أفراد الإمام البخاريّ (5):
النَهيُ عن رفعِ الصوتِ في المسجِدِ !؟
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في الصلاة، بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ في الْمَسَاجِدِ (470) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا عَليُّ بْنُ
عَبْدِاللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْجُعَيْدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَني يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنِ
السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِماً في الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَني
رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِني
بِهذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا.
قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ -
أَوْ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ - قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ!
قَالَ عُمَر: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ؛
لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا في مَسْجِدِ رَسُولِ الله e» !؟([1]).
مَدارُ حديثِ عمر رضي الله
عنه في البابِ على يحيى بن سعيد القطان، رواه عنه:
عبيدالله بن عمر الجُشَمي عند
البيهقي (20052).
وعلي بن عبدالله المديني عند
البخاري (470) والبيهقي (4143).
وقد أخرج الحديثَ الزبيرُ بن
بكّار في كتاب «المدينة» من حديث عبدالعزيز بن محمّد الدراورديّ عن الجعيد بن
عبدالرحمن، والمفترضُ أن نرفع المدار إلى الجعيد!
بيد أنّ في الإسناد محمد بن
الحسن بن زبالَة، اتُّهم بالكذب ووضع الحديث، فلا قيمةَ لروايته، وانظر في ترجمته
الكامل لابن عديّ (7: 372) وتقريب التهذيب (5815).
والجعيد بن عبدالرحمن - واسمه
جعد - ثقة، كما في تقريب التهذيب (925).
ويزيد بن عبدالله بن خُصَيفة
الكندي، المدني، وقد ينسب إلى جَدّه.
لم يترجمه الذهبي في الميزان،
ولخّص حاله في الكاشف (6326) فقال: «ثقة ناسكٌ،
وأمّا أحمد فقال: منكر الحديث».
وترجمه ابن حجر في تهذيبه
(9022) ونقل توثيق جماعة من النقاد له، منهم: ابن معين وابن سعد، وقولَ أحمد: منكر
الحديث. ولخّص حاله في التقريب (7738) فقال: «ثقة».
وقال ابن حجر في الهدي (ص:
453): «هذه اللفظة (منكر الحديث) يطلقها أحمد على من يُغرب على أقرانه بالحديث،
عُرف ذلك بالاستقراء من حاله، وقد احتجّ بابن خُصيفة مالكٌ والأئمة كلُّهم».
قال عداب: هذا الكلام ليس على
إطلاقه، لكن يزيدَ ثقةٌ هنا ؛ لأنّ الأثرم روى عن أحمد أنه قال في يزيد ابن خصيفة:
ثقة، وانظر ترجمته في تهذيب الكمال (33: 172).
الحكم على إسناد الأثر:
أثر عمر في الباب؛ لم يروه عنه
سوى السائب بن يزيد، ولم يروه عن السائب، سوى
يَزِيدَ بْنِ عبداللهِ بنِ خُصَيْفَةَ، ولا عنه سوى الْجُعَيْدِ بنِ
عَبْدِالرَّحْمَنِ، تفرّد به عنه يحيى القطّان.
فالأثر فردٌ مطلق صحيح غريب، حسب تعريف الحديث الصحيح عند المحدّثين.
(هو الحديثُ الذي يرويه عدلٌ
ضابط عن مثله، من أوّل السند إلى منتهاه) وأوّل السند هو المدار.
لكنني لا أصحح إسناداً فرداً مطلقاً في أربعِ
طبقاتٍ، إنما هو إسناد حسن غريب!
قال ابن حجر في الفتح (2:
403): «وَرَدَتْ
أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، لَكِنَّهَا
ضَعِيفَة أخرج ابن مَاجَهْ بَعْضَهَا» من حديث واثلةَ بن الأسقع أنّ النبيَّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم (750) قال: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ
وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ
أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى
أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ) فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ
أَشَارَ إِلَيْهَا» قال عداب: هذا الحديث من أفراد ابن ماجه عن بقية التسعة، وفي
إسناده عُتبة بن يقظان: ضعيف، والحارث بن نبهان: متروك، وقال ابن رجبٍ في فتح
الباري (3: 397): إسناده ضعيفٌ جدّاً.
وقال في الموضع نفسه أيضاً: «قَوْلُهُ: «بَابُ
رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ» أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي
ذَلِكَ.
- فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مُطْلَقاً، سَوَاءٌ
كَانَ فِي الْعِلْمِ، أَمْ فِي غَيْرِهِ.
- وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِغَرَضٍ دِينِيٍّ، أَوْ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ، وَبَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَسَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ أثَرَ عُمَرَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ هذا، وَحَدِيثَ
كَعْبِ بن مالكٍ (471) أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ
أَبي حَدْرَدٍ دَيْناً كانَ لَهُ عَلَيْهِ، في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ e في الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا([2])
رَسُولُ اللهِ e وَهُوَ في بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ e حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يَا كَعْبُ([3]) بنَ
مَالِكٍ! يا كَعْبُ!) ولم ينههما عن رفعِ أصواتهما.
«إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ يَكونُ فِيمَا
لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَعَدَمِهِ فِيمَا تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ».
وللإمام ابن رجبٍ الحنبليّ في
فتح الباري (3: 398) كلامٌ طيّب في شرح هذا الحديث، فارجع إليه.
واللهُ تَعالى أعلَمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
([1]) من حديث يحيى بن سعيد القطانِ عن الجُعيد بن عبدالرحمن الكِنديّ،
به موقفاً؛ انفرد به البخاري عن بقيّة التسعة، وأخرجه
عبدالرزاق في المصنف (1712) والزبير بن بكار في كتاب المدينة، كما في كتاب إتحاف
الزائر وإطراف المقيم لأبي اليمن ابن عساكر (ص: 113) والبيهقي في السنن الكبير، في
الحيض، باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد، وغير ذلك مما لا يليق بالمسجد (2:
(4346) وفي آداب القاضي، باب ما يستحب للقاضي من أن لا يكون قضاؤه في المسجد (10: (20052)
وانظر «التحفة» [10442].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق