تقويمُ الكتب الإسلامية (3):
البَسْطُ التامُّ في الرحلة لبعض بلاد الشام!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
في زيارةٍ لمعرضِ استانبول الدولي، أوّل من أمسِ
الثلاثاء، صُحبةَ أخي الشريف عيسى بن يحيى النينويّ، حفظه الله تعالى؛ شاهدنا
آلافَ العناوين، فحزنت وقلت له: لو عاش الإنسانُ عمرَ نوحٍ عليه السلام؛ ما استطاع
أن يقرأ كلَّ هذه الكتب!
ومع عِرفاني بهذا؛ فأتمنّى لو كنت أملك من المال ما
أشتري منه نسخةً من كلّ كتابٍ في هذا المعرض!
كان القصد الأوّل من زيارةِ المعرضِ؛ إحضارُ عددٍ
من كتب «الشيعة
الإماميّة» من جناح الأخ المهذّب علاء الأعلميّ، أوصيته عليها، فأحضرها إليّ من
بيروت، جزاه الله خيراً.
أكثرُ علماءِ أهلِ السنّة؛ حكموا على غيرهم
بالكفر أو الضلال أو الابتداع، ثمّ أراحوا أنفسهم من الاطّلاع على تراثِ غيرهم من
الفرق الإسلاميّة.
بينما مكتباتُ علماء غير أهل السنّة ملأى بكتب
أهل السنّة!
في إحدى زياراتي إلى شيخي السيّد محمد مهدي
الموسويّ الخرسان في النَجَفِ، استأذنت للاطّلاع على مكتبة العامرة؛ فوجدت كتبَ
أهل السنة فيها أكثر عدداً من كتب الشيعة الإماميّة، فعزمتُ من يومئذٍ أن أقتني من
كتب الإمامية والزيدية والإسماعيلية والإباضيّة ما أستطيع، حتى لا أتّخذ موقفاً تجاهَ إحدى الفرق، ناتجاً عن التقليدِ، الذي هو الجهلُ بعينه!
ثمّ قصدتُ جناحَ أخي الفاضل وتلميذي الدكتور
مهدي عبدالرزاق الجُميليّ في المعرض، واصطفيتُ منه ما قدّرتُ أنني أستطيعُ دفعَ
ثمنه من الكتب، لكنّ تلميذي العراقيَّ الكريمَ أبى أشدّ الإباءِ أن يقبضَ قيمةَ
تلك الكتبِ، فجزاه الله تعالى خيرَ الجزاء، وأخلف عليه.
ثم قصدت جناح «دار الفتح للدراسات والنشر» في
المعرض، التي يشرف عليها منذ تأسيسها أخي الفاضل الدكتور إياد الغوج، وحصلت منها
على كتاب «البسط التامّ» الذي أنا بصددِ التعريف به!
تمتاز دار الفتح عن أكثر دور النشر بأناقةِ
مطبوعاتها، وجودة ورقها وطباعتها، وفي الدار كادرٌ من المتخصّصين والمراجعين،
الذين لا يطبعون كتاباً حتى يراجعوه كلمةً كلمةً، في حدود علمي.
ودار الفتح مكتبة أردنيّة مشهورةٌ في مدينة
عمّان، يمكن التواصل مع مديرها على هذا الهاتف (0096265163564) لمن أراد أن يقتني
هذا الكتاب، أو غيره من كتب دار الفتح المختارة بعنايةٍ فائقة!
ولا يظنّن ظانٌّ أنني أقوم بدعايةٍ لهذه الدار،
مقابلَ شيءٍ مثلاً، كلّا أبداً، فلست على وفاقٍ مع إدارة هذه الدار أصلاً، منذ سنين، وسبق أن
شهّر بي بعض موظّفيها بالباطل على الانترنيت!
إضافةً إلى أنهم قبضوا مني قيمةَ هذا الكتاب
(290) ليرةً تركيّة!
كتابُ «البَسْطُ التامُّ في الرَحلةِ
لبعضِ بلاد الشام» أو «شفاءُ العليل ودواءُ الكليمِ والمرهمْ في
الرحلة لزيارة سيّدي خالدِ بن الوليدِ والعارف إبراهيمَ بن أدهم»!؟
يؤرّخ لرحلة قام بها الإمام أبو الفداءَ إسماعيلُ
بن محمّدٍ الجرّاحيُّ العجلونيُّ، ثم الدمشقيّ الشافعيّ (ت: 1162) زارَ فيها
مواقعَ دينيةً واجتماعية مهمّمة في دمشق وبعض قراها، وفي حمص وبعض قراها، وفي
حماةَ وبعض قراها، وخاصّةَ قرية الربيعة ومدينة مصياف.
ثمّ عقد فصلاً في عقائد الفِرق الباطنيّة القاطنة
ما بين الربيعة ومصياف، وما حول مصياف.
ثمّ استطرد ههنا، وعقد فصلاً تكلّم فيه على جميع
الفرق المنحرفة عن جادّة الصواب، من فرق المعتزلة، وكان عددها عشرين فرقةً!
ثمّ فرق الغلاة من الشيعة، ثمّ الخوارج، ثمّ
المرجئة، وهو فصل وجيزٌ دقيقٌ، مفيدٌ للغاية.
ثم تابع الجرّاحيُ تسجيلَ مواطن رحلته إلى مُدن
الساحل السوريِّ وجبلِ لبنان، إلى أن عاد إلى دمشق في اليوم الأربعين.
غطّت أحداثُ هذه الرحلةِ معظمَ صفحات الكتاب (188 -
595) كتبها العلّامة الجرّاحي بأسلوبٍ ماتعٍ شيّق.
فماذا صنع محقّق هذا الكتابِ الشريفُ سليمانُ بن خالدٍ
الصليعيُّ الحِركيُّ الحسينيّ الحمويّ؟
(1) ترجم للمصنّف الجراحيّ ترجمة تفصيليّة
ضافيةً مفيدةً، زوّدتني بمعلوماتٍ قيّمة عن الشيخ العجلونيّ الجرّاحيّ، لم أكن
أعلمها من قبل.
وقد استغرقت ترجمة الجراحيّ المصنّف
الرحّالة الصفحات (14 - 130) كانت مليئةً بالمعلوماتِ الدقيقةِ.
(2) درس السيّد سليمان الكتاب الرحلة هذا
دراسةً تفصيليّة في الصفحات (133 - 184) وفق المنهج العلميّ المعروف في وصف
المخطوط الوحيدِ لهذه الرحلة.
(3) أمّا النصّ المحقَّقُ؛ فقد زوّدته
السيّد المحقّق بحواشٍ وهوامشَ غزيرةٍ، لا أبالغ إذا قلتُ: إنها تبلغ ثلاثةَ أضعاف
حجم الكتاب الأصليّ!
وهذا منهج متّبعٌ - فيما يبدو - لدى
الكتّابِ الحمويّين، وربما تلقّاه السيد سليمان عن بعض مشايخِه، من تلامذته شيخنا
وشيخ مدينة حماة، الشيخ محمد الحامد، رحمه الله تعالى، إذْ كان أسلوبه في إلقاء
دروسه - والفقهيةَ منها خاصّةً - استقصائيّاً مطوّلاً موثّقاً، تماماً مثل المنهج
الذي اتّبعه المحقّق السيّد سليمان في التعليق على هذا الكتاب!
قال الشيخ العجلونيّ الرحّالة المصنّف في
كتابه هذا (ص: 405): «وفي رُجوعنا إلى منزلنا -
من النزهة في بستانٍ على أطرافِ حيّ البارودية - زُرنا الشيخ محمّد العصافيريّ، في
قُبّةٍ لها بابٌ صغيرٌ، لا يمكن دخولُ أحدٍ منه، بين البساتين التي بطرف حيّ
الباروديّة، وبيتنا في منزلنا» انتهى كلام المصنّف.
العجلوني يتكلّم عن زيارته ضريحَ الشيخ محمد
العصافيريّ، الذي يُزارُ من خارجَ القبّةِ، ولا يُدخَل إلى الضريح.
لكنْ من هو هذا العصافيريّ؟
هنا يظهر لك - أخي القارئ - فائدةُ صنيع
المحقّق، الذي كتب (29) سطراً من الخطّ الصغير، بنط (13) تعادل عشرين ضعفاً ممّا
كتبه مصنّف الرحلة!
عرّفنا بهذا الشيخ العصافيريّ، فقال: «هو الشيخ
المجاهد الشهيدُ علم الدين محمد بن عليّ الحراكيّ الحمويّ (ت: 803 هـ) رحمه الله
تعالى، ورضي عنه، وهو جدّ المحقّق السيّد سليمان.
وعرّف بالمقامِ، وبالحيّ الذي فيه المقام،
وزوّدنا بصورةٍ لضريح الشيخ العصافيريّ.
وأتانا بمعلوماتٍ موثّقة دقيقةٍ، كنت أجهل
أكثرها، وأنا ابن حماة، وكنت أزور تلك المنطقة خمسَ مرّاتٍ في الأسبوع في الحدّ
الأدنى، ولا أعرف شيئاً منها !؟
ولا يظنّن ظانٌّ أنّ هذا الإطنابَ خاصٌّ
بتعريفه بقبّة جدّه، من باب الاعتزاز به، أو الوفاء له، كلّا أبداً!
فعندما قال مصنّف الرحلةِ (ص: 373): «ولا زلنا
سائرين، حتى لاقانا كثيرٌ من أهل حماةَ حرسهم الإله، منهم صديقنا الفاضل الشيخ
فَرَج، والسيّد مصطفى، والسيّد محمّد ابن عديّ وأولاده، وأنزلنا عندَ قُبّة نقيرين،
وفيها قبر الشيخ مِهرانَ، ذي الكراماتِ.
ذكروا من كراماته أنّهم أرادوا أخذَ أحجارٍ
من قبّته، فيبس الرجل، حالَ كونه يريد قلع حجرٍ، وماتَ بالحين».
هذه الكلماتُ المعدودة؛ علّق عليها المحقّق
السيّد سليمان بـ (43) سطراً، عرّفنا فيها بنقيرين، وتُربة نقيرين، وبالشيخ فَرَج
الذي هو جدّ الأسرة المعروفة في حماة بآل الفَرَجي، وعرّف بالشيخ مصطفى بن إبراهيم
الأويسيّ، وصحّح أنه ليس علوانيّاً عصبةً، إنما هو مغوليّ الأصل، وهو من أسباط
الشيخ علوان الحدّادي الهيتيّ ثم الحمويّ (ت: 936 هـ) وزوّدني بمعلوماتٍ عن تربة
جدّي الشيخ مهران، لا أعرفها، ولا يعرفها من أهلي أحدٌ، باستثناء مسألة الكراماتِ،
فهي مشهورةٌ عندنا، حتى خروجي من حماة، عام (1975م).
وكان وكثيرٌ من سائقي الشاحناتِ؛ لا يجرؤون على
اجتياز تلك المنطقةِ إلّا متوضّئين تائبين، حتى لا تنقلبَ فيهم سيّاراتُهم، وقد
يقدّمون قرباناً يهدونه إلى فقراء الحيّ هناك (!!!؟؟).
ولديّ في هذا الجانب قصصٌ كثيرة، لا أذكرها؛
لأنها من أغرب ما يمكن سماعُه!
ونحن في عصر الجفافِ الروحيّ، الذي غلب عليه
الوهّابيّون الجفاة، والعقلانيون الذين يكادون ينكرون ما سوى المادّة!
أذكر بالمناسبةِ ممّا يعده بعضهم كرامةً، قصّةً
جرت معي شخصيّاً، ومن عادتي الاقتصارُ على ما أشاهده أنا من كراماتٍ؛ ليقيني بأنّ
كثيراً من دعاوي الكرامات هي خيالات!
في أيّام ثورة حماة ضدّ الفرنسيين؛ ضربت
إحدى الطائرات قبّةَ جدّنا الشيخ محمد مهران هذا، فانهدم قسم من أعلى وسط القبّة،
وصارت الطيور والعصافير تبني أعشاشها بذلك المكان العالي الآمن من القبّة.
ذات يوم كنّا نلعبُ داخل القبّة وخارجها،
أنا وابن عمي الشهيد محمد سعيد بن خالد، رحمهما الله تعالى، ومعنا جمع من حارة
الشيخ مهران.
وفي أثناء الحديث قالوا: انظروا كم من
العصافير في أعلى القبّة؟
فنظرنا وكان فيها عشرات العصافير تزقزق
فعلاً، فقال لهم ابن عمي محمد سعيد: لماذا لا تصعدوا إلى أعلى القبّة، من الخارج،
وتصيدوا العصافير بقرطل «سلّة» مثلاً!
قالوا: لا نتجرّا على ذلك؟
قلنا لهم: لماذا لا تتجرّؤون؟
قالوا: هذه العصافير في حمى الشيخ مهران، لو
اعتدينا عليها؛ يعاقبنا، وقد نموت!
كنّا صغاراً، وسكنانا بعيدةٌ عن قبّة الشيخ
مهران، ولا ندري عن هذه الاعتقادات شيئاً.
فتحمّست أنا، وساعدني ابن عميّ محمد سعيد،
حتى علوت إلى أعلى القبّة من الخارج.
وحين أدخلت رأسي إلى القبّة من الداخل؛ سقطتُ
من أعلى القبّة، ونزل رأسي على شاهدةِ قبر الشيخ مهران!
أغمي عليّ برهةً من الزمان - لا أدري كم
كانت - فظنّوا أنني توفيت، ثمّ صحوت نشطاً، كأنني لم أقع!
عندما استيقظت؛ رأيت أكثر من ثلاثين رجلاً
وامرأةً، وكثيرٌ من النساء يبكين!
فلما شاهدنني صحوتُ؛ رُحن يزغردن!
وسلّم عليّ الرجال، وسألوني: كيف تجرّأتُ،
وصعدت فوق قبّة الشيخ مهران؟
في هذه اللحظة سمعتُ رجلاً قمحيّ اللون
معتدلَ القامةِ، رقيق الجسم، جهوريّ الصوت، يقول لهم: والله لولا أنّه جدّه؛ لما
قام من موتته!
في أثناء غيبوبتي؛ هُرع ابن عميّ محمد سعيد
إلى المزرعة، فجاء والدي على حصانه يجاري به، حتى وقف عليّ، فلمّا رآني؛ صفعني على
وجهي صفعةً قويّة جدّاً، وقعت في منها إلى الأرض، ووبّخني وشتمني!
جاء ذاك الرجل، وقال لوالدي: «لا يا أبو
عداب، ما لك حقّ، الولد قام من شقّة موت» فقال له
والدي: «أهلين
ابن عمي» وتصافحا.
ثم عرفت بعد ذلك أنه ابن عمّنا ربيع بن
محمّد الصديق المَرعي، ومَرعي هو شقيقُ جدّي محمد الحمش بن الشيخ خالد الهبطة
الملقّب بالعتّال.
هكذا كان يعتقد كثيرٌ الناس في المنطقةِ،
تجاه جدّنا الشيخ محمّد مهران، رضي الله عنه.
عودٌ على بَدء:
الكتاب ماتع ماتع، سهرت عليه الليلةَ
الماضية، وأفدت منه في ليلة واحدةٍ أكثر من (200) فائدةٍ، لم أكن أعرفها.
فأنصح إخواني الذين يعنيهم شيءٌ من تاريخ
سوريا في ذلك الوقت، ويعنيهم أن يتعرّفوا إلى معالم كثيرة، ومعلوماتٍ موثّقة
غريبة؛ بقراءة هذا الكتاب مرّتين:
- المرة الأولى: يقرؤون متن الكتاب الذي
صنّفه الإمام أبو الفداء الجرّاحي منفرداً.
- والمرّة الثانية: يقرؤونه مع هوامشه
وحواشيه وتعليقاته الغزيرة الموثّقة.
ولن يندموا أبداً، وخاصّة السوريّين منهم.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق