بَعيداً عن السياسةِ (31):
ذكرياتي مع الإخوانِ المسلمينَ في سوريّا (2)؟!
بسم اللهِ الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
بَعدما داومتُ على درس الشيخ محمّد الحامد قُرابةَ
سنةٍ؛ غدوتُ معروفاً لدى كثيرين من الإخوان الذين يحضرون درسَه، خاصّةً مَنْ هم في
جيلنا.
دعاني الشيخ غسّان حمدون إلى حضور جلسةٍ خاصّةٍ، في
بيتٍ لا أعرفه حدّده لي، وطلب مني مصاحبةَ أحدِ الإخوة، في الصف الثامن معنا، في
المدرسة ذاتها.
تَردّدتُ كثيراً في مصاحبة ذاك الأخ، وقلت له:
لماذا لم يجعل الشيخ غسان الجلسة في المسجد؟
أنا لا أستطيعُ الذهابَ معك، ولا دخول بيتٍ غريبٍ،
من دون أخذ إذن والدي، ومن المحالِ أن يأذن والدي، بل من الممكن أن يقتلني إن
غادرت المنزل بعدها!
أصرّ على أن أذهب معه، التزاماً بأمر شيخنا غسّان!
وأصررتُ على رفض الذهاب معه؛ لأنني لم أدخل بيت
إنسانٍ غريب في حياتي!
عقبَ درسِ الشيخ محمد الحامد، وبعدما أدّينا صلاةَ
العشاءِ؛ جلس معي الشيخ غسّان في زاويةٍ من زوايا مسجد السلطان، وحاورني في سبب
عدم حضوري؟
فقلت له: أنا في حياتي ما دخلتُ بيتَ أحدٍ غريبٍ،
كيف أدخل هذا البيتَ الذي تجتمعون فيه، وكيف آمن فيه على نفسي؟
ضحك الشيخ غسّان، وقال: نَحن إخوانُك، وما الذي
تخاف منه، هذا زميلك وقريبك مصطفى؛ حضر الجلسةَ، وعاد سالماً غانماً، لم يحصل له
أدنى مكروه!
ونادى على «مصطفى
عبدالسلام» وسأله عمّا إذا أساء إليه أحدٌ بشيءٍ، فنفى وصار
يضحك، وقال للشيخ غسان: شيخي لا تزعل من الأخ عداب، هو بدويّ، وهكذا هي تربيتُهم!
قال لي الشيخ غسّان: يا أخي، يقول الرسولُ صلّى
الله عليه وآله وسلّم: (إنما الطاعة بالمعروف) ولم أسمع بهذا الحديثِ قبلَ تلك
الساعة!
تابع: نحن نعيش في مجتمع جاهليّ، وأهالينا جميعاً ؛
أجزاءُ من هذا المجتمع!
فإذا أمرونا بمعروفٍ؛ أطعناهم، وإذا أمرونا بمنكر؛
فـ (لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) سواءٌ كان أباً أو
أمّاً أو جدّاً، أو أستاذا!
وقد صحبتنا أنت طيلةَ العام الماضي، فهل رأيتَ
منّا شرّاً أو سوءاً؟
قلت له: لكن دروس العام الماضي كلّها كانت في
الجامع، وليست في البيوت؟
بعد حوارٍ طويلٍ؛ رضيتُ مكرهاً أن أحضرَ جلسات
الشيخ غسان، في بيت أحدِ الإخوة.
ومع مرور الزمان، صار الأمر طبيعيّاً لديّ، ولم
يظهر أمامي شيءٌ، يستدعي الخوف أو الحذر!
في الجلسة الأولى لي، وهي الثانية لزملائيّ في
الأسرة الإخوانيّة؛ قال لنا الشيخ غسان:
أنتم الآن انتقلتم من مرحلة اللقاءاتِ العامّة،
إلى مرحلة اللقاءات الخاصّة، ومجموعتكم هذه؛ هي مجموعة إخوانيّة، وعليكم أن
تبايعوا، فردّدوا معي:
«أعاهد الله العظيم، وأعاهد قيادةَ جماعة
الإخوان المسلمين؛ على التمسّك بأحكام الإسلام الحنيف، وعلى الجهاد في سبيله.
وأعاهدكم على السمع والطاعةِ في المنشط والمكره،
في غير ما معصية، ما استطعت.
والله على ما أقول وكيل» بزيادة بعض الكلمات أو
نقصانها، فهذا ما أحفظه.
كان «آل كنعان» من أنصار الأستاذ السيّد أكرم
الحوراني الرفاعيّ، وكان أهلي «آل الحمش» من آل كنعان، يبغضونَ الإقطاعَ بغضَ
الكفر، ويبغضون الإخوانَ المسلمين؛ لأنهم تحالفوا مع الإقطاع، وهم يطمحون إلى
الحكم!
وأهل الدين يجب أن لا يلوّثوا أنفسهم بأوساخ
السياسة، فلو كان الإخوان من أهل الدين؛ لما اقتربوا من أوحال السياسة!
فلو أنا قلت لوالدي: إنني الآن من الإخوان
المسلمين، وأصررت على ذلك؛ فلا أستبعد أبداً أن يقتلني؛ لأنّ الإخوان المسلمين -
في نظره - كذّابون دجّالون، اغتالوا عدداً من السياسيين المسلمين، وحاولوا اغتيال
الزعيم جمال عبدالناصر، فهم قتلةٌ مجرمون، يتظاهرون بالدين؛ ليقدّموا أتباعهم
الأغرار قرابين، من أجل الوصولِ إلى الحكم!
كان من حسن حظيّ أنّ والدي لا يحسن القراءةَ
ولا الكتابةَ، فإذا أحضرت كتاباً من كتب الإخوان لأقرأه؛ يظنّه من كتبي المدرسيّة،
فلا يَعرف عن كتبي وقراءاتي شيئاً!
كان الإخوان المسلمون حريصين على اختيار
الأذكياءِ من شباب المرحلة المتوسّطة، وإذا استجاب إليهم واحدٌ من أبناء العائلات
الكبيرة؛ يعدّونه انتصاراً كبيراً، وخَرقاً لجدار تلك الأسرةِ الجاهليّة المتنفّذة،
وجميع أهالينا جاهليّون (وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم).
كان الإخوان يزرعون في قلوبنا أننا جماعةُ
الحقّ، وأنّ الإخوان المسلمين؛ هم الممثّلون الحقيقيون للإسلام السنيّ الصحيح،
وعلى جميع الجماعات الإسلامية الأخرى أن تراجع أنفسنا وتنضمّ إلى الإخوان المسلمين!
وحتى يكون فكرنا واحداً أو متقارباً؛ فقد أمرنا
شيخنا غسان أن ينتقل من المذهب الشافعيّ إلى المذهب الحنفيّ، مَن كان منّا
شافعيّاً، إذ هناك فوراق واختلافات بين المذهبين، فستنتقل الخلافات إلى داخل جماعة
الإخوان، فيضعفها، وهذا في نظر عدابٍ حقٌّ.
كان الإخوان المسلمون حريصين على تعليمنا
المبادئ الإسلامية التي تتناسب مع إمكاناتنا العقلية، في الجوانب العقدية والفكرية
والسياسية.
كما كانوا أكثر حرصاً على تعليمنا التلاوةَ
والتجويد، وغريب ألفاظ القرآن.
وكانوا يشجعوننا على حفظِ القرآن الكريم، وحفظ
الأربعين النووية، التي حفظناها كلّنا في الصفّ الثامن.
كما كانوا حريصين جدّاً على حضورنا جلسات
التقوية التي كانوا يعقدونها في المواد الدراسيّة الصعبة، أو الموادّ المهمّة،
ويكلّفون لتعليمنا هذه الموادّ أبرز أساتذة الإخوان المتخصصين فيها!
وكانوا حريصين على تكميل شخصياتنا ومواهبنا،
وتنمية مهاراتنا، وتهذيب هواياتنا.
استمرت حالنا مع شيخنا غسّان في لمجالس
الإخوانية الخاصّة، وفي دروس الشيخ محمد الحامد، حتى بدايةِ العام الدراسيّ الجديد
(1963 - 1964) وقد كنّا في الصفّ التاسع.
عقب صلاة العشاء، في يومٍ من أيّام الشهر
العاشر (1963) تحلّق مجموعةٌ من الشباب عن يمين المنبر، حولَ رجلٍ طويل القامةِ،
أشقرَ اللحيةِ، إلى الحمرة أقرب، وكان يحدّثهم، وهم يستمعون إليه بشغف واهتمام!
اقتربت منه، وأصغيت إليه، فمدّ إليّ يده
وصافحني، وقال: ما اسمك أنت يا أخي الكريم؟
قلت له: أخوكم في الله عداب محمود الحمش!
قال وهو يبتسم: لا يليق أن يكون اسمك عذاباً،
بل أنت رحمةٌ للمؤمنين وعذاب على الكافرين، إن شاء الله تعالى!
لم يعجبني اعتراضُه هذا، ورردته إلى جهله
بالعربيةِ، بعد أن علمتُ بأنه مهندس زراعيّ!
ثمّ لم أرَه بعد هذه المرّة - في غالب ظني -
حتى شهر شباط، من شهور عام (1964).
استمرّ شيخنا غسّان بتوجيهنا وتعليمنا وتربيتنا
في الصفّ التاسع أيضاً، وكانت الرتابةُ هي السائدةَ على جلساتنا الإخوانيّة!
- يتفقّد شيخنا غسّان كلَّ واحدٍ منّا، فيسأله
عن ظروفه وصحّته ووضع أسرته.
- ويسأله عن مداومته على حضور درس الشيخ محمد،
وعن أسباب تغيّبه إن وُجد.
- ويسأله عن وضعه الماديّ، إن كان يحتاج إلى
ثمن كتابٍ، أو ثمن ثوبٍ، أو ما شابه.
لم يحصل أنّ أحداً من مجموعتنا طلبَ مساعدةً من
موجّهنا غسان، أو من غيره.
إنما كنّا نساهم بدفع اشتراكٍ أسبوعيّ، كأنه
كان ربعَ ليرةٍ سوريّة!
وللأخ الذي حاورني وقال: اذكر لي بعضَ الأمور
التي أفادك بها الإخوان المسلمون؛ أقول:
أنا الفقير شخصيّاً لم أستفد من الإخوان
المسلمين في تلاوة القرآن وحفظه وغريبه شيئاً يذكر، ولم أستفد من الحلقات
الإخوانيّة زيادةَ فقه، فقد كان لي منذ الصف الرابع شيخ في الفقه، وكان لي منذ
الرابعة أو الخامسة من عمري شيخ في تعليم وتحفيظ القرآن العظيم.
كنتُ طفلاً غِرّاً أعرابيّاً، لا أعرف من
الحياة شيئاً، ولا أعرف عن الاجتماع إلّا ما تعلمته في مضافة جدّي، وحتى الرابعة
عشرة من عمري؛ لم أزُرْ صديقاً في بيته، ولم يزرني صديقٌ في بيتي، فقد كانت بيئتنا
منغلقةً تماماً.
علّمني الإخوان المسلمون حضورَ دروسِ العلم في
المساجد، ومزاحمةَ الأقران.
علمني الإخوان المسلمون حضورَ مجالس الذِكْر،
وتمايز بعضها عن بعض.
علّمني الإخوان المسلمون التعايشَ مع المجتمع،
وعلّموني أنّ الحوارَ هو المطلوب في الحياة، وليس البطش!
علّمني الإخوان المسلمون معنى أخوّة الإسلام،
فأنا لم أكن أعرف سوى (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)!
علّمني الإخوان المسلمون كيف يحضّر الطالب
دروسَه، وكيف يقوّي إمكاناته ومهاراته!
علّمني الإخوان المسلمون حسنَ الظنِّ بالآخرين،
فقد تربينا في بيئتنا البدوية المنغلقة تماماً على الشكِّ وسوء الظنّ بكلِّ أحدٍ
لا نعرفه!
ذات مرّةٍ وضع شيخي غسّان كفّه على رأسي
وحرّكها، فأزلتها عن رأسي بعنفٍ، وقلت بغضب: لا تلمس رأسي مرّةً ثانيةً أبداً!
علّمني الإخوان المسلمون الكرمَ والإيثارَ والتقوى
والورع والمواظبة على النوافل، وكثرة صيام النافلة والمناسبات، وسائر الآداب
الاجتماعيّة التي ما زلت أسير عليها في حياتي.
ولولا الإخوان المسلمون؛ لكنت رجلاً قاسياً
عنيفاً موغلاً في أعرابيتي، مثلَ والدي، وربما أقسى وأشدّ!
علّمني الإخوان المسلمون أنّ الإسلامَ لا يقتصر
على العباداتِ، إنّما هو نظم حياةٍ شاملةٍ، العبادات نظام واحدٌ منها.
باختصارٍ شديدٍ: ربما كانت إفادةُ غيري من
الإخوانِ المسلمين أقلَّ من إفادتي، ربما!
لكنّ إفادتي أنا من الإخوان؛ لا تنحصر في جانبٍ
أو جوانبَ من حياتي وسلوكي، إنما تعلمت الحياةَ كلّها من الإخوان المسلمين.
منذ ولادتي، وإلى أن تزوّجتُ، في خريف عام
(1972م) كنت أعيش مع والديَّ وأخويّ وأخواتي في غرفة واحدةٍ، ولم يكن في بيتنا
كهرباء، ولم يكن في بيتنا مطبخ، ولم يكن في بيتنا حمّام للاستحمام، ولم يكن في
منزلنا سوى مرحاضٍ واحدٍ، عند باب الدار، ونحن عشرون نفساً في الدار!
مع أنّ والدي كان يملك ما يشتري به عشرَ
عماراتٍ، بيقينٍ، وليس عشرَ شققٍ مثلاً.
هذا يعني أنني لا أعرف المذياعَ ولا المسجّل
ولا التلفاز، ولا طبّاخ الغاز، ولا الثلّاجة، ولا أعرف كيف أتعامل معها.
فلولا صلتي بالإخوان المسلمين؛ لاقتصرت معرفتي
على عشرين نفساً، الذين كانوا معي في هذه الدار الواسعة، وعلى حصاني وحمارين
وبغلين وثورين وبقرتين وعددٍ من الغنماتِ والعنزات، كنّ يشاركننا مسكننا هذا!
فأنا شخصيّاً - وإن لم أكن ملتزماً مع الإخوانِ
المسلمين، وإن كنت أنتقد قيادات الإخوان المسلمين، ونرجسيّة الإخوان المسلمين،
وعنصريتهم - لكنّني مدين لهم بكلّ شيءٍ حسَنٍ لديّ تقريباً!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى اللهُ على
سيّدنا محمّد بن عبداللهِ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كل حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق