مَسائلُ حَديثيّةٌ (62):
كيف تلقّى البخاريُّ موطّأ مالكٍ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
في زيارتي الأخيرةِ إلى مَعرض استانبول للكتاب؛
مَررتُ بدار الفتح للنشر والتوزيع، لأسلّم على مديرها أخي الدكتور «إياد الغوج» فحدّثوني أنه
لم يحضر إلى تركيّا هذا العام، فسألتهم إن كان لديهم جديدٌ في علوم الحديثِ
الشريف؛ فأعطوني كتابَ «مِن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى
البخاريّ - دراسة في حركة روايةِ الحديثِ ونقده في القرون الثلاثةِ الأولى» لأحدِ
الإخوةِ من حملة الدكتوراه في علوم الحديث.
قرأتُ ثبتَ موضوعاتِ الكتاب؛ فاستوقفني عنوان: «تراث
الرواية ومركزية صحيح البخاريّ».
قرأتُ هذا المبحثَ، قبل أن أقرأ مقدمة الكتاب
وخاتمته، كما هي عادتي.
فوجدته في (ص: 368) قال: «انتقلت
أحاديثُ طبقة أتباع التابعين إلى الإمام البخاريّ بطريق جيلٍ واحدٍ، أو جيلين.
فعلى سبيل المثال:
روى البخاريُّ عن شيخٍ له، عن مالكٍ.
وروى عن شيخٍ له، عن رجلٍ من طلّاب مالك عنه».
يريدُ أن يقول: يروي البخاريُّ عن مالكٍ
بواسطةٍ واحدةٍ، أو بواسطتين.
ثم قال في الموضع نفسه: «كان من أهمّ نتائج
حقبة الموطأ والجوامعِ؛ أن اعتمد العلماء اللاحقون عليها اعتماداً قويّاً، في
كتبهم المصنفة في القرن الثالث الهجريّ، وكان لكلّ مصنِّفٍ طريقٌ يتحمّل فيه كتابَ
مالكٍ مثلاً!
- فقد ضمّن الإمامُ أحمد في مسنده الأحاديثَ
المرفوعةَ في موطّأ الإمام مالك، ورواها عن عبدالرحمن بن مهديّ (ت: 198 ه) عن
مالكٍ!
- لكنّ البخاريَّ اختار أن يعتمد على روايةِ
عبدالله بن يوسف التِنّيسيِّ (ت: 217 هـ) في روايته لموطّأ مالكٍ...
ولذلك نجد أكثر الرواياتِ عن مالكٍ، من طريق
عبدالله بن يوسف، وإن روى عن غيره أيضاً.
- واعتمد الإمامُ مسلمٌ (ت: 261 هـ) على يحيى
بن يحيى النيسابوريّ (ت: 226 هـ)».
بدا لي بادي الرأيِ أنّ أخي الدكتور، كان على
عجلةٍ من أمره، إذ كلامه عامٌّ سطحيّ، له فيه تدقيقٌ ولا استقصاءٌ ولا تحرير،
لكنني قرأتُ في صدر الكتابِ أنّ هذه النسخة التي بين يديّ، من الطبعة الثانية!
إنّ قوله: «اعتمد الإمام أحمد على الإمام
عبدالرحمن بن مهديّ في نقل الروايات المرفوعة في موطأ مالك» يدلّ على أنّ هذا هو
الطريق الوحيد لتلك الرواياتِ، أو أنّ الغالبية العظمى منها هي كذلك!
بينما كان الذين نقل الإمام أحمد روايات الإمام
مالك من طريقهم (36) راوياً، أحدهم عبدالرحمن بن مهدي!
إنّ جملة روايات الإمام مالك بن أنسٍ، في مسند
الإمام أحمد (594) روايةً بالمكرّر.
أخرج عن عبدالرحمن بن مهدي منها (285) روايةً
مكرّرة.
أوّلها (194، 265، 266، 268، 269).
وآخرها (25791، 25837، 26063، 26111، 26173).
فهناك أكثر من (300) رواية عن مالكٍ، رواها غير
ابن مهدي!
وكلّ واحدٍ من هؤلاء الـــــ (35) راوياً
الآخرين، روى قدراً من هذه الروايات، عن مالك!
وقول المصنّف «ولذلك نجد أكثر الرواياتِ عن
مالكٍ «عند البخاريّ» من طريق عبدالله بن يوسف، وإن روى عن غيره أيضاً» فيه نظر
كبير كذلك!
فجملة رواياتِ الإمامِ مالك في صحيح البخاريّ
(644) روايةً!
رواها عن مالك (26) راوياً، من الرواة عنه!
وما رواه عبدالله بن يوسف التنيسيّ عن مالكٍ
منها؛ كان (288) روايةً
أوائلها (2، 24، 145، 162، 166).
وأواخرها (7202، 7211، 7227، 7417).
فيبقى عندنا (356) روايةً، رواها عن مالك (25)
راوياً، أغفلها الدكتور بسرعته في البحث!
كما أغفل الدكتور أنّ البخاريَّ، «الذي يتحرّى
انتقاءَ أصحّ الأحاديثِ، وانتقاء أوثق الرواة» قد أخرج في صحيحه لشيخه إسماعيل بن
عبدالله ابن أبي أويس (229) رواية!
منها (163) روايةً عن مالك بن أنس!
أوائلها (22، 37، 46، 66، 76).
وأواخرها (7457، 7494، 7504، 7506، 7548).
ومهما تجاوزنا عن اتّهام إسماعيل هذا بالكذبِ،
ووضع الحديثِ، والغفلة الشديدة، التي وصفوها بها؛ فلا بدّ من أن نُقرّ بأنه من
أضعف رواة الجامع الصحيح، وأنّه لا يُقبلُ منه حديثٌ واحدٌ انفرد به!؟
وقول المصنّف «واعتمد الإمامُ مسلمٌ (ت: 261
هـ) على يحيى بن يحيى النيسابوريّ (ت: 226 هـ)» يُشعِر باقتصار مسلمٍ على شيخه
يحيى في رواياتِ أحاديث الموطّأ!
بينما الحقيقة أنّ الإمامَ مسلماً أخرج للإمام
مالكٍ (346) حديثاً، حسب ترقيم عبدالباقي، رواها عن مالكٍ من طرق (24) راوياً عنه.
روى من طريق يحيى بن يحيى عن مالك (237) حديثاً.
أوائلها (52، 71، 98، 169، 237).
وأواخرها (2623، 2632، 2691، 2735، 2866).
بقي عندنا (109) أحاديث، رواها مسلم من طرق
(23) راوياً عن مالك.
إنّ الإطنابَ الشديدَ في التقريظِ؛ هو مثلُ
الإسفاف الشديد في النَقضِ، كلاهما ليس فيه عدل، ولا ينتصر للحقيقة!
ولو أنّ أخي الدكتور، قام بدراسةِ الرواة الذين
هم دون درجاتِ «حافظٍ وثقةٍ وصدوق» بالنظر التطبيقيّ في رواياتهم؛ كان خيراً له من
هذا الكلام العامّ، الذي ليس تحته تحصيلٌ البتة!
- (200) راوٍ، من رواة الشيخين، ضعفهم الحافظ
ابن حبّان في كتاب المجروحين!
- (143) راوياً منهم، منحهم ابن حجر في التقريب
درجة «مقبول».
- (43) راوياً، وصفهم ابن المدينيّ وغيره
بالجهالة!
- (114) راوياً من الوحدان.
- (73) راوياً ليس للواحد منهم في الصحيحين سوى
حديثٍ واحد!
هل أحاديث هؤلاء يا دكتور، تُعدُّ من أصحّ
الأحاديثِ، وهل هؤلاء الرواةُ من أوثق الرواة؟
إنني أقرّ معك بأنّ صحيحَ البخاريّ؛ أفضل كتابٍ
من كتب الرواية، لدى المسلمين، لكنّ الروايات التي لا تجاوز مرتبةَ الحسن فيه؛
تزيد على (60%) من جملة رواياته!
لذلك أتحفّظُ على قول أولئك العلماء، الذين
قالوا: «صحيح البخاريّ؛ أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى» لأنَّ درجة ثبوتِ القرآن
الكريم (100%).
فعندما نقول: صحيح البخاريّ يلي كتاب الله
تعالى في الثبوت؛ يظنّ القارئ أنّ درجة ثبوت أحاديث البخاري في درجة (90%) في
المتوسط!
بينما درجات ثبوت أحاديث البخاري تتفاوت بين
(95%) لعدد يسيرٍ من الأحاديث، ثم نزولاً (90، 80، 70، 60، 50، 40) وفيه أقلّ من
ذلك أيضاً.
ختاماً: أدعو أخي المصنِّفَ وسائرَ طلبةِ
العلم، إلى تجاوزِ كتبِ المصطلح النظرية، وكتبِ التراجم المناقبيّة، إلى الترجمة
العلمية النقدية، والتطبيق الحديثيّ النقديّ!
وأنا في مقالي هذا؛ لم أقوّم كتابَ أخي الدكتور
أبداً، فتقويمه قد يحتاج إلى (500) صفحةٍ، في الحدِّ الأدنى!
إنّما وجّهته إلى أن يراجع كتبَه وأبحاثه كلّها،
في ضوء هذا المنشور السريع!!؟
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق