الجمعة، 31 مايو 2024

التصوّف العليم (20):

دورة الكسنزان العلميّة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

عتب بعضُ الإخوةِ عليَّ أنْ علموا أنني في رحاب «التكية العليّة القادرية الكسنزانيّة» وهدف الزيارة الأسمى؛ هو إقامةُ دورة علميّة في القرآن والحديثِ والفقه، لخلفاء الطريقة الكسنزانيّة.

ويعلم أولادي وتلامذتي أنني كنت عمدةَ (دورة الكسنزان العلميّة الأولى) في بغداد، عام (1996) تلك الدورة العلمية المكثّفة التي استمرّت ستّة أشهرٍ متواليّة، والتي خرّجنا فيها ثلاثةً وتسعين طالبَ علمٍ، من خلفاء الكسنزان.

وقد دعاني حضرة شيخ الطريقةِ الكسنزانيّة الدكتور «محمد نهرو» بن السيّد الشيخ محمد الكسنزان الحسينيّ إلى العراقِ، للقيام بهذه الدورة العلميةِ، التي نسأل الله تعالى أن يتمّها الرحمان الرحيم على خيرٍ، وأن يعينني على القيام بها، وأن ينفعَ المشاركين فيها.

وقد طلب مني حضرة الشيخ «محمد نهرو» تفاصيل الموادّ المطروحةِ في هذه الدورة، فأرسلتُ إليه هذه المسوّدةَ بحروفها:

(بسم الله الرحمن الرحيم

منهاج دورة الكسنزان الصيفيّة الخامسةِ لعام (2024).

الحمد لله ربّ العالمين، القائل في محكم كتابه الكريم: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [سورة القيامة].

والقائل جلّ وعزّ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) [سورة التوبة].

والقائل تباركت أسماؤه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [سورة النساء].

والصلاة والسلام على حبيبنا رسول الله محمّد بن عبدالله القائل: (خَيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه) أخرجه البخاري (5027) والترمذيّ (2907) وقال: حسن صحيح.

والقائل في دعائه لابن عباس: (اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2274) من حديث سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

والقائل: (يُوشِكُ بِالرَّجُلِ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ؛ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ؛ حَرَّمْنَاهُ.

أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ؛ هُوَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ) أخرجه الدارميّ في سننه (586) وهذا لفظه، والترمذيّ في جامعه (2664) وقال: حديث حسن غريب.

أوّلاً: مدّة الدورة العلمية الكسنزانية الصيفيّة؛ أربعون يومَ عملٍ تامّة، في كلّ يومٍ ستُّ ساعاتٍ تدريسيّة عمليّة.

ثانياً: تجرى مقابلةٌ شفويّة للمتقدمين إلى هذه الدورة، ويتمّ قَبولُ أصحابِ الدرجات العليا.

ثالثاً: يجرى اختبار تحريريّ في يومٍ،واختبار شفويّ في يومٍ آخر، بعد تمام عشرين يوماً عمليّاً، كما يجرى الاختبار النهائيّ، بعد تمام عشرين يوماً أخرى، ويكون الاختبار النهائيّ، بعد تمام الدورة.

رابعاً: حُضورِ طلّاب الدورةِ في مركز التكية؛ إلزاميّ.

خامساً: يمنح المركز الثقافي الكسنزاني للطلاب الناجحين شهادةً علميّة، وللمتفوقين شهادةَ تقديرٍ أيضاً.

ويمنح الدكتور المحاضر السيّد عداب الحمش ثلاثَ إجازاتٍ علميّة، مُسندةً بالقدر التي حضره الطلّاب عليه، مع إجازةِ روايةٍ، شاملةً جميعَ كتب الإسلام المسندة، لدى أهل السنّة والشيعة الإماميّة.

ثانياً: البرامج العلميّة للدورة تقتصر على ثلاثِ موادَّ دراسيّة علميّة، تشتمل كلّ مادّةٍ على علوم متعدّدة على النحو الآتي:

(1) مادة علوم القرآن وتشتمل:

(أ) على تلاوةِ حزبِ المفصّل من (سورة الحجرات) حتى آخر (سورة الناس) مع قراءة فواتح السور وخواتمها، وتلاوة الكلمات المستصعبة التلاوة من دون شيخٍ معلّم، في جميع سور القرآن الكريم.

(ب) تعلّم أحكام التجويد، وسأختار كتاباً صغيراً، يتناسب مع دورة قصيرة؛ لأنّ الأهمّ هو التطبيق العمليّ.

(ت) تعلّم الوقف والابتداء.

(ث) تفسير الكلمات المستصعبة في حزب المفصّل، من كتابٍ جيّد مختار.

(2) مادّة الحديث النبويّ، وتشتمل على العلوم الآتية:

(أ) تعليم كتاب (نزهة النظر) للحافظ ابن حجر، أو (اختصار علوم الحديث) حسب قدرة الطلّاب، وللدكتور المحاضر عداب بن السيّد محمود الحمش؛ شرح وجيزٌ على كلّ واحدٍ من هذين الكتابين.

(ب) شرح وإقراءُ وتخريج الأربعين حديثاً النوويّة.

(ت) تعريف الطالب بمناهج صحاح أهل السنّة الأربعة (صحاح البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبّان) وتعريفهم بمسند الإمام زيدٍ والربيع بن حبيب الإباضيّ والكتب الأربعة الإمامية: الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار لشيخ الطائفة الإماميةِ أبي جعفر الطوسي.

وللمحاضر الدكتور عداب كتابان في هذا الجانب.

(ث) متطلّبات إجازة الرواية الحديثيّة العامّة، ويتعلّم الطالب فيها القراءةَ الحديثيّة العلميّة لعشرةِ كتبٍ من كتب السنّة المطهّرة: (موطّا مالك - مسند الشافعيّ - مسند أحمد - سنن الدارمي - صحيح البخاريّ - صحيح مسلم - منتقى الأحكام لابن الجارود - صحيح ابن خزيمة - صحيح ابن حبّان - مستدرك الحاكم.

وللمحاضر الدكتور عداب كتاب في هذا الجانب، عنوانه (الأمالي العراقيّة) سبق علّمته لطلابي في العراق عام (2000 - 2002).

 (3) مادّة الفقه الإسلامي: وتشتمل:

(أ) على كتاب (متن الغاية والتقريب) للإمام أبي شجاع الأصبهانيّ، بتحقيق وضبط الدكتور عداب.

(ب) شرح الغزّي على متن أبي شجاع.

(ت) التذهيب في أدلّة متن الغاية والتقريب، للدكتور مصطفى ذيب البغا.

(ث) المسائل التي خالف فيها أبو شجاعٍ الراجح في المذهب الشافعيّ، للدكتور محمود بن إبراهيم السقّا المصريّ.

(ج) تخريج الأحاديثِ ونقدها، وبيان أثر ذلك على بعض المسائل الفقهية، للدكتور عداب.

هذه هي مناهجُ الدراسة في دورة الكسنزان الخامسة، ونسأل الله تعالى التوفيقَ والرشادَ.

فهل يُلام السيد الشيخ «محمد نهرو» على إقامةِ هذه الدورةِ العلميّة، أو يُشكر، ونسأل الله تعالى له المثوبة، والأجرَ العميم.

وهل يُلامُ الفقير عدابٌ على تحمّله مشاقّ القيام بهذه الدورة العلميّة، ستّ ساعاتٍ يوميّاً لمدّة أربعين يوماً متواصلةً، وهو ابن سبع وسبعين سنة؟

ما لكم كيف تحكمون أيّها الناس، أليس لديكم خوف من الله تعالى، ورحمةٌ بإخوانكم المسلمين؟

والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

الخميس، 30 مايو 2024

         مَسائل حديثية (100):

هل أعرض البخاريّ عن تخريجِ حديثِ بريدةَ في ولاية عليّ عمداً !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من المسلَّم لدى أهلِ الحديثِ؛ أنّ حديثاً لا يخرّجه البخاريُّ ومسلمٌ أو أحدهما، في بابٍ يَحتاج إلى الحديث؛ يكون في هذا الحديثِ عِلّةٌ في إسناده أو متنه!

وقد أخرج البخاريّ طرفاً من حديثِ بريدةَ هذا، في فضل الإمام عليٍّ، وأعرض عن سائره، فلِمَ فَعَل هذا؟

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في المغازي، باب بعثِ عليٍّ وخالدِ بن الوليد إلى اليمن (4350) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ « بُرَيْدَةَ » رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ.

وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا - وَقَدْ اغْتَسَلَ - فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا؟

فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ!

فَقَالَ يَا بُرَيْدَةُ: (أَتُبْغِضُ عَلِيًّا)؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ!

قَالَ: (لَا تُبْغِضْهُ، فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ).

قال عداب: روايةُ علي بن سعيد بن منجوفٍ هذه، أخرجها أحمد في موضعين في مسنده (21958) قال: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ وَقَالَ رَوْحٌ مَرَّةً لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ قَالَ فَأَصْبَحَ عَلِيٌّ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ قَالَ فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا لِمَا صَنَعَ عَلِيٌّ

قَالَ وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا قَالَ فَقَالَ يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَلَا تُبْغِضْهُ قَالَ رَوْحٌ مَرَّةً فَأَحِبَّهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وأعاده أحمد في مسنده (21979) سنداً ومتناً.

وسياقة أحمد لمتن هذه الرواية قريبة من سياقة البخاريّ، لكنها أوضح منها.

ولم يخرّج البخاريّ أيَّ روايةٍ أخرى من رواياتِ هذا الحديثِ الكثيرة.

بينما ساقه الإمام أحمد من أربع طرقٍ، سوى الطريق المشتركة مع البخاريّ.

(1) مسند أحمد (22961) حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا قَالَ كَيْفَ رَأَيْتُمْ صَحَابَةَ صَاحِبِكُمْ قَالَ فَإِمَّا شَكَوْتُهُ أَوْ شَكَاهُ غَيْرِي قَالَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَكُنْتُ رَجُلًا مِكْبَابًا قَالَ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ قَالَ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ).

وهذا حديثٌ إسناده صحيح، وقد صرّح الأعمش بالتحديث!

(2) مسند أحمد (21934) حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنِي أَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى الْآخَرِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ إِذَا الْتَقَيْتُمْ فَعَلِيٌّ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ افْتَرَقْتُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى جُنْدِهِ قَالَ فَلَقِينَا بَنِي زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَاقْتَتَلْنَا فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ فَاصْطَفَى عَلِيٌّ امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ لِنَفْسِهِ قَالَ بُرَيْدَةُ فَكَتَبَ مَعِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعْتُ الْكِتَابَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ بَعَثْتَنِي مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرْتَنِي أَنْ أُطِيعَهُ فَفَعَلْتُ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقَعْ فِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي وَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي.

وهذا إسناد صحيح بغيره، أجلح الكنديّ وإن قال بعضهم فيه: صدوق، إلّا أنّه ضبط حديثَه تماماً، كما ضبطه الثقات!

(3) مسند أحمد (23028) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ وَهُمْ يَتَنَاوَلُونَ مِنْ عَلِيٍّ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نَفْسِي عَلَى عَلِيٍّ شَيْءٌ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ كَذَلِكَ فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ عَلَيْهَا عَلِيٌّ وَأَصَبْنَا سَبْيًا قَالَ فَأَخَذَ عَلِيٌّ جَارِيَةً مِنْ الْخُمُسِ لِنَفْسِهِ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ دُونَكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ بِمَا كَانَ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ عَلِيًّا أَخَذَ جَارِيَةً مِنْ الْخُمُسِ قَالَ وَكُنْتُ رَجُلًا مِكْبَابًا قَالَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَغَيَّرَ فَقَالَ (مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ؛ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ).

وهذا إسناد صحيح، وقد صرح الأعمش بالتحديث!

(4) مسند أحمد (23057) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ) وهذا الإسناد هو السابق، ويبدو أنّ وكيعاً اختصره.

وليست هذه الطرقُ جميع رواياتِ حديث بريدة، إنما هي طرق روايةٍ واحدة فحسب، وسيأتي في تخريجي حديثَ بريدةَ أنّه حديثٌ مشهورٌ عنه!

وقد كان مسندُ أحمدَ بين يدي البخاريّ، وأحمدُ شيخُه، وهذه رواياتٌ أقوى من كثيرٍ من بعض رواياتِ البخاريّ في صحيحه.

فيكون البخاريّ تعمّد إهمالَ تخريج بعض هذه الرواياتِ، لما يعلم من دلالتها على ما لا يرغب بتقريره!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 2 مايو 2024

          مَسائل حديثية (98):

كيف يخرّجُ البُخاريُّ ومسلمٌ عن كذّابين؟

إسماعيلُ ابن أبي أويسٍ نموذجاً!!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ من بعضِ أولئك الذين يَدْعون الناسَ إلى الاقتصار في أمور الدينِ على القرآن الكريم وحسب؛ قال: كيف آمَن البخاريَّ ومسلماً على الدِين، وهما يَرويان عن كذّابين ووضّاعين؟

قلت له: اُذْكُر لي رجُلاً واحداً من أولئك الوضّاعين، حتى أُجيبَكَ إجابةً علميّة؟

قال: إسماعيل ابن أبي أويس، ابن أخت مالك بن أنس، فقد ملأ البخاريّ صحيحَه من رواياتِه، وكذلك أخرج له مسلم - وإنْ كان أقلَّ - وهما سيّدا المحدّثين عندكم!

أقول وبالله التوفيق:

اختيارُ مُحاوري اسمَ ابن أبي أُويسٍ، ضَربَةُ معلّم كما يقولون؛ لأنّ البخاريّ أكثرَ عنه فعلاً، على خلاف ما وهم البخاريّ، فقال: إنّه لم يخرّج عنه إلّا القليل!

وقبل أن أتكلّمَ على مرويّات ابن أبي أويسٍ هذا؛ يحسن أن أنقلَ إليكم منزلَتَه عند علماء الجرح والتعديل، وأبدأ بكتب الضعفاء:

(1) ترجمه العقيلي (ت: 322 هـ) في كتابه الضعفاء الكبير (1: 87) وقال:

«إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ ابنِ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَدِينِيُّ:

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَبُو أُوَيْسٍ «عبدالله» وَابْنُهُ ضَعِيفَانِ.

وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ الدَّقَاقُ - بَصْرِيٌّ - يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: يَسْوَى فَلْسَيْنِ».

وترجم لوالده عبدالله في الضعفاء (2: 270) ونقل تضعيفه عن العلماء.

(2) ترجمه ابنُ عديّ (ت: 365 هـ) في ضعفائه (1: 525) وقال:

«إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيسٍ: واسم أبي أويس: عَبدُاللهِ بن عَبدِاللهِ بن أبي أويس بن أبي عامر الأصبحي، وَهو ابن أختِ مالك بن أنس، مِن أهل المدينة، يُكَنَّى أبا عَبدِاللهِ».

ثمّ نقل أقوال علماء الرجال فيه على النحو الآتي:

- عثمان بن سَعِيد الدارميّ قالَ: قُلتُ ليحيى بن مَعِين: ابن أبي أويسٍ، يعني إسماعيل؟ قَال: لاَ بأس به.

- أحمد بن حنبل يقول: إسماعيلُ ابن أبي أويس: ليس به بأس، وأبوه ضَعِيفُ الْحَدِيثِ.

- يَحْيى بن مَعِين يقول: ابن أبي أويس وأبوه: يسرقان الحديث.

- النضر بن سلمة المروزي يقول: ابن أبي أويس كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل عَبداللهِ بن وهب.

- وقال النسائي: ضعيف.

وساق ابنُ عديّ من طريقه عدداً من الأحاديث عن خاله مالك وغيرِه، وضعّفها، ثم ختم ترجمته بقوله: «هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ عَنْ مَالِكٍ، لا أَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْهُ.

وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ هَذَا؛ رَوَى عَنْ خَالِهِ مَالِكٍ أَحَادِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُتَابِعُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا.

وَروى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ مَعِين وَأَحْمَدُ.

وَالْبُخَارِيُّ، يُحَدِّثُ عَنْهُ الْكَثِيرَ، وَهو خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ أَبِي أُوَيْسٍ».

وترجمه ابن الجوزيّ (ت: 597 هـ) في ضعفائه (395) وقال: «قَالَ يحيى بنُ معين: ابْن أبي أويس وَأَبوهُ يسرقان الحَدِيث، وَأَبوهُ لَا يُسَاوِي نواة:

وَقَالَ النَّضر بن سَلمَة الْمَروزِي: إسماعيلُ  كَذَّاب.

وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف.

وَعَن يحيى بنِ معينٍ رواية أخرى قال: «لَا بَأْس بِهِ».

وترجمه المزيُّ (ت: 743 هـ) في تهذيبه (3: 124) ونقل ما تقدّم من أقوال العلماء، وزاد:

قَال أَبُو بَكْر بْن أَبي خيثمة عَن يحيى بْن مَعِين قال: إسماعيلُ صدوق ضعيف العقل، ليس بذاك، يعني أنه لا يحسن الْحَدِيث، ولا يَعرف أن يُؤديَه، أو يَقرَأ من غيرِ كتابه.

وَقَال إِبْرَاهِيم بْن عَبداللهِ الجنيد عن يحيى بن معين: مُخَلّط، يكذب، ليس بشيءٍ!

وَقَال أَبُو حاتم الرازيّ : محله الصدق، وكَانَ مُغفّلاً!

ورمز المزيّ إلى أنّ الأئمة الستة (خ م د ت ق) أخرجوا له، سوى النسائيّ!

وترجمه الذهبيّ (ت: 748 هـ) في ميزان الاعتدال (811) ونقل أقوال المتقدّمين السابقة، وزاد: «استوفيت أخباره في تاريخ الإسلام» (5: 534) وهناك زاد:

قال الدَّارَقُطْنيّ: ليس أختاره في الصّحيح.

قال الفضل بن زياد: سَمِعْتُ أحمد بن حنبل وقيل له: مَن بالمدينة اليوم؟ قال: ابن أبي أويس؛ هو عالم كثير العِلْم، أو نحو هذا.

وقال أحمد بن حنبل مرّة: هو ثقة. قام في أمر المحنة، مقامًا محمودًا.

وقال البَرْقَانيّ: قلت للدَّارَقُطْنيّ: لِم ضعّف النَّسائيّ إسماعيل بن أبي أُوَيْس؟ فقال: ذكر محمد بن موسى الهاشميّ، وهو إمام كان النَّسائيّ يخصّه بما لم يخصّ به ولده، فقال: حكى لي النَّسائيّ أنّه حكى له سَلَمَةُ بن شَبِيب عنه، قال: ثمّ توقف أبو عبد الرحمن النَّسائيّ، فما زلت أداريه أن يحكي لي الحكاية، حَتّى قال: قال لي سَلَمَةُ: سَمِعْتُ إسماعيل بن أبي أُوَيْس يقول: ربّما كنت أضع الحديث لأهل المدينةِ، إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، فقلت للدَّارَقُطْنيّ: من حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ فقال: الوزير، يعني ابن حنزابة، وكتبتها من كتابه.

وختم الذهبيّ ترجمته بقوله: «قلت: استقرّ الأمرُ على توثيقه وتجنُّب ما يُنكر له».

وترجمه الذهبيّ في النبلاء (10: 391) وقال: « الإِمَامُ الحَافِظُ الصَّدُوْقُ».

ونقل الأقوال السابقة وقال: «الرَّجُلُ قَدْ وَثَبَ إِلَى ذَاكَ البِرِّ، وَاعتَمَدَهُ صَاحِبَا الصَّحِيْحَيْنِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ صَاحِبُ أَفرَادٍ وَمَنَاكِيْرَ تَنْغَمِرُ فِي سَعَةِ مَا رَوَى؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عَبْدِاللهِ كَاتِبِ اللَّيْثِ!

وَكَانَ عَالِمَ أَهْلِ المَدِيْنَةِ، وَمُحَدِّثَهُم فِي زَمَانِهِ، عَلَى نَقْصٍ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِه، وَلَوْلاَ أَنَّ الشَّيخَينِ احْتَجَّا بِهِ؛ لَزُحْزِحَ حَدِيْثُهُ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيْحِ إِلَى دَرَجَةِ الحَسَنِ، هَذَا الَّذِي عِنْدِي فِيْهِ».

وأختم ترجمتَه بقولِ من تعامل مع أحاديثِه الكثيرة عند البخاري تطبيقيّاً فيه.

قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) في هدي الساري (2: 357): «احْتجّ بِهِ الشَّيْخَانِ (خ م) إِلَّا أَنَّهُمَا لم يكثرا من تَخْرِيج حَدِيثه، وَلَا أخرج لَهُ البُخَارِيّ مِمَّا تفرد بِهِ سوى حديثين.

وَأما مُسلم فَأخْرج لَهُ أقلَّ مِمَّا أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وروى لَهُ الْبَاقُونَ سوى النَّسَائِيِّ، فَإِنَّهُ أطلق القَوْل بضعفه، وروى عَن سَلمَة بن شبيب مَا يُوجب طرح رِوَايَته.

وروينا فِي مَنَاقِب البُخَارِيّ بِسَنَد صَحِيح أَن إِسْمَاعِيل أخرج لِلبخاريِّ أُصُوله وَأذن لَهُ أَن ينتقي مِنْهَا، وَأَن يُعلِّم لَهُ على مَا يحدث بِهِ ليحُدّث بِهِ، ويُعرِض عَمَّا سواهُ!

وَهُوَ مُشْعر بِأَنّ مَا أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ؛ هُوَ من صَحِيح حَدِيثه؛ لِأَنَّهُ كَتَبَه من أُصُوله.

وعَلى هَذَا؛ لَا يُحْتَج بِشَيْء من حَدِيثه، غيرَ مَا فِي الصَّحِيح؛ من أجل مَا قدح فِيهِ النَّسَائِيّ وَغَيرُه، إِلَّا إنْ شَاركهُ فِيهِ غَيره، فَيعْتَبر بِهِ».

وقال في التقريب (460): «صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه».

قال الفقير عداب: حرصتُ في نقل ترجمته على التتبّع التاريخي، ولم أرتّب أقوال العلماء على طرفي التعديلِ والتجريح.

وخلاصةُ حال هذا الراوي:

أنّه مقرئٌ، وإنْ لم يتصدّر للإقراء كثيراً.

أنّه فقيه من فقهاء عصره في المدينة.

أنّه حافظ، في حفظه لين.

أنّ بعضَ العلماء بالغَ في الحطّ عليه، فاتّهمه بوضع الحديثِ بإقراره، ثمّ تاب من ذلك!

اختلف فيه قول  يحيى معين، فقال: لا بأس به حيناً، وضعّفه أحياناً!

وقوّى أمره الإمام أحمد، ووصفه بالعلم والثبات!

ويرى الذهبيّ حديثَه في مرتبة الحسن، إلّا ما حكم العلماء بنكارتِه وضعفه!

وفي الحلقاتِ التالية؛ نرصد الجانب التطبيقيّ لأحاديثه عند مسلمٍ أوّلاً - لقلّة أحاديثِه عنده - ثم عند البخاريّ الذي أخرج عنه رواياتٍ كثيرة!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.