مَسائلُ حَديثيّةٌ (64):
أين ضاعَتْ مَصادرُ صَحيحِ البُخاريّ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحدُ الإخوةِ قال: إذا كان البخاريّ رحمه
الله تعالى قال: «أَخرجتُ هَذَا الكِتَابَ «الجامع الصحيح» مِنْ زُهَاءِ سِتِّ
مائَةِ أَلْفِ حَدِيْثٍ» كما ذكر الذهبيّ في سير أعلام النبلاء (12: 402).
وهو لم يجمع في صحيحه، سوى (7563) حديثاً، بعضها لم
يذكره في كتابه، سوى مرّةٍ واحدةٍ، وبعضها كرّره في صحيحه أكثر من عشرين مرّة، فأين
ذهب (592, 500) وإذا كان البخاريّ انتخب هذه الأحاديث، من مائة ألف حديثٍ صحيح،
فلماذا أعرض عن (500، 92) حديث؟
أفلا نحتاجُها في حياتنا الدينية والاجتماعيّة؟
أرجو توضيح ذلك مع الأمثلة التطبيقيّة، فعقلي لا
يستوعب هذا الكلام أبداً».
أقول وبالله التوفيق:
لا بدّ لكي نفهم هذا الكلام الصعب المستصعَب؛ من
العودةِ إلى طبقة المكثرين من الصحابةِ رضي الله عنهم، لنرى كم رووا من الأحاديث؟
قال الحافظُ العراقيّ في شرحه على ألفيّته في
الحديث (2: 131):
(والذي يدلُّ عليهِ كلامُ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ -
صاحب أضخم مسندٍ في تاريخ الإسلام - أنَّ أكثرهم حديثاً:
- أبو هريرةَ، روى خمسةَ آلافِ حديثٍ وثلاثمائةٍ
وأربعةً وسبعينَ حديثاً.
- ثمَّ عبدالله بنُ عمرَ، روى ألفي حديثٍ وستمائةٍ
وثلاثينَ حديثاً.
- ثمَّ أنسٌ، روى ألفينِ ومائتينِ وستةً وثمانينَ
حديثاً.
- ثمَّ عائشةُ روتْ أَلْفَيْنِ ومائتينِ وعشرةَ
أحاديثَ.
- ثمَّ عبدالله بنُ عباسٍ، روى ألفاً وستمائةٍ
وستينَ حديثاً.
- ثمَّ جابرُ بن عبدالله، روى ألفاً وخمسمائةٍ
وأربعينَ حديثاً.
- ثمّ أبو سعيدٍ الخدريُّ، فإنَّهُ روى ألفاً
ومائةً وسبعينَ حديثاً.
وليسَ في الصحابةِ مَنْ يزيدُ حديثهُ على ألفِ
حديثٍ، إلّا هؤلاءِ».
فمجموع روايات هؤلاء الصحابةِ المكثرين، في مسند
بَقيّ بن مَخلَد القرطبيّ (16870) حديثاً.
وجميع أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم،
بعدَ هؤلاء؛ لم يرووا بقدْرِ ما روى أبو هريرة وحده!
ومما تحسن الإشارةُ إليه؛ أنْ ليس لدينا عن المرحلة
المكيّة بطولها (100) حديثٍ صحيح، والأحاديث التي بين أيدينا؛ هي أحاديث المرحلة
المدنيّة،وهي عشر سنين!
فلو افترضنا أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم،
حدّث بحديثٍ واحدٍ كلَّ يوم؛ فيكون مجموع ما حدّث به في عشر سنين (3650) حديثاً.
ولو افترضنا أنّه كان يحدّث بحديثين في كلّ يومٍ؛
فيكون مجموع ما حدّث به (7000) حديث، ولو حدّث بثلاثة أحاديث في اليوم؛ فهي عشرة
آلاف حديث!
مستذكرين مع هذه التقديرات الافتراضيّة كلّها؛ حديثَ
أمّ المؤمنين عائشة، إذ عابت على أبي هريرة سردَه الكثير للحديث، بقولها: (لم يكن
رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، يسرُدُ الحديث كسردكم... كَانَ يُحَدِّثُ
حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ العَادُّ؛ لَأَحْصَاهُ) أخرجه البخاريّ (3567، 3578) ومسلم
(2493).
وإنما كان يفعل الرسول ذلك؛ ليفهم عنه الناس، الذين
سمّاهم الله تعالى (أميين)!
فمن أين ستأتي (مائة ألف حديث - مائتا ألف حديث -
ستمائة ألف حديث)؟
أليس لنا عقولٌ أيها الناس؟
ولو أننا ذهبنا إلى موسوعة الكتب التسعة، التي لم
تحوي خُمُسَ أحاديث مسند بقيّ؛ لوجدنا أرقاماً مختلفةً عن هذه الأرقام تماماً:
- فقد أخرج أصحاب الكتب التسعة لأبي هريرة (8740)
حديثاً.
- وأخرجوا لعبدالله بن عمر بن الخطّاب (5603)
أحاديث.
- وأخرجوا لأنس بن مالك (4964) حديثاً.
- وأخرجوا
لعائشة (5965) حديثاً.
- وأخرجوا لعبدالله بن العبّاس (4848) حديثاً.
- وأخرجوا لجابر بن عبدالله (3025) حديثاً.
- وأخرجوا لأبي سعيدٍ الخدريّ (2066) حديثاً.
مجموع روايات هؤلاء الصحابة أنفسهم في موسوعة الكتب
التسعة (35211) حديثاً، وهي أحاديث مكرّرة من جهة، ومتوافق بعضها مع بعضٍ من جهة
أخرى!
فهل تَوالدَتْ هذه الأحاديثُ، أو وَضَعَها رواةُ
الحديثِ فيما بعد؟
كلّا وألف كلّا، لا هذا ولا ذاك، لكنْ اصبر وانتبه
إليّ جيّداً.
- تمثيلٌ بحديثٍ واحدٍ لأبي هريرة:
أخرج البخاري في صحيحه (176) حديث أبي هريرةَ، مرفوعاً:
(لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ؛ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ
الصَّلَاةَ).
هذا الحديث الواحد؛ أخرجه البخاريّ في ستةِ مواضع
أخرى من جامعه الصحيح (445، 447، 647، 659، 2119، 3229).
هذا الحديث الواحد؛ هو سبعةُ أحاديث في تسلسل أرقام
صحيح البخاريّ.
هذا الحديث نفسه (176) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه
برقم (649) من طريقين أيضاً.
وأخرجه مالك في الموطأ من طريقين (243، 385).
وأخرجه أحمد في مسنده، من ستّة طرق (7296، 8756،
9005، 9084، 10413، 22675).
وأخرجه الدارميّ في سننه (1276).
وأخرجه ابن ماجه في سننه من طريقين (786، 787).
وأخرجه أبو داود في سننه، من طريقين (471، 1046).
وأخرجه الترمذيّ في جامعه (491).
وأخرجه النسائيّ في المجتبى (1430).
فالحديث (176) الذي أخرجه البخاريّ؛ مجموع رواياته
في الكتب التسعة (24) روايةً، هي في عدّ المحدّثين (24) حديثاً!؟
وقد تقول: ما الفائدةُ التي تعود على القارئ
الكريم، من تكرار الحديثِ الواحد (7) مرات، أو (25) مرّة، ولماذا يشغلون القارئَ
ويتعبونه هكذا؟
أقول: أوّلُ وأكبر أهدافِ المحدّثين من التكرارِ؛
جمعُ طرق الحديثِ، بهدف إزالةِ الغرابةِ عنه؛ لأنّ الغرابةَ بحدّ ذاتها علّةٌ، وإن
كان كثيرون لا يرونها قادحةً!
فانظر إلى حديث أبي هريرة هذا، عند أحمد مثلاً:
في الحديث (7296) أخرجه من طريق محمد بن سيرين عن
أبي هريرة.
وفي الحديث (8756) أخرجه من طريق الوليد بن رباح عن
أبي هريرة.
وفي الحديث (9005، 10413) أخرجه من طريق نفيع بن
رافع عن أبي هريرة.
وفي الحديث (9084) أخرجه من حديث عبدالرحمن بن هرمز
الأعرج عن أبي هريرة.
وفي الحديث (22675) أخرجه من حديث أبي سلمة بن
عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة.
وبتخريج الحديثِ من هذه الطرق كلّها؛ غدا هذا
الحديثُ من مشاهير أحاديثِ أبي هريرة وصحاحها.
ثمّ إنّ لكلّ مصنّف من المصنّفين أسبابَه الخاصّةَ
به:
- فالبخاريّ عندما يكرّر الحديثَ أكثرَ من مرّة؛
يستفيد منه في استنباط الفقه، وقد يستفيد منه في توضيح علل الحديث، واختلاف
العلماء في رفعه ووقفه، أو وصله وإرساله.
- والإمام مسلم يستفيد من تكرار روايات الحديث،
بعضها إثر بعض؛ لتوضيح علل الحديث، والتنبيه على اختلاف ألفاظه؛ لأنّه كان يؤكّد
على نقل متن الحديث بألفاظه ما استطاع.
- وظهر لك صنيعُ الإمامِ أحمدَ بتكرارِ الحديثِ.
وقس بقيةَ النقّاد على ما تقدّم.
وهناك مسألةٌ أخرى تفسّر ضخامةَ هذه الأعداد
الهائلة من الروايات المكررة، وبيانها على النحو الآتي:
مصادر صحيح البخاريّ شملت جميعَ أو أكثر المصنّفات
التي سبقه أصحابها في تصنيف الكتب، وهم أكثر من (50) مصنّفاً بيقين!
وأنا سأمثّل بثلاثة مصنّفين، لا يختلف اثنان على
رجوع الإمام البخاريّ إلى مصنفاتهم، واختياره من أحاديثها.
- الإمام عبدالرزاق الصنعاني، له كتب كثيرةٌ، وصلنا
منها:
(1)الكتاب المصنّف، وعدد أحاديثه ورواياته (19418)
روايةً.
(2) تفسير القرآن العظيم، وعدد أحاديثه ورواياته (3755)
روايةً.
(3) الأمالي في آثار الصحابة، وعدد أحاديثه
ورواياته (201) روايةً.
- الإمام أبو بكر ابن أبي شيبة، له كتب كثيرة، مما
وصلنا منها:
(1) الكتاب المصنف، وعدد أحاديثه ورواياته (37943)
روايةً.
(2) المسند، وعدد أحاديثه ورواياته (998) روايةً.
(3) الأدب، وعدد أحاديثه ورواياته (421) روايةً.
(4) الإيمان، وعدد أحاديثه ورواياته (139) روايةً.
- الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، له كتب كثيرة،
أقتصر على المسند منها، اختصاراً للوقت، وقد جمع الإمام أحمد في مسنده (27647)
روايةً مكرّرةً.
فمصادر ثلاثةٍ ممن رجع البخاري إليهم؛ حوت تسعين
ألف رواية (500، 90) روايةً.
ختاماً: غدا واضحاً تفسيرُ تلك الأعداد المهولةِ
التي يذكرونها، إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق