مَسائلُ حديثيّةٌ (14):
الحديثُ الذي لم يخرّجْه أحمدُ؛ أهو ضعيف!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحد الإخوة قال: ما قولكم فيما نقله أبو موسى
المديني عن الإمام أحمد أنّه قال: «إذا لم يكن الحديثُ في مسنده؛ فليس بحديث
صحيح»؟!
أقول وبالله التوفيق:
قال أبو موسى المديني (ت: 581 هـ) في خصائص المسند
(ص: 13): قال شيخنا الحافظ «أبو القاسم إسماعيل بن محمد»
رحمه الله تعالى: هذا الكتاب «مسند أحمد» أصل كبير
ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتُقِي من حديثٍ كثيرٍ، ومَسموعاتٍ وافرةٍ، فجعله
إماماً ومعتمداً، وعند التنازع مَلجأً ومُستنداً.
على ما أخبرنا والدي وغيره رحمهما الله تعالى أنّ
المبارك بن عبد الجبار أبا الحسين كتب إليهما من بغداد قال: أخبرنا أبو إسحاق
إبراهيم بن عمر بن أحمد ابن إبراهيم البرمكي قراءةً عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر
بن محمد بن رجاء قال: حدثنا موسى بن حمدون البَزّار قال: قال لنا حَنبل بن إسحاقَ:
جمعنا عَمّي «الإمام أحمد» لي ولصالح ولعبد اللهِ،
وقرأ علينا المسندَ، وما سمعه منه - يعني تامّاً - غيرُنا.
وقال لنا: إنّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من
أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً!
فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ فارجعوا إليه، فإن كان فيه، وإلّا فليس بحجّةٍ».
وقد نقل هذا القولَ عن أحمدَ كثيرٌ من العلماء،
منهم ابن الجوزيّ في تلقيح فهوم الأثر (ص: 262) وشرف الدين الطِيبيّ في الخلاصة
(ص: 33) والزركشيّ في نكته على ابن الصلاح (1: 351) وابن حجر في النكت على ابن
الصلاح (1: 448) وغيرهم.
أورد الذهبيُّ هذا الخبر في النبلاء (11: 330) ثم
قال: «في الصحيحين
أحاديث قليلة ليست في المسند... ثم ما يَلزم مِن هذا
القول؛ أنّ ما وُجد فيه؛ يكون حجة، وفيه جملة من الأحاديث الضعيفةِ، مما يسوغ نقلُها،
ولا يجبُ الاحتجاجُ بها.
وفيه أحاديث معدودةٌ، شبهُ موضوعةٍ، ولكنها قطرة في
بحر، وفي غضون المسند زيادات جمة لعبد الله بن أحمد».
قال الفقير عداب:
تكلّمت مرّاتٍ متعدّدة على مسألةِ المبالغاتِ في
المرويات الحديثيّة (مائة ألف، مائتا ألف، ستُّ مائة ألف، سبع مائة ألف) فلا حاجةَ
بنا إلى إعادة ذلك، إذ هو كلامٌ تافهٌ وخيالٌ مريض، فمجموع الأحاديث الصحيحة
والحسنة؛ لا تصل إلى ستّة آلافِ حديثٍ، كما يقول الإمام الذهبيّ، وأنا الفقير
أقول: الأحاديث الصحيحة والحسنة؛ لا تصل إلى أربعةِ آلافِ حديثٍ بحالٍ!
والكلام المتقدّم؛ يقودنا إلى مسألتين:
الأولى: قولُ الإمام أحمد: «ارجعوا إلى
المسند، فإن كان الحديثُ فيه، وإلّا فليس بحجّةٍ» هل يُفهم منه
أنّ جميع أحاديث المسند صحيحة؟
والثانية: هل الأحاديث المرويّة عند المصنّفين
الآخرين، ممن اشترط الصحّة أو لم يشترطها؛ تكون ضعيفة «ليست
بحجّة»؟!
- ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمامَ أحمد لا يقصِدُ
أنّ جميعَ أحاديث مسنده صحيحةٌ، إذ ضعّف عدداً كبيراً من أحاديث مسنده، وضعّف
عدداً أكبر من الرواةِ، وأخرج لهم في مسنده، وقد أوضحت ذلك بأدلّته في منشورٍ
سابق!
ولتقريب ذلك إليك؛ يكفي أن تعلم بأنّ الشيخ
شعيباً الأرناؤوط أطلق جملةَ «إسناده ضعيف» على (3372) حديثاً، من أحاديث المسند!
وأمّا الثانية: فنحن ليس بين أيدينا إحصائيّةٌ
ضعّف فيها الإمامُ أحمد جميعَ الأحاديثِ التي لم يودعها في مسنده الكبير، الذي حوى
(27647) حديثاً، حسب طبعة دار الرسالة (45: 613).
وتوضيح ذلك على النحو الآتي:
- أخرج الإمام مالك (ت: 179 هـ) في موطئه قرابةَ
ألفٍ من الأحاديثَ والآثار التي لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
من أوائلها: (6، 7، 8، 9، 12).
ومن أواخرها: (1869، 1873، 1876، 1882، 1887).
- وأخرج الإمام الدارميّ (ت: 255 هـ) أكثر من
ألفٍ وخمس مائة حديث،ٍ لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
من أوائلها: (2، 3، 4، 5، 6).
ومن أواخرها: (3493، 3494، 3495، 3496، 3502).
- وأخرج الإمام البخاري (ت: 256 هـ) أكثرَ من
ثلاث مائة حديثٍ، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
من أوائلها: (120، 127، 439، 442، 470).
ومن أواخرها: (7362، 7363، 7470، 7522، 7523).
- وأخرج الإمام مسلمٌ (ت: 261 هـ) أكثرَ من
مائتي حديثٍ، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
من أوائلها: (31، 73، 97، 117، 133).
ومن أواخرها: (3022، 3024، 3027، 3028، 3029).
- وأخرج الإمام محمد بن يزيد بن ماجه (ت: 273
هـ) أكثر من ألف حديثٍ، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
- وأخرج الإمام أبو داود السجستانيّ (ت: 275
هـ) أكثر من ألف حديثٍ لم يخرّجها شيخُه الإمام أحمد في مسنده!
- وأخرج الإمام الترمذيّ (ت: 279 هـ) أكثر من
ستّ مائة حديثٍ، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
- - وأخرج الإمام النسائيّ (ت: 303 هـ) أكثر من
ستّ مائة حديثٍ، لم يخرّجها الإمام أحمد في مسنده!
فهذه الأحاديثُ تزيد أعدادها على خمسةِ آلاف
حديثٍ، هل يُعقل أن تكون كلّها ضعيفةً ليست بحجّة؟
إذا اعتقدنا بصحّة كلام الإمام أحمد هذا؛
فعلينا - من دون دراسةٍ - أن نضعّف قرابةَ ستّ مائة حديث، أخرجها البخاريّ ومسلم
في صحيحيهما، ولا أظنّ عاقلاً من المسلمين يسلّم بذلك!
خِتاماً: كلام العلماء المتقدّمين؛ ليس دقيقاً
دِقّةَ المصطلحاتِ، كما يتصوّر كثيرون من الباحثين والدارسين!
وقد توصّلتُ إلى أنّهم كانوا يطلقون كلماتهم،
من دون استجماعٍ لأطراف المسألةِ، في كثيرٍ من الأحيانِ، ولذلك قلتُ مرّاتٍ
عديدةً: أنا الفقير أعدُّ أقوالَ المحدّثين في الجرح والتعديل استئناسيّةً، وليست
إلزاميّة، ومثل ذلك أقوالهم في علل الحديث!
وقد تكلّمت على ذلك في منشورٍ سابق، لكنْ على
سبيل التوضيح؛ أقول:
اختلف علماء الحديثِ في الحديثِ الفرد المطلق،
يُحتجُّ به، أم لا يُحتجُّ به، على أربعةِ أقوال:
الأوّل: يُحتجّ به إذا رواه ثقة أو صدوق!
الثاني: لا يحتج به مطلقاً.
الثالث: يحتجّ به إذا رواه حافظ!
الرابع: يحتجّ به إذا كان التفرد في الطبقة
الأولى والثانية من التابعين، ولا يحتجّ به إذا كان التفرّد في الطبقات المتأخّرة!
فلو جاء باحثٌ وقال: لا أحتجّ بالفرد المطلق
أبداً!
وجاء آخر وقال: أحتجّ بالفرد المطلق دائماً.
فما الأمرُ الذي يلزم هذا أو ذاك، بخلاف رأيه؟
لا شيءَ أبداً، سوى التقليدِ والتحكّم!؟
واللهُ تَعالى أعْلمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.