الخميس، 30 ديسمبر 2021

 التَصَوُّفُ العَليمُ (11):

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

العاقِبَةُ للتَقْوى ؟!

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في أيّام مرضي الأخير الذي جاوز ستين يوماً؛ أرشدني أحدُهم إلى التخفيف عن نفسي، فأشاهد مسلسلَ «بُهلول - أعقل المجانين» الذي انتهيتُ من مشاهدة آخر حلقة منه قبل قليل!

قال ابن الجوزيّ في المنتظم (9: 154) في حوادث سنة ثمان وثمانين ومائة: «وفي هذه السنة حجّ هارونُ الرشيدُ، وهي آخر حجة حجها الرشيد، ولقيه بهلول في الطريق، فوعَظَه!

أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد أبو الغنائم بن ميمون الزينبي قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن علي بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: حدثنا زيد بن الحاجب قَالَ: أخبرنا محمد بن هارون قَالَ: حدثنا علي بن الحَسَن قَالَ: حدثنا علي بن إبراهيم الكرخي قَالَ: حدّثنا محمد بن الحسن الحراني قَالَ: حدثنا أحمد بن عبداللهِ القزوينيُّ عن الفضل بن الربيع قَالَ: حججت مَعَ هارون الرشيد، بالكوفة، فإذا بُهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت، فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت!

فلمّا حاذاه هودَجُ هارون؛ قَالَ: يا أمير المؤمنين:

حدّثنا أيمنُ بْنُ نابل قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِاللهِ الْعَامِرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنًى عَلَى جَمَلٍ، وَتَحْتَهُ فمررنا رَحْلٌ رَثٌّ، وَلَمْ يَكُنْ ثُمَّ طَرْدٌ، وَلا ضَرْبٌ، وَلا إِلَيْكَ إِلَيْكَ).

قال الفضل: قُلْتُ: يا أميرَ المؤمنين، إنه بهلول المجنون، قَالَ: قد عرفتُه!

قل يا بهلول!

فَقَالَ هارون: يا أمير المؤمنين:

فهَبْ أنْ قَد مَلَكْتَ الأرضَ طُرّاً ... ودانَ لك العبادُ، فكان ماذا؟

أليس غداً مَصيرُك جَوفُ قَبْرٍ ... ويَحثو التُرْبَ هذا ثمّ هذا

قَالَ: أجدتَ يا بُهلول، أفغيره؟

قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، مَن رَزقه اللهُ جَمالاً ومالاً، فعَفَّ في جماله، وواسى في مالِه؛ كُتِبَ في ديوان الأبرارِ.

قَالَ الفضل: فظن هارونُ أنّ بهلولاً يُريد شيئاً، فقالَ: فإنّا قد أَمرنا بقضاءِ دَينك.

قَالَ: لا تَفعلْ يا أميرَ المؤمنين، لا تَقْضِ دَيناً بدَين، اُرْدُد الحقَّ إلى أهْلِه، واقْضِ دَينَ نَفسك من نفسك.

قَالَ الرشيدُ: إنّا قد أمَرنا أنْ يُجرَى عَليك «عطاء معلوم».

قَالَ: لا تَفْعَلْ يا أميرَ المؤمنين، لا يُعطيكَ «يعني الله» شيئاً وينساني، أَجري على الذي أَجْرَى عليك، لا حاجةَ لي في جِرايتكَ».

وحديث قدامةَ العامريّ؛ أخرجه أحمدُ والدارميّ وابن ماجه والنسائيّ، والترمذيُّ في الحجّ (903) وقال: حديث حسن صحيح !

رَحْلٌ رَثّ: سَرْجٌ قديم غير جيّد.

طَرْدٌ ولا ضربٌ: لم يكن الصحابة المقرّبون يطردون الناسَ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يضربونهم ليبتعدوا من أمامِ وحولِ الرسول.

إليك إليك: اسمُ فعلِ زَجرٍ، بمعنى تنحَّ وتباعَدْ!

وبهلولٌ يقصد برواية هذا الحديثِ تحذيرَ هارون الرشيد من هذه الأفعال التي تركتبها حاشيات الملوك والسلاطين المتجبّرين!

وبهلولٌ هذا ترجمه الذهبيُّ في تاريخ الإسلام (4: 818) فقال: « البُهْلُولُ الْمَجْنُونُ. هُوَ البُهْلُولُ بْنُ عَمْرٍو، أَبُو وُهَيْبٍ الصَّيْرَفِيُّ الْكُوفِيُّ.

وُسْوِسَ فِي عَقْلِهِ، وَمَا أَظُنُّهُ اخْتَلَطَ، أَوْ قَدْ كَانَ يَصْحُو فِي وَقْتٍ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي عُقَلاءِ الْمَجَانِينِ، لَهُ كَلامٌ حَسَنٌ وَحِكَايَاتٌ.

وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، وَأَيْمَنَ بْنِ نَابُلٍ.

وَمَا تَعَرَّضُ لَهُ مترجموه بِجَرْحٍ وَلا تَعْدِيلٍ، وَلا كَتَبَ عَنْهُ الطَّلَبَةُ.

كَانَ حَيًّا فِي دَوْلَةِ الرَّشِيدِ، طوّل ابْنُ النَّجَّارِ في ترجمته، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَتَى بَغْدَادَ».

وساق الذهبيّ بعضَ أخباره الرائعة!

قلت: لم يطوّل ابن النجّار في ترجمته، كما في ذيل تاريخ بغداد، إنما هي صفحتان!

لكنّ الذي طوّل في ترجمته، وساق جملةً من أخباره؛ ابنُ حبيب النيسابوريّ كما سيأتي قريباً.

وقد لقي سفيانُ بن عيينة بُهلولاً، قال: قلت لبهلول المجنون: يا بُهلولُ عِظني!

فقال: «الملوك، هذه قصورهم، وهذه قبورهم» كما في عقلاء المجانين للضرّاب (6).

وساق ابن حبيب النيسابوريّ كثيراً من أخباره في كتابه عقلاء المجانين (ص: 67 - 74) ومنها هذه الأبيات الجميلة:

حَقيقٌ بالتَواضُع مَن يَموتُ ... وحَسب المرء مِن دنياه قوتُ

فما للمرء يُصبح ذا اهتمامٍ ... وشُغلٍ لا تقوم له النُعوتُ

صَنيع مَليكنا حسنٌ جميلٌ ... وما أرزاقنا ممّا يَفوتُ

فيا هذا سَترحلُ عَن قَريبٍ ... إلى قومٍ كلامُهُم السكوتُ.

قال الذهبيّ: «لم أقف لبهلول على تاريخ وفاة» لكنه ترجمه في طبقة هارون الرشيد، المتوفّى سنة (193 هـ) وذكر ابن الجوزيّ أنّ هارون الرشيد لقيه في الكوفة، في طريقه إلى الحجّ سنة (188 هـ).

فنقول: كان حيّاً سنة (188 هـ) والله تعالى أعلم متى تُوفّي بعد ذلك!

أقول: نصحت بعضَ أهلي بمشاهدة هذا المسلسل، فسألتني: هل الوقائع التي ذكروها في المسلسل صحيحةٌ كلّها؟

فأجبتُها: بهلولٌ حقيقةٌ تاريخيّة، وكونه من عقلاء المجانين؛ حقيقةٌ أخرى، واشتهاره بالزهد والوعظ المؤثّر؛ حقيقةٌ ثالثة، وما ورد في المسلسل منسوباً إلى بهلولٍ كلّه مفيدٌ ونافع، وباعثٌ على الخير، وحاثٌّ على التقوى والمسارعة في الخيرات.

مع التأكيد على أنّ كثيراً من الأحداث الواردة في المسلسل؛ لا تثبت تاريخيّاً.

فأنتِ تحتاجين إلى مَن يأخذ بيدك إلى الخير، وهذا المسلسل يقودك إلى ذلك، بل يسوقك إليه سوقاً.

رحم الله عبدَه الزاهدَ بهلولَ بن عَمرٍو رحمةً واسعةً، وألحقنا به في الصالحين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق