الخميس، 28 نوفمبر 2024

 التصوّفُ العليمُ:

الشيخُ محمّدٌ الكسنزان كما عَرَفْتُه (4)!؟

بين اللقاءين الأوّلِ والثاني.

أوّلاً: عقب انتهاءِ أيّام المؤتمر؛ أخبرني وزيرُ الأوقافِ بأنّ الرئيسَ صدّام حسين يريدني أن أبقى عدّةَ أيّام أخرى، فبقيتُ في فندق الرشيد وحدي يوماً آخر.

في اليوم التالي مباشرةً، أعادوا زجاجاتِ الخمرِ التي كنت طالبتُهم برفعها في أوّل أيّام المؤتمر، وإبعاد الفتياتِ المتهتّكات عن الخدمة، وغدا فندق الرشيد نزلاً من فنادق أوربّا وأمريكا، كما أتصوّر!

سألتُ أحدَ العاملين في الفندق عن غرفة المديرِ المسؤولِ، فأرشدني إليها!

طرقت الباب ودخلتُ، فرحّب بي الرجلُ أجمل ترحيب، وسألني عن حاجتي؟

فأخبرته بشأن الخمرةِ والسافراتِ، فتبسّم وقال: نحن فندق عالمي عصري، ولسنا تكيةً صوفيّة، لدينا في الفندق حفلات أعراس ورقص وخمور، كلّ ليلةٍ حتى الصباح!

ثانياً: ودّعته وانصرفت، وحملت «شنطتي» الصغيرة، ووقفتُ على باب الفندق، أنتظر سيارةَ أجرةٍ، حتى إذا جاءت؛ قُلتُ للسائق: هل تَعرف فندقاً نظيفاً، ليس فيه خمور ولا حفلاتُ رقصٍ وغناءٍ وأعراسٍ؟

أطرق قليلاً، ثم قال: للأسف الفنادق الراقية كلها هكذا، أعرف فندقاً نظيفاً، ليس فيه شيءٌ من هذا، لكنه متواضع، وبعيد من هنا نسبيّاً!

قلت له: نظيفٌ ومتواضع؛ أحبُّ إليّ من الفنادق الفخمة، أمّا البعد فلا يهمّ!

أوصلني الرجلُ إلى فندق «الساحة» قربَ منطقة المنصورِ، وبقي منتظراً معي حتى سجّلوا معلوماتي الشخصيّة، واستنسخوا صورةً من جواز سفري، وأوصلوا أغراضي إلى الغرفة التي اختاروها لي.

أبى السائق العراقيُّ الشهمُ، أن يأخذ أجرةَ توصيلي وانتظاره معي، حتى أقمت في غرفتي!

طال الحوارُ بيننا، حتى اضطرني لأن أقسم عليه بالله تعالى، فأخذ أجرته بحياءٍ شديد!

توضّأت وصلّيت ركعتين، وجلست أفكّر كيف سأخبر وزير الأوقاف بمكاني، فغفوتُ وغلبني النوم!

ثالثاً: طُرق باب غرفتي، فأفقتُ، وإذا بموظّف الاستقبال يقول: السيّد وزير الأوقاف ينتظرك في صالةِ الاستقبال.

توضّأتُ، ثم نزلتُ إليه، فعاتبني على ترك فندق الرشيد، من دون إخباره!

جئت لأشرح له القصّة، فقال لي: أخبروني بما حدث بالتفصيلِ، ووبّخت مدير الإدارة التي لقيتَه، هاتِ أغراضَك لنعود إلى فندق الرشيد، فقد هيّاتُ لك كلّ شيء كما تريد!

قلت له: هذا الفندقُ أحبّ إليّ من فندق الرشيد الفاسقِ الفاجرِ، دعني هنا أرجوك!

قال: أنا معك، لكن هذا توجيه السيّد الرئيس!

قلت له: ولماذا لا يَمنع الرئيسُ الفسوقَ والفجورَ في تلك الفنادق الضخمة، بوجودي وبعد مغادرتي، أنتم قلتم لنا: «المؤتمر الإسلامي الشعبيّ» فأيّ إسلام هذا يا سعادة الوزير؟!

قال: يا شيخ عداب: واللهِ ما عُطّل فندقُ الرشيد منذ أُسّسَ إلى هذا اليوم، إلّا من أجل الشيخ عداب، السيّد الرئيس يكرمك، فهل ترفضُ إكرامَه ورغبته؟

عدتُ إلى فندق الرشيد، وأقمت فيه ثلاثةَ أسابيع، ليس فيه حفلاتُ أعراس، ولا رقص ولا غناء ولا سافرات، ولا خمر، ثم أُذنِ لي بالسفر! 

قبلَ سفري أخبرني الوزير بأنّ السيّد الرئيس يطلبُ أن تقيم عندنا في العراق، وستجدنا نعم الأهل والعشيرة لك، ولك منا كلّ التقدير والاحترام.

 قلت للوزير: أوافق على الإقامةِ في العراق، إنما من دون أيّ امتيازات: «لا راتب، ولا سيارة، ولا سائق، ولا منزل، ولا حراسة، أنا مستغن تماماً» إذا وافقتم؛ رجعتُ إليكم، وإلّا بقيتُ في عمّان الأردنّ!

قال: الجواب ليس عندي، سأردّ عليك غداً.

ردّ عليّ بموافقة السيّد الرئيس على جميع شروطي، بما في ذلك الإذنُ بالدعوة إلى الله تعالى، والخَطابةِ في جميع مساجد العراق، من دون إذنٍ مسبق!

رابعاً: رجعتُ إلى العراقِ في (7/ 3/ 1992) ونزلت ضيفاً على الشيخ حاتم الدليميّ «الرفاعيّ الطريق» في تكيته، في  حيّ «الوشّاش» وهي تكية صغيرة مباركة.

اتّصلت في اليوم التالي بوزير الأوقاف، وقلت له: أنا أزورك في الوزارة، وذهبت إليه.

في أثناء الحوار سألني أين نزلت، ولماذا لم أخبره بقدومي، فقلت له: نزلتُ حيث أرتاح، فلا تَشغل بالك بهذا الأمر. 

رتّبنا معاً مسألةَ التدريس في جامعةِ «صدّام للعلوم الإسلاميّة» وانتهى كلّ شيءٍ بيني وبين الوزير، إنّما كان يتّصل بي أثناء الدوام في الجامعة أحياناً، وأزوره في كلّ شهرٍ مرّةً، يتفقّد أحوالي، على حدّ قولِه، رحمه الله تعالى.

ظللتُ ضيفاً على حضرةِ الشيخ حاتم الرفاعي في تكيتِه، حتى انتهى العمّال من ترميم بيتي الذي استأجرتُه في حيّ الداوودي، خلف مطعم الساعة، ولم يعدْ بوسعي التواصلُ مع الشيخ «محمّد الكسنزان» لما أعلمه من أدبيّات شيوخِ التصوّف، أنهم يرفضون بأن يكون للمريدِ أكثرُ من شيخٍ، حتى لا يتشتّت حال المريد، كما يقولون، وربما كان كلامهم صحيحاً؛ لأنّ (99%) من دراويشهم عوامٌّ بالمصطلحِ العلميّ الشرعيّ!

بينما أنا الفقير كنتُ لا أجيزُ طالباً بعلمٍ من العلومِ؛ حتى يخالفَني في عددٍ من المخالفاتِ العلميّةِ فيه، وكنتُ وما زلتُ مقتنعاً بصوابِ مذهبي في هذا الجانب!

خامساً: في بداية عام (1995) توعّدني جدّي الوليُّ بعقوبةٍ شديدةٍ؛ لأنني لم أنفّذ ما طلبه منّي باسم «أهل الله تعالى» من كتمانِ ما يكرمني الله به من كراماتٍ، وما يطلعونني عليه من من آياتٍ في الآفاق، ثمّ هجرني هجراناً تامّاً، حتى غدوت عصبيّاً عنيفاً!

ومع هذا لم يَخطُر في بالي أنْ أعاوِد التواصلَ مع الشيخ محمّد الكسنزان أبداً.

سادساً: في (3/ 12/ 1995) رفضت لجنة مناقشةِ أطروحتي للدكتوراه «الوحدان من رواة الصحيحين ومروياتهم في الكتب الستّة الأصول» وكان هذا الحدثُ أوّلَ العقوباتِ التي توعّدني بها جدّي الوليّ «أبو حمرة».

سابعاً: على الرغم من ابتعادي عن «تكية» الشيخ حاتم الرفاعي، إلّا أنّ الودَّ بيننا ما زال باقياً، وكان الرجل يهتمّ بأموري، وأمورِ أولادي بعد سفري من العراقِ أتمّ اهتمام، حفظه الله تعالى، وجزاه خيرَ الجزاء.

في منتصفِ شهر كانون الأوّل (12/ 1995) أرسل إليّ أحدَ تلامذته الحمويّين، وقال لي: يسلّم عليك الشيخ حاتم كثيراً، ويقول لك: «بِعْ جميعَ ما لديك من باصات وسيّارات، واحتفظ بقيمتها «دنانير» عراقيّة، فقد التقى حضرة الشيخ حاتم السيّد الخضر عليه السلام في الحضرة القادريّة، وأبلغه بضرورةِ فعلِ ذلك»!

كان سيّدي «أبو حمرة» قد هجرني، فغدوت من دون مرجعيّةٍ صوفيّة خاصّةٍ، ولم أكن يومَها على قناعةٍ بحياةِ الخضر، لكنني غفلتُ عن أنّ مشاهدةَ الشيخ حاتم للخضر عليه السلام؛ يمكن أن تكون مثلَ مشاهدتي وعلاقتي بجدي الوليّ «أبو حمرة» إنّما ليقضي الله أمراً كان مفعولاً!

لم أمتثل لطلب حضرة الشيخ حاتم، فخسرتُ جميع مالي في أسبوعٍ واحدٍ، من بدايات أيّام كانون الثاني (1996) حتى لم أعد أملك ثمنَ خبزٍ لأولادي، والله المستعان.

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024

 التصوّفُ العليمُ:

الشيخُ محمّدٌ الكسنزان كما عرفتُه (3)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللقاءُ الأوّل بحضرة الشيخ محمّد الكسنزان، رحمه الله تعالى:

قبلَ المِرقاةِ الأولى إلى حيثُ حضرتُه؛ أمهّد بكلماتٍ كاشفة، فأقول:

أوّلاً: الشيخُ محمّد الكسنزان اليوم في حياةِ البرزخ «القبر» والبرزخ عالمٌ من عوالم غيبِ الله تبارك وتعالى.

لن يُفيدَه مَدحُ مادحٍ، ولن يَضرَّه قدحُ قادح؛ لأنّ الله تبارك وتعالى ]يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[ وهو يحاسبُ عبادَه على عِلمِه التامّ بظاهر كلّ واحدٍ منهم وباطنه.

فالذي يَكذبُ في حقّ الشيخ محمّد - مَدْحاً أو قَدْحاً - لا يضرّ إلّا نفسَه، وحسبُه من الخزيِ أن يُكتبَ عند الله كذّاباً.

ثانياً: نحن المسلمينَ نتّفق على أكثرَ من تسعةِ أعشارِ أسس ديننا الحنيف، ونختلفُ في عُشره، ومع ذلك تجد صراعِنا واحترابنا - في جملتهما - قائمَيْن في ساحةِ المُباح([1]) التي هي ليست من الأحكام التكليفيّة، عند كثيرٍ من الأصوليين، وعندي([2]).

ثالثاً: أنا الفقير أرفضُ «التصوّف الفلسفيَّ» جملةً وتفصيلاً، وليس كبارُ رموزه ممن أحترمُهم وأوقّرهم وأعدّهم من أولياء الله تعالى، على الإطلاق!

فلا الحلاّج ولا البسطامي ولا ابن عربي ولا ابن الفارض ولا السهرورديّ ولا ابن سبعين، هؤلاء وأمثالهم ليسوا سلفاً صالحاً لي، وأرفض مُعتقداتِهم في العِرفانِ، ووحدةِ الوجودِ، والوحدة المطلقة، والإنسان الكامل، والحقيقة المحمّدية رفضاً تامّاً، من دون إطلاقِ أيِّ حكمٍ عَقَديٍّ على أيّ واحدٍ منهم.

وإنْ كان لي حكمٌ قضائيٌّ على واحدٍ من هؤلاءِ - جَدلاً - فإنّه لا يسري على أتباعهم ومقلّديهم، إذ هم مَعذورونَ عندي، مثلما أعذرُ مقلّدةَ المذاهب الفقهيّة، ولا فرق!

رابعاً: قد يكون بيني وبين شيخي محمّد الكسنزان؛ اختلافٌ في هذا الاتّجاهِ أو ذاك، لكنّ أحداً منّا لم يحاولْ إثارةَ نزاعٍ حيالَ هذه المسألةِ الخلافيّةِ، أو تلك بتاتاً.

إنّما كانت المحبةُ والثقةُ والمشتركاتُ المشروعةُ؛ هي التي تَقودُ سفينتنا إلى شاطئ الأمان، وهي التي مكّنتني من القيامِ بمهامّي العلمية والدعويّة في التكية الكسنزانية في بغداد سنواتٍ عديدة.

صحبتُ سيدي الشيخ محمّد أكثرَ من ثلاث سنواتٍ متواليةً، أقوم بجميع مسؤولياتي، وأنفّذ كلَّ ما يطلبه مني، ولم يَحدثْ بيني وبينه أنْ رفعَ صوته عليَّ، أو رفعتُ

صوتي عليه، ولو مرّةً واحدةً!

علماً بأنني طيلةَ هذه السنوات؛ لم أكنْ موظّفاً عنده، ولم أتقاضَ منه ديناراً عراقيّاً واحداً، يجعلني أجامِلُه، أو أخضع لرغباتِه مثلاً !

هذا يعني إمكانيّةَ أن يتعاون المسلمون ويتناصحوا ويتحابّوا، ويُجانبوا في

علاقاتِهم مواضعَ الخلاف.

خامساً: لم يكنْ مَوقعي لدى حضرةِ الشيخ محمّدٍ تلميذاً، ولا مريداً تابعاً مطلقاً.

إنما اختارني حضرتُه عالماً للطريقةِ، أعلّم خلفاءَه ودراويشَه بعض ما أعْلَمُه من دين الإسلامِ، ممّا لا غنى له لخلفاء الطريقِ في أداء وظائفهم الإرشادية والدعوية.

فعلى القارئ الكريم أن لا يستغربَ إذا وجدني أخالفُ الشيخ محمّداً في كليّات المنهج الصوفيّ العرفانيِّ ومفرداتِه، مثلما أخالفُه في الاستغاثةِ والتوسّلِ وطلبِ المدَدِ من غير الله تعالى، وفي الوقتِ ذاتِه أثني عليه وأُجلّه وأعتقد بصلاحه!

ومرّةً أخرى أؤكّد أنّ هذا يعني إمكانيّةَ أن يتعاون المسلمون ويتعايشوا ويتحابّوا، مع اختلافاتهم، مهما كثرت! 

سادساً: عَقبَ طردي من الحجازِ الشريف، عام (1991م) أكرمني الله تعالى بكراماتٍ عديدةٍ، عَددتُها تأييداً من الله تعالى، وتِبياناً بأنّ موقفي من رَفضِ الاستعانةِ بالقوّات الأجنبيّة في حربِ الكويت؛ كان على الحقّ!

سابعاً: في هذه السنةِ ذاتها؛ سلكتُ الطريقةَ الرفاعية على يدِ شيخي الفلسطيني «علي أبو زيد» الذي طلب مني أنْ أجعلَ غرفةَ الضيوف الكبيرةِ في منزلي مجلساً للذكر.

وبعد أقلَّ من شهرٍ، وفي مجلسٍ من مجالس الذكرِ الخاصّ بي وحدي؛ وردَ على قلبي خاطرٌ بأنّ جدّي عزّ الدين أبو حمرة معي!

أَغمضتُ عينيّ، فشاهدته بقلبي قائماً فوق رأسي، سلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وتبسّم لي ثمّ قال: «لا تخف يا ولدي، أنا وليُّك في الدنيا والآخرة» أو قال: «أنا وكيلك».

ثامناً: مضت الأيامُ - وأنا على صلتي بشيخي «علي أبو زيدٍ» - حتى دُعيتُ من حكومة العراقِ، إلى حضور المؤتمر الشعبي العامّ الثاني، في مطلع كانون الثاني (1992) فلبيتُ دعوتهم بعد أنْ عدّةِ استخاراتٍ سُنيّةٍ، رأيت بعدها جدّي موسى الكاظم عليه السلام، يوافق على حضوري إلى بغداد وبعد أخذ الإذن من الوليّ جدّي عزّ الدين «أبو حمرة» رضي الله عنه! 

وصلنا إلى العراقِ بتاريخِ (14/ 1/ 1992م) بعد إزعاجٍ شديدٍ من الوفدِ الأردنيّ، الذي لم يحترمْنا أبداً!

كنتُ أودُّ أن أتخاصمَ معهم في الحافلةِ - حسبَ طبيعتي الحادّةِ - بيد أنّ الوليَّ «أبو حمرة» أمرني بالصمت!

تاسعاً: في اليومِ الأوّلِ من أيّام المؤتمر؛ تعرّفَ إليّ وزير الأوقاف العراقيّ، الشهيد السيد عبدالله السامرائيّ - رحمه الله تعالى- وطلبَ مني إلقاءَ كلمةٍ في المؤتمر، فارتجلتُ كلمةً، لاقَتْ قبولاً حسناً من الوفود المشاركةِ، وأثنى عليها أستاذي الدكتور «عرفان عبدالحميد فتّاح» التركمانيّ رحمه الله تعالى.

في اليوم الثاني جعلوني رئيساً لإحدى جلسات المؤتمر، وبهذه الصفة علّقتُ تعليقاتٍ لطيفةً خفيفةً على بعضِ المتحدّثين في تلك الجلسة، نالت إعجاب أستاذي «عرفان» وقال: «نشكر فضيلة الشيخ عداب على إدارتِه الماتعة لهذه الجلسة، كما نشكره مرّةً أخرى على تعقّباته اللطيفة التي أفدنا منها جميعاً» وهذه هي المرّة الأولى التي أكون فيها رئيسَ جلسةٍ في مؤتمر!

عاشراً: في مساء هذا اليومِ؛ اشتبكتُ مع الأستاذِ «عزّة إبراهيم الدوريّ» في مشادّة كلاميّةٍ،وعلتْ أصواتنا، حين تطاول على «الإخوان المسلمين» وقال: «كلّهم يحبّون الدنيا، ويطمحون إلى الكرسيّ، ما عدا عمَّك الشيخ سعيد حوّى، فإنه من عبادِ الله الصالحين، فأريدكَ أن تكون مثلَ عمّك، لا مثل الباقين»!

قلت له: «وأنتم - البعثيين - ما شاء الله عنكم، لا تريدون إلّا الله والدارَ الآخرة!

ألستم أنتم تحكمون البلادَ بالحديد والنار، من الذي جوّز ذلك لكم، وحرّمه على غيركم.

غضب غضباً شديداً جدّاً، وقال: «الذي يقترب من هذا الكرسيّ؛ سنعدمه حياتَه».

ضحكتُ كثيراً من هكذا سياسيّ - والله - وقلت له وأنا أضحك: «سامحك الله بهذا الكرسيّ سبعاً بسبعٍ، وأطمئنُك فأنا لست من الإخوان المسلمين، وإنْ كان عمّي أكبر زعيم فيهم، أنا قادمٌ إلى العراقِ متضامناً معه في حقّه الشرعيّ، في محاربته للأمريكان وحلفهم، وأنا طالب علمٍ، طلّقت السياسةَ منذ زمن بعيد!

تَركتُ مجلسَه الذي كان فيه كثيرٌ من الأردنيين، منهم الشيخ «حازم أبو غزالة» الذي كان يملأ المكانَ الذي يكون فيه دعاوى ومجاملاتٍ ورؤىً يزعم أنّه رآها في منامه.

حادي عشرَ: جَلستُ وحدي على طاولةٍ، في بَهوِ فندق الرشيد، فتبعني أخي الدكتور «محمد بن سعيد حوّى» وزميل آخرُ قَدِم معنا من الأردنّ - لا أتذكّر اسمه - وجلس معنا عددٌ من الإخوة العراقيينَ، أبدَوا إعجابَهم بحواري العنيف مع الأستاذ «عزّة».

في هذه الأثناء طلب مني الوليُّ «أبو حمرة» الهدوءَ وعدمَ الصدامَ مع أحد، فامتثلت!

أقبلَ إلى طاولَتنا ثلاثةُ أفرادٍ أو أربعةٌ - نسيتُ - يتقدّمهم شابٌّ جميلٌ مليءٌ، في العشرينَ من عمره، يبدو عليه أنّه واثق من نفسه، وأنّه عريفُ القوم!

سلّموا علينا، وصافحونا، فطلبنا منهم الجلوسَ، فاعتذروا بأنهم مشغولون بأمورٍ أخرى في ساحةِ الفندق!

قال هذا الشابُّ : أنا أخوكم نهرو بن الشيخ محمد الكسنزان، باسم والدي أدعوكم إلى زيارةِ «التكية العلية القادرية الكسنزانيّة» يومَ الخميسِ، عقب صلاة المغرب، لتتعرّفوا إلى حضرة الشيخ الوالد، ولحضور مجلس الذكر!

كان هذا الشابُّ وسيماً حيّياً، جميلَ البَسمةِ، مهذّبَ الكلماتِ، فشعرتُ أنا بمحبّةٍ له لكنني استنكرتُ اسمه الهنديَّ في نفسي، وقلتُ له من دون تفكيرٍ ولا حتّى مشورةِ الوليّ: أنا أحضرُ إن شاء الله تعالى، اكتبوا لنا عنوان تكيتكم، نحن صوفيّون مثلكم أيضاً.

ابتسم الشابُّ، وانصرفوا، وفي نفسي أن أعاتب والده على تسمِيته «نهرو» !

ثاني عَشَرَ: َعَقبَ ابتعادِ الشابِّ «نهرو» عنّا؛ انبرى شابٌّ عراقيٌّ ذو عِمامةٍ ضخمة([3]) يعاتبني على وَعْدي للسيّد نهرو بزيارة التكيةِ في الموعدِ المحدّدِ وقال: «أنت من الإخوان المسلمين، وعمّك الشيخ سعيد حوّى، لا يليق بك أبداً أن تذهبَ إلى هكذا مَجمع»!

قلت له: تكيةٌ صوفيةٌ، يذكرون فيها الله تبارك وتعالى، ويصلّون على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، يَليق أو لا يليق، كلمتان ليس لهما معنى ههنا، التكية بيتٌ من بيوت الله تعالى، وأنت ترتكب إثماً بصدّك عن ذكر الله تعالى.

قال: نحن - أهلَ البلدِ - أعرفُ منك ومن غيرك بتكايا العراق، وبشيوخ هذه التكايا، أكثرهم منافقون جهّال!

هل تعلم أنّ والدَ هذا الشابّ لا يصلّي أصلاً، حتى الجمعةَ لا يصلّي، أقسم بالله على ذلك، فقد شاهده عددٌ من إخواننا خارجاً إلى الصيدِ، في وقتِ صلاةِ الجمعة!

وليس هذا فحسب، أولاده وبناتُه «وَسّخوا» الكليّاتِ العلميةَ التي يدرسون فيها.

اذهب إلى أيّ كليّة في جامعات بغداد، واسأل عن أحدٍ اسمه «كسنزان» وهم سيقولون لك كلَّ شيء!

قلت له بغضبٍ: لماذا لم تقل هذا الكلامَ أمامَ «نهرو» إذا كنت صادقاً؟

أنا لا أصدّق مثلَ هذا الكلام على مسلمٍ عاديٍّ، فضلاً عن شيخ طريقةٍ، يجتمع حولَه المئات، أكلّ دراويشِه مثلُه، ليس لديهم دين؟

كُفّ لو سمحتَ، أنا وعدتُ الرجل، وسأفي بوعدي، ذهبتم أنتم أم لم تذهبوا، سيّان!

انصرف الشيخ المعمّم هذا، فقلت له بصوتٍ خفيضٍ: أشهد أنّ قفاكَ قفا كذّاب!

ثالثَ عَشَرَ: اعتذر الأَخوان اللَذان معي عن الذهابِ إلى تكية الشيخ محمّد، نتيجةَ كلامَ هذا المعمّم الأنباريّ!

لكنني أصررت على الذهابِ في الموعد المحدّد، فاستحيا الأخوان وصحباني إلى حيثُ التكيةُ الكسنزانيّة في منطقةِ «نفق الشرطة».

كان بابُ التكية مزدحماً بعضَ الشيءِ، فتأخّرتُ ودخل صاحبايَ وبعضُ الناس الآخرين، ودَخلتُ وراءهم، فما شعرتُ إلّا برجل يسعى سريعاً إلى جهتنا - وهو بالزيِّ الكُرديّ - فما حسبته الشيخَ محمّداً أبداً، حتى إذا اقترب منّا - وأنا خلفَ الناسِ - تركَ اللَذَيْن أمامي، وهجم عليّ وهو يقول: أهلاً بالسيّد، أهلاً بالسيّد، شرفتمونا، وحضنني بقوّةٍ، وقال: أهلاً بابن عمّي ومرحباً، وأمسكَ بيدي، ومشى بي تجاهَ مجلسِه.

قلت له: حضرةَ الشيخِ، معي هذا الأخَوان، هذا ابن عمي، وهذا صديقنا.

رحّب بهما وصافحهما، وانطلق بي إلى مجلسه وأجلسني بجانبه.

حضرنا مجلسَ الذكرِ، وحضرنا الفعاليّات، فانفعلتُ كثيراً وبكيتُ، وتأثرتُ بهذه الكراماتِ العديدةِ التي يجريها الله تبارك وتعالى على أيدي دراويشه.

حتى إذا انتهى المجلس؛ استأذنّا حضرةَ الشيخِ بالانصرافِ، فأبى أن يأذن لنا حتى تَعشّينا عندهم، وأوصلنا أحدُ الدراويش إلى فندق الرشيد.

كان في مجلسِ الذكرِ الكسنزاني مَظاهرُ لم تَرُقْ لي، كان حضرةُ الشيخ حليقَ اللحيةِ، وسائر دراويشه كذلك، وكان طائفةٌ منهم يُطيلون شعورَهم ويتما يلون بها، وكان ضربُ الدفِّ لديهم عنيفاً جدّاً، ويذكرون الله تعالى بلغةٍ عاميّة، من مثل: (الله أستغفر الله دايم أستغفر الله) والصواب (دوماً) ويذكرون الله تعالى باسم (دايم) وليس هو من أسماء الله الحسنى، ويقولون (حِيْ اللهْ حِيْ) بالإمالةِ الشديدة إلى حدّ الإضجاعِ، والصواب (حَيٌّ اللهُ حَيّ) وكان في طرف المجلس عشرات النساءِ الظاهراتِ أمامنا.

وجميع من قاموا بالفعاليات؛ سجدوا للشيخِ، أو قبّلوا الأرضَ بين يديه، قَبلَ قيامهم بتلك الفعاليّات الجليلةِ.

هذه المظاهر جميعها مستنكرةٌ عندنا في سوريّا عامّةً، وفي مدينة حماة خاصّةً، وعندي أنا بوجهٍ أخصّ!

بيد أنّ الكراماتِ التي شاهدتها وتأثّرت بها؛ جعلَتْ هذه المظاهرَ لديَّ هامشيّة، يُمكن التنبيهُ عليها وتَداركُها فيما بعد.

والله تعالى أعلم

والحمد لله على كلّ حال.



([1]) المُباحُ: «مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ، الثَّوَابَ، وَلَا بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ، وَالنَّدْبُ مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ، فَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى عَلَى الْمُبَاحِ»قاله أبو بكر الجصّاص في فصوله (2: 91) ووراءَ هذا التعريفِ تفصيلاتٌ، أوضحها الأصوليون في كتبهم.انظر: الموافقات للشاطبيّ (1: 205 - 215).

([2]) نصّ الغزاليّ في المستصفى (ص: 60) على أنّ المباحَ ليس من التكليف؛ لأنّه لا يدخُلُ تحت أمرِ الشارعِ ولا نهيِه. 

([3]) عِمامته تقربُ من عمامةِ فضيلة الدكتور السيّد رافع الرفاعي العاني، إنّما ليس هو قطعاً، لذا لزم التنويه.

الاثنين، 25 نوفمبر 2024

         التصوّف العليم:

الشيخ محمّد الكسنزان كما عَرفتُه (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

خُطبةُ البحث

الحمد لله ربّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالك يومِ الدين.

وأشهدُ أنْ لا إِلَهَ إلّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ لهُ، شهادةَ موقنٍ به، متوكّل عليه، سبحانه وتعالى.

قالَ في كتابه الكريم:

- ]يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ منَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَدَعْ أَذَاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (48)[ [سورة الأحزاب].

- ]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً (8) لِتُؤْمِنوا باللهِ وَرَسولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)[ [سورة الفتح].

- ]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)[ [سورة التوبة].

وأشهدُ أنّ محمّداً عَبدُاللهِ ورسولُه، وصفيُّه من عِباده وحبيبُه، القائلُ

صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ.

مَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ، آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ؛ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ) ([1]).

وقال صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم:

(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) ([2]).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ([3])  

أمّا بعد: كان العربُ قبلَ الإسلامِ في جاهليّةٍ جهلاءَ، وفي عَصبيّةٍ شوهاءَ خَرقاءَ، وفي  احترابٍ وضَوضاء!

يَعبدُ كثيرٌ منهم الأصنامَ، ويُنكرون الحشرَ والنشرَ والقيامَ، ويقولون:

]إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[.

سيماهُم الكِبْرُ، ومَلاذُهم الكِهانةُ والسِحْرُ، يمسون ويصبحون، وهم يتقلّبون في الضغائن والوِزْرِ!

بيدَ أنّهم من نَسْلِ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ بنِ خليلِ الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

إبراهيم الذي دعا لذريّته قائلاً: ]رَبَّنا: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَنَاسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)[ [سورة البقرة] فاستجابَ له ربُّه تباركَ وتعالى بعدَ قرونٍ مِن عُمُر الزمان!

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ أخي عيسَى، وَرُؤْيا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ) ([4])

استجابَ الله تعالى دعاءَ خليلِه إبراهيمَ، فبعثَ برسولِه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهدى ودينِ الحقّ، إلى بني إبراهيمَ، ثمّ إلى بني الإنسان كافّة!

]-هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)[ [سورة التوبة] و[سورة الصفّ: 9].

]-وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)[ [سورة سبأ].

]-إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)[ [سورة الأنبياء].

هذا عامٌّ شاملٌ لجميعِ المكلَّفين من الثقلين «الإنسِ والجنِّ»!

بيدَ أنّ ثمّةَ تخصيصاً صريحاً واضحاً، يَسيرُ مُوازياً هذا العمومَ الجليل!

قال الله تبارك وتعالى ممتنّاً على رسوله المصطفى، وموضحاً له ولآلِه  أوائلَ المخاطَبينَ بهذا الدين: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ، بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)[ [سورة الأنعام].

]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ؛ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)[ [سورة الشعراء].

] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ؛ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)[ [سورة الزخرف].

جَهَر رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآلِه وسلّم بدعوةِ الإسلامِ، فوقفَ في وجه دعوتِهِ أصحابُ النفوذِ والمالِ من قريشٍ، وعادَوْهُ، وآذوه ]وهمّوا بما لَمْ ينالوا[ مِن رَغبتهم بقتلِه، رُوحي له الفداءُ!

وصبرَ معه قومُه وعشيرتُه الأقربون «بنو هاشمٍ وبنو المُطّلب» مؤمنُهم ومَن تأخّر إيمانه برسالتِه يومئذٍ، وعانَوا معه زمانَ الحصارِ المقيتِ البَغيضِ، الذي فرضه عليه وعليهم مُشركو قريشٍ، الذين اخترعوا لأنفسهم فيما بعدُ مزايا وحقوقاً ومناقبَ وفضائلَ، نسبوها إليه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم؛ ليكون لقريشٍ مشروعيّةٌ ظاهرةٌ لدى أتباعِه المؤمنين!

شكرَ الرحمنُ الرحيمُ لبني هاشمٍ نَجدتَهم، وكافأهم على نصرتهم لسيّدهم، رسولِه المصطفى، فخلّدَ ذِكْرَهم، ورفعَ فوق العالمين منزلتَهم، وفرضَ لهم على هذه الأمّةِ حقوقاً، أنكرَتْها، وحرَمَتْهُم منها!

قال الله تعالى:

- ]قُلْ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً؛ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)[ [سورة الشورى].

- ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)[ [سورة الأنفال].

- ]مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى؛ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ؛ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)[ [سورةُ الحشر].

إنّ المُنصفينَ من الفقهاءِ، غيرَ الخاضعين لأهواءِ الحكّامِ النواصبِ؛ فهموا من نصوصِ الكتابِ والسنّةِ أنّ «الصِّنْفَ الثَّالِثَ ممّن يُصرفُ إليهم سَهْمٌ مِنْ بَيْتِ مالِ المسلمينَ - عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهارِهِمْ - وَلاَ يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ، وَلاَ عَلَى اسْتِبقاءِ كِفَايَةٍ؛ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْماً مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، منْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ، عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللهُ.

وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ، وَسِيَرُ الْخُلفَاءِ، وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، قَبْلَ ظُهُورِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ» قاله الإمام الجوينيّ في غياثِه([5]).

وهذا هو الذي يعتقدُه علماءُ آل البيتِ، وافقَ مَنْ وافقَ، وخالفَ من خالف!

وقال ابن قيّم الجوزيّةِ الدمشقيُّ الحنبليُّ رحمه الله تعالى (ت: 751 هـ) في كتابه البديع «جلاءُ الأفهامِ»: «قال الله تعالى لنَبيِّهِ يُذَكّرُهُ بنِعمتِهِ عَلَيْهِ: ]وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُما: يعني: «إِذا ذُكِرْتُ؛ ذُكِرْتَ مَعي،  فَيُقال: (لَا إِلَه إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ([6]) عندَ الدخولِ في الْإِسلامِ، وَفِي الْأَذَانِ، وَفِي الخُطَبِ، وَفِي التَشهُّداتِ، وَغيرِ ذَلِك.

وَمِنْها: أَنّه سُبْحانَهُ جعلَ خلاصَ خَلْقِهِ مِن شقاءِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛ على أَيدي أهلِ هَذا البَيْتِ، فَلهُم على النَّاسِ مِن النِعَم؛ ما لَا يُمكنُ إِحصاؤُها، وَلَا جزاؤُها.

وَلَهُم المِنَنُ الجِسامُ فِي رِقابِ الْأَوَّلينَ والآخرينَ مِن أهلِ السَّعَادَةِ، ولهمُ الأيادي الْعِظَامُ، الَّتِي يجازيهِمْ اللهُ عزَّ وَجَلَّ عَلَيْها.

وَمِنْها: أَنَّ كلَّ نَفعٍ وَعمَلٍ صَالحٍ وَطَاعَةٍ للهِ تَعَالَى، حصَلتْ فِي الْعالمِ؛ فَلهم مِن الْأجرِ مِثلُ أجورِ عامِليها، فسبحانَ مَن يخْتَصُّ بفضْلِهِ مَن يَشاءُ مِن عِباده» ([7]).

وقال الشيخ أحمدُ ابن تيمية الكرديُّ الحرّانيُّ (ت: 728 هـ) في كتابه «اقتضاءُ الصراطِ المستقيم»: «إنّ الذي عليه أهلُ السنةِ والجماعةِ؛ اعتقادُ أنّ جِنسَ العَرَبِ أفضلُ من جنس العجمِ: عِبرانيّهِم، وسريانيّهِم، وروميّهِم، وفُرسيّهِم، وغيرهم.

وأنّ قُريشاً أفضلُ العَربِ، وأنّ بني هاشمٍ؛ أفضل قُريشٍ، وأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ بني هاشمٍ، فهو أفضلُ الخَلقِ نَفساً، وأفضلُهم نَسباً.

وليس فَضلُ العَربِ، ثمَّ قُريشٍ، ثم بَني هاشِمٍ، لمجرّدِ كونِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلّم منهم، وإنْ كان هذا مِن الفَضلِ، بل هم في أنفسهِم أفضلُ، وبذلك يَثبتُ لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه أفضلُ نَفساً ونَسباً».

إلى أنْ يقول: «ومِن الناسِ مَن قَد يُفضّل بعضَ أنواعِ العَجمِ على العربِ!

والغالبُ أنّ مِثلَ هذا الكلامِ؛ لا يَصدُر إلّا عَن نَوعِ نِفاقٍ: إمّا في الاعتقادِ، وإمّا في

العَملِ المُنْبَعثِ عن هَوى النَفْسِ، مع شُبهاتٍ اقتضَتْ ذلك»([8]).

كان شيخُنا «محمّدُ الكسنزان» رحمه الله تعالى؛ يؤمن إيماناً راسخاً بكلِّ ما تقدّم!

بيد أنّه كان يُنكرُ أن يكون لقريشٍ فضائلُ دينيّةٌ كَسبيّةٌ، وقد قال لي مرّةً: أنا لا أصدّق بأيِّ حديثٍ يُنسب إلى رسولِ اللهِ صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، في فضائل قريش!

إذْ لم تؤذِ قبيلةٌ من العربِ الرسولَ، مثلما آذتْه قريشٌ، ولم يَقتُل من ذريّته قومٌ، كما قَتَلت قريشٌ، ولم يحرمهم حقوقهم، إلّا خلفاءُ قريش، وتبعتهم الأمّة الجاهلةُ على ذلك!

أليس الرسول صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ، اللهمُّ عليكَ بقُريشٍ) ([9]) أليس هذا صحيحاً عند المحدّثين؟

قلت: بلى هو حديث صحيح، سيّدي!

زارَه في تكيته المباركةِ مرّةً ثلاثةٌ من كِبارِ رجالِ الدولةِ البعثيين في العراقِ، وطرح واحدٌ منهم مسألةَ أنّ «العروبةَ هي قلبُ الإسلام» أو حاضنتُه - نسيتُ - فغضبَ حضرةُ الشيخ «محمّد» وقال لهم: «لا واللهِ لا أقبل بهذا، إذا لم يكن الانتسابُ إلى آلِ البيتِ وحدهم، فأكون كرديّاً أفضلُ -كردي يعني ألمانيّ - أليس الألمان خيراً من هؤلاء الأعراب الجفاة الغلاظ، الذين لا يحسنون شيئاً، ولا يعرفون كيف يسوسون رعاياهم، بغير القهر والدَم؟!

وهل آذى رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم وذرّيتَه من بعدِه، سوى العربِ وقومِه من قريشٍ الظالمة»؟ فسكتوا سكوتاً تامّاً، وغيّروا مجرى الحديث!

    عشتُ مع حضرةِ الشيخ «محمّد الكسنزان» رضي الله عنه، من دون انقطاعٍ، من شهر يونيه «حزيران» عام (1996) حتى منتصف شهر أغسطس «آب» (1998م) في التكية الكسنزانيّةِ في بغداد، ونَصبني عالمَ الطريقةِ ومفتيَها وخطيبَ مسجدِ التكيةِ، طيلةَ هذه المدّةِ المباركة.

وكان يستدعيني لمحاورةِ المعاندينِ، مثلما يستدعيني لمحاورةِ غير المسلمين، من الوافدين إلى تكيتنا في بغداد، وقال لي مرّاتٍ: «يا سيّد ليس لي ولا لك مِنّةٌ في شيءٍ من هذا الجُهد، هذا دينُ جدّك صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم، أنت تجاهد بعلمِك ولسانك، ونحن نجاهِد بإقامةِ الحجّةِ والبرهان العمليّ، على صدق هذا الدين».

والكلامُ تُجاهَ الشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ ذو اتّجاهين: بينَ غالٍ وقالٍ!

وكنتُ أمنّي نفسي أن أكتبُ صفحاتٍ وجيزةً، توضحُ تجربتي مع حضرة الشيخ، بعيداً عن سفهِ السفهاءِ، الذين ينعتونه بنعوتٍ كاذبة مفتراةٍ، يستحيي العاقلُ من مجرّد ذِكْرها، أو سماعها، وسيأتي ذِكْرُ بعضها!

وبَعيداً عن الإطنابِ الذي ينفر منه طبعي، تُجاهَ أي مخلوقٍ ضعيفٍ، يأكلُ الطعام، ويتعرّض للأسقامِ، ويموتُ ويسجّى في نهايةِ أمره تحت الركام!

الشيخ «محمّد الكسنزان» في نظري: إنسانٌ ذكيٌّ لمّاحٌ فارس عاشقٌ حضرةَ الرسول وآلَ بيتِه، مُنافحٌ عنهم، ساعٍ في صلاحهم وسعادتهم الدنيوية والأخرويّة.

داعيةٌ بارعٌ بحالِه وأفعاله، أكثرَ بكثيرٍ من قالِه، مؤمنٌ عميق الإيمان، موقنٌ غاية اليقين، عارفٌ بمقاصدِ الدينِ وأهدافِ الشريعةِ ومكارمها، مُلتزمٌ بما يؤمن به أقصى التزام!

إداريٌّ من الطرازِ الرفيعِ، اقتصاديٌّ موفّق مسدّد، طموحٌ إلى نصرةِ طريقِ التصوّفِ الذي يعتقدُ أنّه دينُ الله تبارك وتعالى.

وأنا الفقير لن أكتبَ سيرةً لحضرة الشيخ محمّد الكسنزان، فقد كتب الأخُ الخليفةُ الدكتور «لؤيّ فتّوحي» للشيخِ سيرةً طيّبةً علميّةً مباركةً، ليس بوسعي؛ أن أضيفَ عليها إضافاتٍ صادقةً ذاتَ بالٍ!

إنّما ستكون كتابتي عن حضرته «ذكرياتٍ ومُذكِّراتٍ» ألخّص فيها تلخيصاً وجيزاً تجربتي الثريّةَ الغنيّةَ مع سماحته، رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه، ونفعني بمحبّته والوفاءِ له ولذريّته ولطريقِ التصوّف الروحيِّ السامي.

والحمدُ لله على كلّ حال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2278) وأبو داود في كتاب السنّة مختصراً من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابنُ ماجه والترمذيّ (3148، 3615) من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ مرفوعاً، وقَالَ الترمذيّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وهو مرويّ عن عددٍ من الصحابة.

([2]) أخرجه أحمد  ومسلمٌ (2276) والترمذيّ (3606) وقَالَ «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ».

([3]) أخرجه البخاريّ (3369) ومسلم (407).

([4]) الحديثُ مَرويٌّ عن عددٍ من الصحابة، عند أحمد في مسنده (17685) والطبراني في مسند الشاميين (1455) والبيهقيِّ في دلائل النبوة (1: 83) وأبي نعيم في حلية الأولياءِ (6: 89) والحاكم في المستدرك (3566) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([5]) انظر الغياثي لإمام الحرمين (ص: 244 - 247).

([6]) لم يصحّ هذا القولُ من حديث ابن عبّاسٍ، ولا من حديث أبي سعيد الخدريّ، مرفوعاً، أو موقوفاً، وقد أورد تلك الرواياتِ ابنُ كثير في تفسيره (8: 430) والصوابُ أنّه مقطوعٌ من كلام مجاهد، وهذا الذي اعتمده الشافعيّ في مسنده (651) والخلّال في السنة (317) والآجريّ في الشريعة (953) وغيرهم.

([7]) اقتضاءُ الصراط المستقيم لابن تيمية (1: 420 - 422).

([8]) جلاءُ الأفهام في فضلِ الصلاة على محمّدٍ خير الأنام (ص: 311)

([9]) طرفٌ من حديثِ عبداللهِ بن مسعودٍ مرفوعاً؛ أخرجه البخاري في الصلاة (520) ومسلم في الجهاد والسير (1794)