلة وسموّ الأخلاق.

أخرج البخاريّ (147) ومسلم (2170) من حديث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت:

(إنّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ:

(أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ)!

هل يحتمل رجلٌ في عصرنا مثلَ تصرّف عمر الفظِّ هذا؟

ثمّ إنّ ما حدثَ من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم كان قبل (1400) بمعنى أنّنا لو أعرضنا عنه تماماً؛ فإنّه لن يؤثر على عقيدتنا، ولا على شريعتنا، ولا على أخلاقنا.

بلى علينا أن لا نكذب على أجيالنا، فنزيّن لهم ذلك الواقع على غير حقيقته أيضاً!

علينا أن ننظر لأنفسنا وأبنائنا وأوطاننا، فالأمة على وشك الانهيار والدمار.

ولَوْكُ أعراض أمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين؛ لن ينفع بغير مزيدِ سخط الله علينا، وخذلاننا، وسقوطنا من عين الله تعالى!

أخرج البخاري وغيره من حديث مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ:

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً!

قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ «البخاري»: يُقَالُ: حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟

أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

فكفّوا ألسنتكم عن أمّهات المؤمنين، أيتها الحثالةُ الحقيرة الخسيسة .

عليكم لعنة الله وملائكته والناس أجمعين!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الثلاثاء، 23 مارس 2021

مسائل فكرية (8):

الإسْلامُ ليسَ هُوَ الحلَّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كان بعض الإخوةِ الأحباب يغضب مني عندما أقول: «إنّ مجتمعاتنا العربيةَ المُعاصرةَ لا ينطبق عليها وصف «مجتمعات إسلامية» إلا انتماءً قبيليّاً صوريّاً، وإنّ غير الملتزمين بالدين؛ هم الأكثرية الساحقة في المجتمعات العربية.

وإنّ كثرةً كاثرةً من غير الملتزمين؛ لا يرون للدين موضعاً في حيواتهم، ومنهم ملاحدة ووجوديون كثيرون!

قبل قليل استمعت وشاهدت مقطعَ «فيديو» يحمل حواراً بين مؤلّف كتابِ «ليس الإسلام هو الحلّ» وكتاب «الكُفر المباح» وبين مذيع محاورٍ، لا يقلّ صفاقةً وحماقةً عن مؤلّف هذين الكتابين!

ولست معنياً في منشوري هذا؛ أن أروّج لهذه الكتب الإلحادية الوسخة، ولا أنْ أقوّم شخصيّات الذين يرتاحون لمثل هذه الطروحات المارقة!

إنما منشوري يُعنى بسؤالٍ أوجّهه إلى إخواني من علماءِ المسلمين، من شتى فرق الإسلام:

أيّ إسلامٍ هو الحلُّ لبعدِ المسلمين عن ربّهم تبارك وتعالى، وما يتبع ذلك من عذاباتِ المسلمين وفقرهم وذلّهم وتناحرهم، وتكفير بعضهم بعضاً؟

ربما كان جوابَ جميع علماء أهل السنة؛ أنّ الإسلام الذي هو الحلّ؛ هو كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

وربما كان جوابَ جميع علماء الشيعة؛ أنّ الإسلام الذي هو الحلّ؛ هو كتاب الله تعالى وهدي عترة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وأنا شخصيّاً أسلّم تسليماً جازماً بأنّ الحلّ في إسلام الكتاب والسنّة!

لكنْ ما مفهوم السنّة التي تصلح أن تكون ديناً؟ وبأيّ فهم نقتدي؟

أهو بفهم السلف الصالح، أم بفهم العِترة؟

من هم السلف الصالح، ولماذا يكون فهمهم حجةً على فهم المسلم المعاصر؟

من هم العترة، ولماذا يكون فهمهم منذ (1200) سنة حجةً على فهم المسلم المعاصر؟

إذا كان فهم العترة قبل عام (1 250 هـ) واجباً شرعيّاً، فيجب أن يكون لدينا فهوم هائلة الكثرة عن الأئمة عليّ بن أبي طالب، والحسن والحسين، وعليّ السجّاد، وحتى الحسن العسكريّ بن عليّ الهادي، ثمّ ولده القائم بشؤون الكون والزمان!

بينما ليس بين أيدي الشيعة الإمامية، سوى فهومٍ واجتهاداتٍ نادرةٍ، صحيحةِ الصُدورِ عن مثل الحسن والحسين ومحمّد الجواد، والحسن العسكريّ!

أمّا عن الإمام المفترض الحجة القائم بشؤون الكون والزمان؛ فهو متخلٍّ عن وظائفه التشريعية منذ (1200) سنة، هذا على افتراضِ وجوده أصلاً!

وإذا كان إسلامُ الكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح؛ هو الإسلامَ الحلَّ؛ فمن السلف الصالح من فَهم بأنّ الله تعالى على صورة إنسانٍ تامِّ الخلقة «كلّ ما كان كمالاً بالنسبة للإنسان؛ فهو كما لله تعالى من باب أولى».

هذه الطائفة تثبت لله تعالى (229) صفةً من صفات الكمال، كما زعموا!

منها:

الإتيان والمجيء.

واستطابة الروائح.

والاستهزاء بالكافرين.

والاستواء على العرش.

والأصابع.

والبشبشة.

والتدلّي.

والجهة.

والحَقْو «الخصر».

وصولاً إلى:

الهبوط إلى السماء.

والهرولة.

واليدان.

واليسار واليمين.

ومما تثبته هذه الطائفة أيضاً؛ قعود الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع الله تعالى على العرش يوم القيامة.

ومَن لا يؤمن بما تؤمن به هذه الطائفة؛ فهو جهميّ ضالٌّ، أو كافر، وهو حلال الدم عند بعضهم!

وهؤلاء أنفسهم عند غيرهم من أهل السنّة مجسمة ضلّال أيضاً، وبعضهم يكفرهم!

نقل أبو بكر الخلّال في كتابه «السنّة» بأسانيده الموافقة على عقيدة «القعود على العرش»

عن عشراتٍ من العلماء أنّ منكرَ هذه العقيدة القبيحة؛ جهميّ!

منهم أحمد ابن حنبل، وأبو داود السجستانيّ!

ونقل عن أحمد بن أصرم المزنيّ (247) و مُحَمَّدَ بنَ إِسْماعِيلَ السُّلَمِيِّ (250) وهَارُونَ بنِ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيِّ (273) وإِسْماعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ (274) و عَلِيِّ بنِ سَهْلٍ (304) أنّ مُنْكِرَ هذه العقيدةِ الوثنية كافر، أو زنديق؛ يُقتل!

قال الخلّال (304): قالَ سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبْزَى: قُلْتُ لِأَبِي:

لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ، ما كُنْتَ صَانِعاً بِهِ؟ قالَ: أَقْتُلُهُ!

قُلْتُ: فَعُمَرَ؟ قالَ:  أَقْتُلُهُ»!

قال سعيد: فَهِيَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَدَّ فَضَائِلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»؟

وهل نفهم القرآن العظيم بمثل فهم أبي هريرة مثلاً، لقوله تعالى:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) [الأحزاب].

فهم كثير من المفسرين أنّ بعضَ بني إسرائيل اتّهموا موسى بقتل أخيه هارون عليهما السلام، فأمر الله تعالى بني إسرائيل بتوجيه، عرفوا من خلاله براءةَ موسى مما افتروه عليه!

لكنّ لأبي هريرة فهماً عجيباً، نسبه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم!

فقد أخرج البخاري (3404) ومسلم (4373) من حديث أبي هريرة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ!

فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: «فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ:

إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ، وَإِمَّا آفَةٌ»!

وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَ موسَى مِمَّا قَالُوا!

فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ!

فَلَمَّا فَرَغَ؛ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ!

فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ!

حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا، أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ!

فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْباً بِعَصَاهُ!

فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا!

فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).

سبحان الله العظيم!

أيّ مشكلةٍ في نبوة موسى عليه السلام، إذا كان بين رجليه بَرَصٌ، أو أُدْرَةٌ، أو آفَةٌ؟

وهل كونُ خصيتيه سليمتين كأحسن ما تكون الخصى؛ هو الذي جعله عند الله وجيها؟

وهل كان موسى أحمق حقّاً، حتى يخرج عرياناً يجري وراء ثوبٍ حمله الحجر المزعوم؟

أما كان يسعه أن ينادي على أحد مخلصيه ليأتيه بثوبه، أو بثوبٍ غيره؟

وهل حقّاً عاقب موسى الحجر، فضربه بعصاه، حتى أثّر فيه ندوباً؟

إنّ هذا الحديث يذكّرني بحديث أوس بن أوس الثقفيّ مرفوعاً (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)

ما وجه اهتمام بعض سلفنا الصالح بالأعضاء التناسلية والجماع، إلى حدٍّ يجعلون صحة الأعضاء التناسلية لموسى عليه السلام وجاهةً عند الله، ويجعلون لمن يجامع زوجته ليلةَ الجمعة لكلّ مواقعةٍ أجرُ (100) سنة (صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا) في الحدّ الأدنى، وينسبون ذلك إلى رسول الإسلام؟

سبحانك هذا بهتان عظيم!

ختاماً: أرجو من إخواننا أهل العلم أن يقولوا لنا نحن المسلمين، قبلَ الملحدين وغير الملتزمين:

أيّ إسلاماتِ الأمة هو الحلّ؟

لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ. 

 مسائل حديثيّة (11):

فَضْلُ الاغتسال يوم الجمعة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتب إليّ أحد الإخوة الأفاضل يقول:

«قال صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ: (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ، وَأَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ؛ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا).

معنا أخٌ يقول: هذه مبالغاتٌ لا أصدقها وإن صحّ الحديث، فما قولكم»؟

أقول وبالله التوفيق:

الحديث الذي أوردتموه في فضل اغتسال يوم الجمعةِ؛ أخرجه كثيرٌ من المصنّفين، منهم أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (6660) والدارميّ في سننه (1547) وابن ماجه في سننه (1087) وأبو داود في سننه (345) والنسائيّ في المجتبى (1381) وصححه ابن خزيمةَ في صحيحه (1758) وابن حبان في صحيحه (2781) والحاكم في المستدرك (1042) وأخرجه الترمذيّ في جامعه (496) وقال:

قَالَ مَحْمُودُ بن غيلان: قَالَ وَكِيعٌ: .اغْتَسَلَ هُوَ وَغَسَّلَ امْرَأَتَهُ».

وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ) يَعْنِي: غَسَلَ رَأْسَهُ وَاغْتَسَلَ.

قَالَ الترمذيّ: حَدِيثُ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ؛ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ راويه عن أوسٍ، اسْمُهُ شَرَاحِيلُ بْنُ آدَةَ، وَأَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْقَصَّابُ الْكُوفِيُّ.

وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أَيُّوبَ.

وقد رمز المزيّ في تحفة الأشراف (2: 3) وابن حجر في إتحاف المهرة (1: 835) إلى مظانّ تخريجاتِ أحاديث أوسٍ القليلة، وسيأتي!

قال الفقير عداب:

(1) مدار حديث الباب على أبي الأشعث شراحيل بن آدةَ الصنعانيّ، رواه عنه:

حسّان بن عطيّة، عند أحمد (16962، 16963) وابن ماجه (1087) وأبي داود (345).

راشد بن داود الصنعاني، عند أحمد (16176).

عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عند أحمد (16172، 16175، 16961) وابن ماجه (1636) والنسائي (1384) والحاكم في المستدرك (1040) .

عثمان بن خالد الشامي، عند أحمد (6954).

يحيى بن الحارث الذِماريّ الشاميّ، عند أحمد (16178) والدارمي (1547) والترمذيّ (496) والنسائيّ (1381، 1398).

ورواه محمد بن سعيد الأسدي الدمشقي المصلوب بالزندقة عن أوس بن أوس به مرفوعاً، عند أحمد (15574) وهذه روايةٌ باطلة لا ترفع المدار.

(2) اختلاف الرواة عن المدار:

الأكثرون من الرواة، روَوا هذا الحديث عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

لكن رواه الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الذِّمَارِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ قَالَ: (مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب) الحديث.

أخرجه الدارقطنيّ في العلل (1: 246) وقال:

فَقَالَ: هكذا يَرْوِيهِ الحسن بن ذكوان.

وَخَالَفَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، فَرَوُوهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ.

لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ».

قال عداب: هو الصواب؛ لأنّ الحسنَ بنَ ذكوان صدوق يخطئ، كما قال ابن حجر في التقريب (1240) وهو هنا خالف جماعةُ من الثقات الذين رووه عن يحيى بن الحارث، وعن حسان بن عطية، وغيرهما ممن ذكرنا في تعيين المدار.

وأشار المزيّ في تحفة الأشراف (2: 3): إلى رواية عبيدالله بن تمّام عن الحسن بن ذكوان، وعدّها من الزوائد.

ورواه عُثْمانُ بن خالدٍ الشَّامِيِّ عن أبي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيَّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ، عند أحمد.

قال الحاكم في المستدرك (1043): عثمان مجهول، فالحديث ضعيف به.

وقال البيهقي في السنن الكبير (5866، 5932): «هَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعةٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُثْمَانَ الشَّامِيّ، وَالْوَهْمُ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ مِنْ عُثْمَانَ الشَّامِيِّ هَذَا».

وأشار المزيّ في تحفته (2: 3) إلى حديث أوس بن أوس عن عبدالله بن عمرو، وقال: «هو» في رواية ابن الأحمر، ولم يذكره أبو القاسم بن عساكر.

كما خالف أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِالْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ في روايته عن  حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ ثلاثةً من الرواة في متن الحديث.

فقد أخرج الحاكم في المستدرك (1040) والبيهقيّ في فضائل الأوقات (269) من حديث أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِالْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ عن حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ: (مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ، وَغَدَا وَابْتَكَرَ، وَدَنَا، وَأَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا).

بينما أخرجه ابن خزيمة من حديث مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ الضُّرَيْسِ وَعَبْدَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، ثلاثتهم عن حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ،قال: (مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ، وَغَدَا وَابْتَكَرَ، فَدَنَا وَأَنْصَتَ، وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ، كَأَجْرِ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا).

وهذا يعني أنّ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِالْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ خالفَ في روايته عن  حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ ثلاثةً من الرواة.

والحارثيّ هذا، قال فيه الدارقطنيّ: ثقة، كما في سؤالات الحاكم له (2).

وترجمه الذهبي في النبلاء (12: 508) ووصفه بالمحدث الصدوق!

وسواءٌ كان صدوقاً، أم كان ثقةً، فهو ههنا قد وهم وخالفَ ثلاثةً من أقرانه.

وحديث (زيادة ثلاثة أيام) ليس هو من حديث أوس بن أوس.

إنما هومن حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد ومسلم (1419) وابن ماجه وأبو داود والترمذيّ (498) وقال: حديث حسن صحيح!

(3) ترجمة أعمدة الإسناد:

إذ دار الحديث على أبي الأشعث شراحيلَ بن آدةَ الصنعانيّ، عن أوس بن أوسٍ الثقفيّ، فلم يبق لدينا ممن يحتاج إلى ترجمة سواه والصحابيّ أوس بن أوس!

(أ) ترجمة مَدار الحديث شراحيل:

هو شراحيلُ بن آدةَ الصنعانيّ، وقيل: شراحيلُ بن شُرَحْبيلَ بن كُليبٍ، وآدةُ جدّ أبيه.

قال ابن حجر في التقريب (2761): ثقةٌ من الثانية يعني من كبار التابعين شهد فتح دمشق (بخ م 4).

وترجمه ابن حبان في المشاهير (866) وقال: كان متقناً.

وقال ابن عساكر في ترجمته (22: 442): قال أحمد بن صالح أبو الأشعث الصنعانيّ، صنعاء دمشق، شاميٌّ تابِعيٌّ ثقةٌ» ونقل عن ابن سعدٍ أنّ وفاته في زمان معاوية.

وفي تهذيب الكمال (12: 409): قَال أَحْمَد بْن عَبد اللَّهِ العجلي: شامي، تابعي، ثقة.

ونقل مغلطاي في إكماله (6: 227) عن ابن عبد البرّ توثيقه.

وقال محمد بن سعد: توفي في زمان معاوية، يعني قبل (60 هـ).

قال الذهبيّ في النبلاء (5: 209)ُ: تُوُفِّيَ بَعْدَ المائَةِ, وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ البُخَارِيُّ، وَلاَ لأَبِي سَلاَّمٍ؛ لأَنَّهُمَا لاَ يَكَادَانِ يُصَرِّحَانِ بِاللِّقَاءِ، وَهُوَ لاَ يَقْنَعُ بِالمُعَاصَرَةِ.

وقال في تاريخ الإسلام (2: 942): «أَمَّا ابْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: تُوُفِّيَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، فَوَهِمَ! لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ رَوَى عَنْهُ: عَبْدُ الرحمن بن يزيد بْنِ جَابِرٍ، وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَّارِيُّ، وَطَبَقَتُهُمَا.

وأرّخ الذهبيّ وفاته في الكنى من تاريخه (3: 184) بين (101 - 110) بينما أرّخ وفاته في الأسماء (2: 942) بين (81 90 هـ) ورجّح الثاني.

بينما قال في تذهيب تهذيب الكمال (4: 260): وأبو الأشعث تابعي أراه أدرك خلافة الوليد بن عبد الملك، والله أعلم».

والوليد الظالم هذا وَلِيَ الخلافة سنة (86 هـ) وهلك سنة (96 هـ) كما أرّخه السيوطيّ في تاريخ الخلفاء (ص: 168، 169).

وهو موافق لصنيع البخاريّ، فقد ترجمه في تاريخه الأوسط (913) فيمن توفي بين الثمانين والتسعين.

وتعقّب مُغلطايُ الذهبيَّ فقال: «زعم بعض المصنفين من المتأخرين أنه أدرك خلافةَ الوليد بن عبد الملك، وينبغي أن يُتَثَبّتَ في هذا، حتى يُعْلَمَ قائِلُه أوّلاً، والله تعالى أعلم».

فيظهر أنّ مغلطاي لم يتنبّه إلى تأريخ البخاريّ إياه في ذاك الزمان.

قال الفقير عداب:

فأنت ترى أنّ حالَ أبي الأشعثِ تحيطها جهالاتٌ!

فهو لا يُدرى ما إذا كان من صنعاء اليمن، أم من صنعاء دمشق!

وهو لا يُدرى أم العرب هو، أم من أبناء الفرس؟

ولا يدرى أوفاته قبل (60 هـ) أم بين (80 - 90) أم بين (91 - 100) أم بعد المائة؟

ولا يخفى على المبتدئين من طلبة العلم كم يدخُل ويخرج من الرواة عن أبي الأشعثِ نتيجةَ هذا الاختلاف الكبيرِ في تاريخ وفاته!

وسيقال لك: ليس هذا مهمّاً، إنّما المهمّ تصريح الرواة عنه بالسماع منه!

وأقول كما قال ابن حجر في الفتح والتهذيب قد يكون التصريح من بعض الرواة الذين لا يرون فرقاً بين التحديث والعنعنة، فنعود إلى نقطة البداية!؟

(ب) ترجمة الصحابيّ أوس بن أوس الثقفيّ:

قال المزيّ في تهذيب الكمال (3: 387): «أوس بن أوس الثقفي، لَهُ صحبة.

نزل الشام، وسكن دمشق، ومات بها، وداره ومسجده بها فِي درب القلي.

رَوَى عَن: النَّبِيّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ، فِي فضل يوم الجمعة والاغتسال فيه.

رَوَى عَنه: عُبادةُ بنُ نُسَيٍّ (د) وعبد اللَّه بْن محيريز، وأبو أسماء الرحبي، وأبو الأشعث الصنعاني (4) .

قال عباس الدُّورِيُّ عن يَحْيَى بْن مَعِين: أوس بْن أوس، وأوس بْن أَبي أوس، واحد.

قيل: إن يَحْيَى أخطأ فِي ذَلِكَ؛ لأنّ أوسَ بنَ أَبي أَوْسٍ؛ هُوَ أوسُ بنُ حذيفة، والله أعلم.

روى له الأربعة، هَذَا الْحَدِيث الواحد» انتهى كلام المزيّ بتمامه.

يلاحظُ هنا أنّ المزيّ جعل حديثي الجمعةِ عن أوس بن أوس حديثاً واحداً، بينما جعلهما حديثين في تحفة الأشراف (2: 2) ويحملان الرقمين (1735، 1736).

نقل البغوي في الصحابة (51) عن ابن معين قوله: «أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس واحد»!

وقال فيه (50): حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا شعبةُ عن النعمان بن سالم قال: سمعت عمروَ بن أوس يُحدّث عن أوسِ بن أبي أوس: أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ (توضّأ، فاستوكفَ ثلاثاً).

ونسبه ابن قانع في معجم الصحابة (1: 26) فقال: «أَوْسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَيْسِيٍّ وَهُوَ ثَقِيفُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ».

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ: نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ: نا قَيْسٌ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِاللهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: أَقَمْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ نِصْفَ شَهْرٍ (فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ مُتَقَابِلَتَانِ).

وقال في (1: 28): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَنْبَأَ شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّهِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَاسْتَوْكَفَهُ ثَلَاثًا» يَعْنِي غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا.

وأسند حديث الباب فيه (1: 27) ثم قال:

حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّازُ: نا شُجَاعُ بْنُ أَشْرَسَ: نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّمَ بِنَحْوِهِ

فزاد البغويّ في الرواة عن أوسٍ: عَمرو بن أوس، وابن عمرو بن أوس، وعَبْدَالْمَلِكِ بنَ الْمُغِيرَةِ،

ومن المتّفق والمفترق عند أهل الحديث: أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس، وأوس بن حذيفة، جعل البخاريُّ الثلاثةَ وحداً، فقال في تاريخه الكبير (2: 15):

«أَوسُ بنُ حُذَيفة الثَّقَفيّ، والد عَمرو بْن أَوس.

ويُقال: أَوس بْن أَبي أَوس.

ويُقال: أَوس بْن أَوس، لهُ صُحبةٌ.

وروى الدوري عن ابن معين قوله: أَوْس بن أَوْس وَأَوْس بن أَبي أَوْس وَاحِدٌ» تاريخ الدوري (158).

وقال في موضع آخر منه (5334): «قلت ليحيى بن معِين: أَوْس بن أَوْس وَأَوْس بن أبي أَوْس وَاحِد؟

فَقَالَ: نعم هُوَ وَاحِدٌ، وَلَكِنّ بَعضَهم يَقُول: ابن أبي أَوْس، وبَعْضهمْ يَقُول: ابن أَوْس، وَهُوَ وَاحِد».

قال عداب: وهذا يتطلّب بحثاً واسعاً في أوهام الجمع والتفريق بين المحدّثين، يكون من أهم مقاصده دراسةُ مدى صحة رواية أولئك الرواة الكثيرين عن أوس هذا؟

وهو يعني أيضاً جهالةَ عين أوسِ بن أوسٍ، فضلاً عن حاله، على مذهب من لا يرى عدد الرواة يزيل جهالة العين!

والرجل كما يصرّح في بعض حديثه؛ صحب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم خمسةَ عشر يوماً فحسب!

بيد أنّ أهلَ السنة يقولون بعدالةِ جميع جيلِ الصحابةِ، بمن فيهم الوحدان، والمجهولون، ومجهولوا الصحبة، والأعراب، ولهذا فهم يصححون مثل هذا الحديث!

ونحن في هذه العُجالةِ لن نناقش  مسألة عدالة الصحابة، فذاك نقاشٌ عقيم!

لكنني نناقش ضبط هذا الصحابيّ «أوس بن أوس» الذي أتى بالعجائب!

إذْ جعلَ فضيلة اغتسال الرجلِ هو وزوجته من جماعٍ يومَ الجمعة خاصّة فضيلةً سامقة (له بكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إلى المسجد أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)!

فلو كان بين بيتِه والمسجدِ (100) خطوة مثلاً؛ فيكون له بهذا الاغتسالِ أجرُ (100) سنة (صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)!

فو واظب هذا الرجل على إمتاع زوجته في كلّ ليلة جمعة، والاغتسالِ بعد ذلك سنةً واحدة فحسب؛ لكان له من الأجر عبادةُ (50 × 100) = أجر (5000) سنة (صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)!

ولست أدري أكان رواة هذا الحديث النواصبُ يتندّرون عندما رووه، أم كانوا يسخرون؟

ولماذا يُعنى الله تبارك وتعالى كثيراً بمن يجامع زوجته ليلةَ الجمعة، فيعطيه هذه المثوبةَ الهائلة التي لا يمنحها لغيره من المسلمين أجمعين؟

وحديث الباب كما تقدّم ليس في الصحيحين، وبذلك يكونُ لدى الناقد فسحةٌ ليحرّك عقلَه وعقولَ المتسرّعين الذين يصححون مثل هذا الحديثِ العجيب!

ولا يخفى على طلبة العلم أنّ من أماراتِ وَضع الحديثِ، أو نكارته؛ ترتيبُ ثوابٍ جزيلٍ على عملٍ قليل!

ومن أمارات وضع الحديث، أو نكارته؛ مخالفتُه للأحاديث الصحيحة في الباب نفسه!

وفي متن هذا الحديث يتجلّى الأمران معاً: ثوابٌ جزيلٌ على عمل قليلٍ، ومخالفة متن هذا الحديث للأحاديث الصحيحة الواردة في فضل الاغتسال ليوم الجمعة عيدِ المسلمين، ولصلاة الجمعة، مجتَمَعِ المسلمين!

أخرج البخاري (881) ومسلم (1403) من حديث أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ «إلى المسجد» فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً!

وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً!

وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ!

وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً!

وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً!

فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ؛ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ).

ومعلوم أنّ الذي يقرّب لله تعالى قرباناً جملاً أو بقرةً؛ لا يحصّل ثوابَ (100) سنة (صيامها وقيامها).

وأخرج البخاري (910) من حديث عبدِالله بنِ وَدِيعَةَ الأنصاريّ عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ، أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ «إلى المسجد» فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ!

فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ، أَنْصَتَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى).

وأخرج مسلم (1418) من حديث سُهَيْل بن أبي صالحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(مَنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ «الإمام» مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).

وقد بيّن أبو داود في السنن (343) أنّ جملة (وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) إدراجٌ من كلام أبي هريرة!

ختاماً: قارن أخي القارئ الكريم بين تخريجِنا هذا الحديثَ «اللازورديّ» وتخريجِه لدى كلّ من الشيخين ناصر الألباني وشعيب الأرناؤوط، فقد صححه كلاهما.

ولا تنس التخريج العبقريَّ العميق لشيخنا الدكتور محمود سعيد ممدوح في تخريجاته على مجمع الزوائد (9: 260) إذ قال أعلى الله مقامَه: «وعليه فالحديث صحيحٌ، والاعتماد في تصحيحه على حديث أوس بن أوسٍ، لا سيما وقد صححه كلٌّ من ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم».

وشيخنا الدكتور محمود يزعم لنفسه العُمقَ والتنقير، ويتّهم مخالفيه بالسطحية والتسرّع.

والله المستعان!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.